المرأة التي علَّمَت البشرية معاني الإيمان
السيدة هاجر أُمُّنا أُم المسلمين شخصية فريدة، كلما دار الزمان واستقبلنا مناسك الحج أو العمرة تثور في نفوسنا ذكريات هذه الشخصية العظيمة. وليس غريبًا أن يقص رسول الله صلى الله عيه وسلم على أصحابه -بوحي من الله تعالى- تفاصيل هجرة هاجر مع زوجها أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام. وأن يقص عليهم بالتفصيل وقائع أيامها الأولى بوادٍ غير ذي زرعٍ فيه وحشة المكان، ووحشة الأهل، ووحشة الزوج.
السيدة هاجر أُمُّنا أُم المسلمين شخصية فريدة، كلما دار الزمان واستقبلنا مناسك الحج أو العمرة تثور في نفوسنا ذكريات هذه الشخصية العظيمة. وليس غريبًا أن يقص رسول الله صلى الله عيه وسلم على أصحابه -بوحي من الله تعالى- تفاصيل هجرة هاجر مع زوجها أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام. وأن يقص عليهم بالتفصيل وقائع أيامها الأولى بوادٍ غير ذي زرعٍ فيه وحشة المكان، ووحشة الأهل، ووحشة الزوج.
أُمُّنا هاجر التي نشأت في مصر بلاد النيل والمياه والخضرة والمدنية والحضارة، ثم انتقلت إلى الشام بلاد الروضات والعيون والجو الرائق والنسائم الصافية، ها هي تؤخذ إلى مكانٍ قفرٍ جدبٍ خالٍ من أسباب الحياة المعهودة. ويتركها زوجها الحبيب وحدها برضيعها لعلةٍ غيرِ واضحةٍ ولحكمةٍ غير متصورة، فلا تزيد على أن تسأله قبل رحيله هذا السؤال العميق:
- "آلله أمرك بهذا؟".
فلم ينطق بالجواب وإنما اكتفى بالإشارة برأسه [أي: نعم]. فقالت كلمة ملؤها الإيمان واليقين والتوكُّل:
- "إذن لا يُضيِّعنا".
ويرحل إبراهيم عليه السلام -امتثالًا لأمر ربه- دون أن يلتفت إلى أسرته الصغيرة الوحيدة، ولمَّا غاب عن نظرهم ابتهل إلى الله تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37]. وولَّى راجِعًا إلى الشام.
كيف كانت أول ليلةٍ في حياة هاجر الجديدة؟! ومعها مسئولية ولدها، وأمامها مستقبل لا تكاد تتبيَّن شيئًا من ملامحه. وليس حولها بشرٌ تأنس بهم وتطمئن إلى جوارهم. لا نعرِف كيف مرَّت عليها أول ليلة، لكن كلماتها الأخيرة لإبراهيم عليه السلام توحي بطمأنينتها لجوار ربها وأنها كانت تأوي إلى ركنٍ شديد.
لقد كان أمامها الصبر على حاجات الحياة الأساسية ومتطلبات المعيشة التي لا غنى عنها، فلا بيت.. ولا أثاث.. ولا أدوات.. ولا طعام.. ولا شراب.. ولا شيء! ومن وراء هذا كله لا أسباب ظاهرة للحياة كما عهدتها في مصر أو الشام.
وعندما ينفد السِّقاء الذي معها وينضب الرضاع في صدرها، وترى ولدها يُشرِف على الهلاك، ابتعدت عنه وهي تراه يتلوَّى ويتلبَّط كراهية أن تنظر إليه في هذا الحال، انتفضت تسعى بين جبلي الصفا والمروة شوطًا بعد شوط. عِدَّة كيلو متراتٍ تركض بينهما تبحث عن غوث لوليدها الأثير، ومسئوليتها التي لا يشاطرها فيها أحد.
كل مرةٍ يسعى الحاج والمعتمِر بين الصفا والمروة، قصَد الشرع أن تصله تلك الذكريات المباركة لهذه المرأة المباركة وهي تسعى وحيدة.. في وادٍ تحيط به جبالٍ شاهقةٍ وسكونٍ مُخيف. وفي آخر الشوط السابع وقفت تلهث عند المروة، وإذا بصوتٍ غير واضح، فأصغت وقالت: "صه" -تريد نفسها- ثم تسمَّعت فسمِعت الصوت الخفيض مرةً أخرى، فقالت: "قد أسمعت إن كان عندك غواث" فإذا هي بالمَلك عند موضع زمزم..
فبحث بعقبه أو بجناحه حتى رأت الماء ينبع ويتفجَّر، فجعلت هاجر تحوضه وجعلت تغرِف الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف.
لحظاتٌ غريبة.. مرَّت على هاجر، اتصل كيانها البشري الضعيف بصوت جبريل عليه السلام. وطاقة البشر أضعف من أن تَسمِع أو تُبصِر الملائكة الكرام. وها هي تسمع جبريل عليه السلام يُخاطِبها: "لا تخافوا الضيعة فإن ههنا بيتًا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يُضيع أهله". وصدَّقت هاجرُ ربَها فصدقها ربُها، وعاملها بنيَّتها وإيمانها وأتاها الجواب مطابقًا تمامًا لما قالته عند رحيل زوجها، قالت "إذن لا يُضيعنا الله" فأكد لها الملك الكريم "وإن الله لا يُضيع أهله".
هاجر مثلٌ أعلى لكل زوجة ضُيِّق على زوجها في الرزق فتصبِر معه سنوات محتسِبة راضية، ومثل أعلى لكل داع إلى الله أبعدته دعوته عن أهله ووطنه ومألوفاته، ومثل أعلى لكل مؤمن يثق أن صلاحه وفوزه في امتثال أمر الله وإن كانت عينه ترى غير ذلك وإن كان عقله يقصر عن إدراك حكمة الأمر ومغزاه، وهي أيضًا مثلٌ أعلى لكل مسلمٍ مكلَّفٍ بالأخذ بالأسباب المباحة المتاحة وهو متوكِّلٌ على الله واثق به، ويأخذ بالأسباب قدر طاقته ويستفرغ فيها وسعه وجهده.
وأقامت هاجر بولدها إسماعيل عليهما السلام إلى جوار بئر زمزم، وظلت هكذا ما شاء الله لها أن تمكث، ربما شهورًا أو سنوات، حتى مرَّت بهم رفقةً من قبيلة جُرهُم أو أهل بيت من جُرهُم مقبلين من طريق كِداء.. فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرًا عائفًا فقالوا لأنفسهم: إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا رجلًا أو رجلين فإذا هم بماء زمزم، فرجعوا فأخبروهم فأقبلوا وأُم إسماعيل عند الماء فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزِل عندك؟
وسؤالهم ينمُ عن أخلاقٍ عاليةٍ رفيعةٍ عند العرب، فهذه قافلة تمرُّ بامرأةٍ وحيدةٍ غريبة، يستطيعون بسهولةٍ أن يُزيلوها من على هذا الكنز، والماء قوام الحياة خاصةً في صحراء قاحلة.
ولهذا أتى بعد ذلك بقرونٍ طويلةٍ من نسلِ إسماعيل عليه السلام، أتى سيد البشر صلى الله عليه وسلم فقال: « » (رواه الإمام أحمد وغيره).
بعثه الله ليُتمِّم أخلاقًا كانت بعضها كريمة بالفعل عند العرب. استأذنت القافلة هاجر فأذنت لهم، لكنها اشترطت عليهم وقالت: "نعم ولكن لا حق لكم في الماء!"، أي أنها أذنت لهم بحق الانتفاع فقط، وليس بملكية البئر. وإن المرء ليعجب من هذا الوعي الفطري، وحسن إدارتها لشئونها، فقد عقدت عقدًا مع تلك القافلة فيه حصافةٌ وحُسنُ إدارةٍ للموارد -بلغتنا الحديثة-.
ووعيها وحُسن تصرُّفها عطاءٌ من الله ببركة إيمانها ويقينها بالله تعالى. وافقت القافلة على شرط هاجر وقالوا: نعم.
فرِحَت أُمُ إسماعيل وهي تُحِب الأُنس، فنزلوا فأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كانوا بها أهل أبيات وكونوا أول تجمُّع للبلدة المباركة، مكة المكرمة. وشبَّ إسماعيل عليه السلام وتعلَّم العربية منهم وأنفسَهم وأعجبهم حين شبّ..
وما أن استقر المقام بهاجر وابنها وصار لهم جيران يأنسون بهم ويتعاملون معهم، وما أن بدت الدنيا قد أينعت واستقرت، فإذا بلاءٌ عظيمٌ يهبِط عليهم، وإذا بإبراهيم عليه السلام يزورهم بعد سنوات ليرى ابنه الحبيب قد شبَّ وبلغ مبلغ السعي، ومع الأشواق الإنسانية الحارَّة ومع اللقاء الذي كان بعد فراق سنوات، وفي اللحظة التي ظنت هاجر أن سعادتها ستتم وتكتمِل بالتئام شملِ أسرتها؛ إذا بإبراهيم عليه السلام يُخبِرهم بسبب مجيئه وهو أمر الله تعالى له أن يذبح ابنه الوحيد.
ابنه الذي ضحَّت أُمّه في تربيته وتنشئته في غربةٍ ووحشة، يأتيها الخبر المباغِت بالأمر بذبحه وبيدِ زوجها عليهما السلام.
وربما كان هذا البلاء العظيم أشدّ وطأةً عليها من تركها أول مرةٍ وحيدةٍ غريبةٍ بوادٍ غير ذي زرع. ولكن هذه المرأة المباركة تُعلِّم البشرية مرةً أخرى معاني الإيمان والثقة بموعود الله تعالى، فتصبِر وتحتسِب وترى.. ويزداد يقينها على الحقيقة الخالدة: "إن الله لا يُضيع أهله".
- التصنيف: