تدبر - [34] سورة النساء (9)
صاحبنا هذا نموذج للتراخي والتثاقل في نفسه، والتعويق والإثقال لغيره، كلَّمنا الله عن تثاقله مِرارًا فقال في سورة التوبة مُحذِّرًا من فعله: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ}، وكلَّمنا عن تعويقه لغيره في سورة الأحزاب فقال: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلًا}..
{وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ}
{مِنكُمْ}؟!
هل هذا الصنف موجود بيننا؟!
بين المسلمين دون أن يشعروا؟!
نعم..
هناك بيننا من يبطِّئ..
ويبطِّئ هنا على قولين لأهل التفسير؛ "يبطِّئ نفسه، ويبطِّئ غيره"، والأرجح أن المعنيين تحتملهما الآية الكريمة.
وصاحبنا هذا نموذج للتراخي والتثاقل في نفسه، والتعويق والإثقال لغيره، كلَّمنا الله عن تثاقله مِرارًا فقال في سورة التوبة مُحذِّرًا من فعله: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [النساء من الآية:38]، وكلَّمنا عن تعويقه لغيره في سورة الأحزاب فقال: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلًا} [الأحزاب:18]..
إنه نمط بطيء مُعوَّق في نفسه معوِّق لغيره خطورته على الأمة تكون أحيانًا أشد من خطورة أعدائها!
لذا.. قال الله عن أمثاله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة من الآية:47]..
ويا ليت هذا الصنف العاجز المتخاذل اكتفى بعجزه وتكاسله وتخذيل غيره وتعويقهم وغرُب عن عاملي الأمة بوجهه المتراخي ونفسه المثبطة..!
لكنه للأسف لم يفعل..!
بل مدَّ عينيه وبدأ يراقب بخسةٍ عجيبة ما سيؤول إليه واقع لم يشارك في صُنعه ولم يُسهِم في بنائه، فإذا ما وقعت مصيبة -كما حدث يوم أُحد مثلًا- فرح بمقعده خلف المؤمنين، وسرَّته نجاته وأعجبه تخاذله..!
وإذا جاء النصر وحان وقت الغنائم سارع إليه مُتلهِّفًا وقد سال لعابه على عَرض من الدنيا قليل..!
وأشد ما يُثير التقزُّز في فرحته أنه نسب ذلك لله جل وعلا، واعتبرها نعمة من عنده فقال: {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء من الآية:72]!
نُكِست فطرته وتشوَّهت نفسيته السلحفائية حتى اعتبر الحرمان من الشهادة في سبيل الله نعمة من الله!
وتزداد دناءة الرجل السلحفاة ويتجلَّى قُبح نذالته وخِسَّته حينما يتحوَّل الواقع إلى نصرٍ مؤزَّر بفضل الله فيشهد الغنيمة، وتستشرف نفسه لها، ويسيل لعابه لتحصيلها، فيعد الفوز العظيم فقط في إحراز ثواب الدنيا فيقول: {كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء من الآية:73]!
ألم تكن تقول من قبل أيها السلحفاة أن البُعد عنهم غنيمة والنجاة مما أصابهم نعمة وفضل؟!
لماذا صارت الأمنية الآن أن تكون معهم فعددت ذلك فوزًا عظيمًا؟!
الجواب واضح..
إنها الدنيا التي لا يشغل بالك إلا هي، ولا تشتهي نفسك إلا متاعها..
هذا هو نموذج المتكاسل الذي لا يبتغي إلا الغنيمة السهلة..
{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَّاتَّبَعُوكَ وَلَٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} [التوبة من الآية:42]..
صِنفٌ لا يكون معك إلا بعد بدر ينهل من الأنفال، أو في فتح مكة لينال من المغانم، ولا يُقرِّبك بل يؤذيك ويعوقك في يوم مثل يوم أُحد!
هذه النفسية البطيئة والشخصية المتخاذلة من أبشع الآفات التي تُهدِّد الأمة وتفتُّ عضدها.. نفسية السلحفاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتابي (العودة إلى الروح).
- التصنيف: