لا تحزن - مفهومُ الحياةِ الطَّيِّبةِ (2)

منذ 2014-05-25

كان منشرحَ الصدرِ، ومنثلج الخاطرِ، فعندهُ ما يحتاجُه من الدنيا، أمّا ما زاد على حاجتِه، فأشغالٌ وتبِعاتٌ وهمومٌ وغمومٌ.

ابنُ تيمية شيخُ الإسلامِ، لا أهل ولا دار ولا أسرة ولا مال ولا منصب، عندهُ غرفةٌ بجانبِ جامعِ بني أمية يسكنُها، ولهُ رغيفٌ في اليومِ، وله ثوبانِ يغيِّر هذا بهذا، وينامُ أحياناً في المسجدِ، ولكنْ كما وَصَف نفسه: جنَّتُه في صدرِه، وقتْلُه شهادةٌ، وسجْنه خِلْوةٌ، وإخراجهُ منْ بلدِهِ سياحةٌ؛ لأن شجرة الإيمانِ في قلبِهِ استقامتْ على سُوقِها، تُؤتي أُكُلَها كلَّ حينٍ بإذنِ ربِّها يمُدُّها زيتُ العنايةِ الربانيةِ، {يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ}، {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ }، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ}، {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ}.

خرج أبو ذرٍّ رضي اللهُ عنه وأرضاهُ إلى الرَّبذةِ، فنصب خيمتهُ هناكَ، وأتى بامرأتِه وبناتِهِ، فكان يصومُ كثيراً من الأيامِ، يذكُرُ مولاهُ، ويسبِّحُ خالقهُ، ويتعبَّدُ ويقرأُ ويتلو ويتأمَّلُ، لا يملكُ من الدنيا إلا شمْلةً أو خيمةً، وقطعةً من الغنمِ مع صحْفةٍ وقصْعةٍ وعصا، زارَهُ أصحابُه ذات يوم، فقالوا: أين الدنيا؟ قال: في بيتي ما أحتاجُه من الدنيا، وقدْ أخبرنا صلى الله عليه وسلم أنَّ أمامنا عقبةً كؤوداً لا يجيزُها إلا المُخِفُّ.

كان منشرحَ الصدرِ، ومنثلج الخاطرِ، فعندهُ ما يحتاجُه من الدنيا، أمّا ما زاد على حاجتِه، فأشغالٌ وتبِعاتٌ وهمومٌ وغمومٌ.
قلتُ في قصيدةٍ بعنوان: أبو ذرٍّ في القرن الخامسِ عَشَرَ، متحدِّثاً عنْ غُربةِ أبي ذرٍّ وعن سعادتِه، وعن وحدتِه وعزلتِه، وعن هجرتِه بروحِه ومبادئِه، وكأنه يتحدثُ عن نفسِه:

لاطفُوني هدَّدْتُهم هدَّدُوني *** بالمنايا لاطفتُ حتى أحسَّا
أركبُوني نزلتُ أركبُ عزْمي *** أنزلُوني ركِبتُ في الحقِّ نفْسا
أطرُدُ الموت مُقْدِماً فيُولِّي *** والمنايا أجتاحُها وهْي نعْسَى
قد بكتْ غربتي الرمالُ وقالتْ *** يا أبا ذرٍّ لا تخفْ وتأسَّا
قلتُ لا خوف لم أزلْ في شبابٍ *** مِنْ يقيني ما مِتُّ حتى أُدسَّا
أنا عاهدتُ صاحِبِي وخليلي *** وتلقَّنْتُ منْ أمالِيهِ درْسا

عائض بن عبد الله القرني

حاصل على شهادة الدكتوراة من جامعة الإمام الإسلامية

  • 1
  • 0
  • 2,302
المقال السابق
مفهومُ الحياةِ الطَّيِّبةِ (1)
المقال التالي
ما هي السعادة (1)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً