تدبر - [51] سورة الأنعام (6)
على حين جرت العادة بين الخلائق قرونًا قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم، بهذه العقيدة الشاملة الكاملة؛ أن يوجه الناس ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، وأن ينعزل الدين عن الحياة، ويظل حبيسًا بين جدران دُور العبادة، فلا يعود يُذكر إلا حين الحاجة إليه..
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]..
إنها بحق نقلة فكرية وروحية هائلة، من عقيدة شاذة، وتصور للدين شائه مُقزَّم منقوص، إلى عقيدة راقية، وتصور للدين واضح كامل متكامل جليل..
على حين جرت العادة بين الخلائق قرونًا قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم، بهذه العقيدة الشاملة الكاملة؛ أن يوجه الناس ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، وأن ينعزل الدين عن الحياة، ويظل حبيسًا بين جدران دُور العبادة، فلا يعود يُذكر إلا حين الحاجة إليه..
وعلى حين جرت العادة أن يُنظر دائمًا إلى الدين على أنه فقط شعائر تعبدية، لا علاقة لها بمعايش الناس ولا بمعاملاتهم، وأن تقتصر على صلاة وذكر ودعاء ونُسك -أي ذبح- وما كان على ذلك النسق، من ملامح العبودية وأمثلتها..
جاء الإسلام بدينٍ يَعبر حدود الجدران والصدور، منتظمًا كامل الحياة، ومهيمنًا على جميع ملامحها ومجالاتها وأنشطتها على السواء؛ تصورٌ لم يعرفه العرب قبل البعثة..
ولا تصورته الأمم في سالف الأديان..
هذه الآية العظيمة تَفاجئ أصحاب تلك الأفكار الإقصائية -للدين- بمعنى مباين تمامًا لِما يظنونه ويهوونه، بل وتستريح إليه نفوسهم الأمَّارة بالسوء، المحجوبة عن شهود حقيقة العبودية الجامعة..
إنها تُفاجِئهم بأن الدين منظومة حياة كاملة شاملة..
وأن الحالة التي أشار إليها الجنيد، عن العبد الذى يتكلَّم وينطق ويتحرَّك لله وبالله، ليست خيالًا نظريًا، ولا دروشة أو تكلُّف، بل هي حقيقة شرعية واقعية على أرض العبودية المشروعة والربانية!
أن يكون المحيا لله، والممات لله، وليس فقط النُسك والصلاة..
والحياة في سبيل الله شأن آخر..
أن يصبغ المرء توجهه بمرضاة الله؛ أن يكون هدفه إرضاء ربه، في كل سكناته، وحركاته، ومعاملاته وصمته، وكلماته، هذه هي الحياة لله!
ولقد تحمَّل من يعيشون لله ما لا يتحمَّله غيرهم ممن لا يستقر في قلوبهم هذا المعنى السامي الأصيل..
وهل كان نوح عليه السلام ليطيق سخرية واستضعافًا، ويصبر على لأواء الدعوة وتكاليفها ألف سنة إلا خمسين عامًا، لولا أنه عاش هذه الأعوام الألف مع الله وبالله ولله؟
وهل كان يوسف عليه السلام ليصبر على السجن، بل ويُصرِّح أنه أحب إليه من لذيذ عيش فيه عصيان لمولاه، لولا أنه رجل يحيا بالله ولله ومع الله؟
وهل كان إبراهيم عليه السلام ليواجه قومه ويصبر على أذاهم وبطشهم، لولا ذلك؟
وهل كان أيوب عليه السلام ليتحمَّل أعوامًا من الضُر والمرض والآلام، لولا أنه عاشها في أنس بمولاه؟
وغيرهم ممن أدركوا أنه كما أن الأمر كله لله، والفضل كله بيد الله، فإنما تكون الحياة كلها لله ومع الله وبالله..
إنه المعين الروحي والزاد الإيماني الذي سهل على أمثال هؤلاء ممن عاشوا لله، أن يكون موتهم في سبيله ولأجله، كخيار أوحد، ودون أدنى تردَّد..
ثم يختم المعنى القرآني الأخَّاذ بقوله: {لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163]..
ففارق كبير بين من تمزَّقت حياته بين شركاء متشاكسين؛ من درهمٍ ودينار وشهوة وشبهة، وبين من وجد وجهته، وعرف طريقه، فسارع إليه، ولم يكتفِ بمجرَّد المعرفة والمسارعة، وإنما آثر السبق واختار أن يكون بين السابقين الأولين المكرمين إلى تلك المِلَّة الكاملة المتكاملة، والمنظومة الجامعة الشاملة فتنعَّم بالحياة لله وبالله ومع الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتابي: (العودة إلى الروح).
- التصنيف: