الحقيقة - (2) هل أنتم منتهون؟
استشعارِ رقابةِ اللهِ على حياتِك أيها الفرد حتى كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك وتلك أعلى مراتب الإيمان وهي مرتبة الإحسان، وتلك أعلاها لدى الرحمن، وهي رسوخ القلب في العرفان.. حتى يكون الغيب كالعيان، بل هي هيمنةُ الدينِ على الحياة كلها عقيدةً وشريعة، عبادةً ومعاملة، خُلقًا ونظامًا، رابطةً وأُخوة.
فما حقيقةُ تلك الكلمة يا عباد الله؟
إنها هيمنةُ استشعارِ رقابةِ اللهِ على حياتِك أيها الفرد حتى كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك وتلك أعلى مراتب الإيمان وهي مرتبة الإحسان، وتلك أعلاها لدى الرحمن، وهي رسوخ القلب في العرفان.. حتى يكون الغيب كالعيان، بل هي هيمنةُ الدينِ على الحياة كلها عقيدةً وشريعة، عبادةً ومعاملة، خُلقًا ونظامًا، رابطةً وأُخوة.
هيمنَةً كما أرادها الله تجعلُ الحياةَ خاضعة في عقيدة المسلم وتصوره لله، لا يند منها شاردة ولا واردة ولا شاذة ولا فاذة.
هيمنةُ تُسلِّم النفسَ كلَها لله، حتى تكون أفكارَ ومشاعرَ وأحاسيسَ وسلوكًا، محكومةً بوحي الله فلا تخضع لغير سلطانه، ولا تحكم بغير قرأنه، ولا تتبعُ غير رسولِه، لا يحركُها إلا دينُ الله، تأتمرُ بأمر الله وتنتهي عن نهيه، مُتجرِّدةً من ذاتها متعلقةً بربها وحالُ صاحبِها:
خضعت نفسيَ للباري فسدوا الكائنات *** أنا عبدُ الله لا عبدُ الهوى والشهوات
فهِم هذا أصحابُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فصاغوه واقعًا حيًا نابِضًا، انفعلت بهِ نفوسُهم فترجموه في واقعِ سلوكُهم، صِرتَ ترى شرع الله يدبُ على الأرضِ في صورةِ أناسٍ يأكلون الطعام ويمشونَ في الأسواق.
إذا ما دُعو للهدى هرولوا *** وإن تدعُهم للهوى قرفصوا
روى الإمام البخاري عن أنس رضي الله عنه أنه قال: "كنتُ ساقي القوم في بيتِ أبي طلحة -يعني الخمر- وإني لقائمُ أسقي فلانًا وفلانًا وفلانًا، إذ جاء رجلٌ فقال هل بلغَكم الخبر؟ قالوا وما ذاك؟! قال لقد حُرِّمتِ الخمر، وقد أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مناديًا ينادي ألا إن الخمرَ قد حُرِّمت، فقالوا: أهرق هذه القلال يا أنس".
فما سألوا عنها، ولا راجعوها بعد خبرِ الرجل، وما دخلَ داخلٌ ولا خرجَ خارج حتى اهراقوا الشراب وكُسِرتِ القلال، ثم توضأ بعضهم واغتسل بعضهم ثم أصابوا من طيب أم سليم ثم خرجوا إلى المسجدِ يخوضونَ في الخمر قد جرت بها سِكِك المدينة، فقد تواطئت المدينة كلها على تحريمه.
فلما قرأت عليهم الآية: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ}؟
بعض القوم كانت شربته في يده فلم يرفعها لفيه بل أراق ما في كأسه وصب ما في باقيته وقال انتهينا ربنُا انتهينا. لم يقولوا تعودنا عليه منذ سنين وورثناها عن آبائنا كما يفعل بعض مسلمي زماننا.
ما تكوَّنت عصاباتٌ لتهريب المخدرات لأن الدين هيمن على حياتهم فاستشعروا رقابةَ ربِهم فبادروا في يسرٍ إلى تنفيذه امتثالًا لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن النبيَ صلى الله عليه وسلم، يأمر أهلَ المدينة أن لا يُكلِّموا كعبًا حين تخلَّف عن تبوك. فإذا الأفواه ملجمةٌ لا تنبسُ ببنت شفةٍ، وإذا الثغور لا تفترُ حتى عن بسمة. بل إن ابن عمّه وحميمَه وصديقَه أبا قتادة، نعم لما آتاه ليُسلِّمَ عليه كعب ما ردَّ عليه السلام، فاستعبرت عينا كعبٍ رضي الله عنه ورجع كسير البال كاسف الحال. فأمرُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عند هؤلاء القوم فوق كل خُلة.
ثم انظر إليهم لمَّا نزلت توبةُ اللهِ على هذا الرجل، على كعبٍ رضي الله عنه وأرضاه.
تتحرَّكُ المدينةِ وتنتفضُ عن بُكرةِ أبيها إلى كعب فإذا الأفواه تلهج له بالتهنئةِ وقد كانت ملجمة، وإذا الثغور تفتروا عن بسمات مضيئة صادقة وقد كانت عابسة.
نفوس لا يُحرِّكها إلا دينُ الله حالها:
ما بعت نفسي إلا لله عز وجلَ *** فمن تولى سواه يوله ما تولىَ
إنهم لم يقفوا عند امتثال أمره واجتناب نهيه؛ بل تابعوا أفعال المصطفى صلى الله عليه وسلم ولاحظوا تصرُّفاته بكل دقة وشوق وحرص على الاقتداء، حتى إذا ما فعل شيئًا سارعوا إلى فعله مباشرة لأنهم يعلمون أن سنته سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلَّف عنها هلك.
ثبت عند أبي داود في سننه عن سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلِّي بأصحابه إذ خلع نعليه فألقاهما عن يساره. فلما رأى ذلك أصحابه رضوان الله عليهم ألقوا نعالهم. فلما قضى صلى الله عليه وسلم صلاته قال: «
»، قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا".توحيد في الاتباع:
فمن قلَّد الآراء ضلَّ عن الهدى *** ومن قلَّد المعصوم في الدين يهتدي
بل كان الناس إذا نزلوا منزلًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره تفرَّقوا في الشعاب والأودية، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: «
» (رواه النسائي). فما نزلوا بعد ذلك منزلًا إلا انظمّ بعضهم إلى بعض حتى لو وضع عليهم بساط لعمَّهم.تنفيذ في يُسرٍ وطاعةٍ وامتثال، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب.
هم ذلك السلف الذين لسانهم *** تنحط عنه جميع اللسنة الورى
تلك العصابة من يحد عن سبيلها *** حقًا يقال لمثله أطرف كرى
مما سمعتم أيها المؤمنون يتجلَّى لنا مظهرُ أفرادِ المجتمعِ المسلم في ظلِ إدراكهمُ الصحيحُ لمفهوم الإسلام، فليستِ المسألةُ عندَهم فرائضَ يفرِضها هذا الدين على الناس بلا موجبٍ إلا رغبةُ التحكمِ في العباد.
بل هيَ مسألة وجودِ الإنسانِ إذا رغبَ أن يكونَ إنسانٍ حقًا، لا مجرَّدَ كائنٍ يأكلُ الطعامَ ويشربَ الشرابَ، ويقضي أيامَه على الأرضِ كيفما اتفق، بل هيَ وضعُ للإنسانِ في وضعه الصحيح كإنسان يستشعر رقابة المولى وتلك هي حقيقةُ التقوى.
- التصنيف:
- المصدر: