تدبر - [206] سورة طه (7)
لقد ألقي السحرة سجدًا لما رأوا تحول العصا إلى ثعبان، فما الفارق بين هذا التحول والتحول من نطفة إلى إنسان؟! إنه إلف العادة الذي يغفل المرء تدبر تلك الآيات المرئية، التي من خلالها عرف موسى سائله بربه {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى} [طه:53].
ومعرفة الله جل وعلا لها وسائل وسبل، من خلالها يستطيع المرء أن يتعرف بها على مولاه وسيده ومليكه، وذلك من خلال ثلاثة سبل رئيسية:
١. أن يعرفك هو بنفسه من خلال وحيه أو آياته المقروءة.
٢. من خلال آياته المرئية.
٣. من خلال معاملته.
وتلك السبل والوسائل لا تخلو منها سورة طه. ففي السورة يعرفك الله بنفسه من خلال وحيه المنزل و آياته المقروءة التي فيها ذكر لأسمائه وصفاته ونعمه وآلائه، والسورة تحتشد بذلك النوع من أولها إلى منتهاها {تَنزِيلا مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى . الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى . لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى . وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:4-7]، وتختم تلك المجموعة من الآيات بتوحيده والإشارة إلى مجمل أسمائه الحسنى {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} [طه:8].
وفي السورة نجد أولى كلمات الله لكليمه موسى تعريف بربوبيته وقدوسيته {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} ثم تلاها تعريف بألوهيته واستحقاقه للعبادة وحده {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا. وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه من الآيتين:110-111]، ويعرفك بقوته وجبروته من خلال مشاهد يوم القيامة المهولة في تلك السورة {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا . فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا . لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا . يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا} [طه:105-108].
وثانيًا يعرفك بنفسه من خلال آياته المرئية المبهرة، فتحول عصا موسى واليد البيضاء من غير سوء تلك آيات مرئية معجزة، ومثله ما أجاب به موسى حينما سأله فرعون عن ربه {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49]، فأجابه {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]. إنه يلفت نظره لآيات مرئية غيبها إلف العادة، لكنها لم تزل آثار تدل على خالقها.
لقد ألقي السحرة سجدًا لما رأوا تحول العصا إلى ثعبان، فما الفارق بين هذا التحول والتحول من نطفة إلى إنسان؟! إنه إلف العادة الذي يغفل المرء تدبر تلك الآيات المرئية، التي من خلالها عرف موسى سائله بربه {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى} [طه:53].
وثالثًا تجد في السورة تعريفًا بالله من خلال معاملته، وتحديدًا تلك المعاملة الخاصة التي يستطيع كل إنسان أن يتدبر فيها حاله، ولفهم هذا النوع من التعريف أضرب مثالًا؛ كلنا يعلم أن والدته تحبه فكيف عرفنا ذلك؟! هل قرأنا ذلك في كتاب، أو سمعناه في موعظة، أو أخبرنا به أحد، أم أننا لمسناه من خلال حنانها وأفعالها، من خلال المعاملة؟ لا شك أنها الثانية، ولله تعالى المثل الأعلى، إن التعرف على الله من خلال المعاملة مشهود في سورة طه ومتكرر، ويظهر في استحضار تلك المنن والفيوضات التي امتن الله بها على موسى وآله {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى . إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى . أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي . إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:37-40]، إنه التذكير برحلة حياة، اشتملت من صنوف المعاملة على ما هو كفيل بإذابة القلب شوقًا ومحبة لله المنان.
ومن خلال تلك السبل الثلاثة؛ يتعرف المرء على ربه ويزداد به علمًا، ويتذوق الحياة في تلك الجنة الدنيوية التي أشرت إليها آنفًا، ومن ذاق عرف، ومن عرف اغترف.
- التصنيف: