تشديدات القرآن - التشديدة (5): لا تَعَدُّوا كيهود!
هاهم إخوانهم يموتون في ساحات الاعتصام، وساحات الحرب والاحتدام، ولم يرحمهم حتى بعض دعاة الإسلام، ورمَوهم بأنهم يفعلون ذلك من أجل الصراع على الكراسي والسلطة.. هم يموتون مقبلين غير مدبرين، تاركين الكراسي وراءهم يجلس عليها من يتهمهم بحبها، ثم يرمونهم بها: نعم، وكما قيل: رمتني بدائها وانسلَّت!
لا تَعَدُّوا: لا تعْدُوا ولا تعْتَدوا.
قال الله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [سورة النساء: 154]
اختلفت القُرَّاء في قراءة ذلك، أي تعددت القراءة، فزادت فوائدها.
قرأ بعض أهل المدينة كورش عن نافع: {تَعَدُّوا} بفتح العين وتشديد الدال، من الاعتداء.
وقرأ الباقون بتسكين العين وتخفيف الدال: {لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ}، بتخفيف"العين" من قول القائل:"عَدَوْت في الأمر" إذا تجاوزت الحق فيه.
فهنا قراءتان: {لا تَعْدُوا} ، لا تتجاوزوا، {لا تَعَدُّوا}: لا تعتدوا ولا تظلموا. واللافت للنظر في هذا الأمر هنا، أن اليهود ثبتت لهم صفة التعدِّي لحدود الله تعالى، ولتعاليم الأنبياء عليهم السلام.وما زال تعدِّيهم صارخًا، حيث إنه أشهر وأكثر مِن أن يُذكر؛ مِن تعدِّى حتى الحدود التي شاركوا في وضعها مع الأمم المتحدة والمنظمات العالمية، فضلا عن حدود وضعوها في مؤتمرات أو معاهدات!!
فكيف يمكن أن تُعقد معهم المعاهدات ويوثق معهم بنتائج مفاوضات؟! كتلك المفاوضات العبثية التي لم تزد "رجسة الخراب" إلا تمكُّنًا ومزيدًا من التهام أراضي المسلمين وأجسادهم بما تنزل عليهم من أطنان الموت، بعد وإبان المعاهدات والهدنات!!
وفي قراءة التشديد {لا تَعَدُّوا}، لا تتجاوزوا الحدود، ثم لا ظلموا، وما زالت هذه صفة لهم لازمة، فقد ظلموا وتعدَّوا، وبالغوا في التعدِّي والاعتداء والظلم والانتهاك، بالتّقتيل والتّذبيح والتَّحريق والتَّقطيع... وما نشاهده صورة ونسمعه صوتًا، ويذوقه بعض المسلمين مسَّ الجلد وحرَّ الهواء!
والمؤسف أن الله تعالى نبَّأنا من أخبارهم، وكشف لنا سرائرهم، وابان لنا عن طباعهم، وحذَّرنا منهم، وما نالت أمة من هذا مثل ما نالت أمة بني إسرائيل في القرآن، ومع ذلك ما زالت أمتنا تُلدغ كل حين في جحره حية بني صهيون، ما ذلك إلا لأن أمتنا ليست مؤمنة كما ينبغي، إذ لو كانت كذلك لكانت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: « » (البخاري، برقم:[ 6133]، ومسلم، برقم:[ 2998]، في صحيحيهما)، فإصابته باللدغة تلو اللدغة من ذات الجحر وذات الحية، دليل على دخل ودخن في إيمانه، ولأولياء الأمر فينا الحظ الأوفر والنصيب الأكبر من قلة الإيمان هذه؛ لأنهم هم الباب الذي يأتينا منه الريح، فمتى نَسُدُّه ونستريح؟!
نعم ليست مؤمنة كما ينبغي، ولم يتحقق فيها وصف "وحَسُنَ إسلامُه" الذي كان يُطلق على من أسلم من الأعراب أو الأمم في عهد الصحابة الكرام رضي الله عنهم...
ليست مؤمنة كما ينبغي بتحذيرات القرآن، ولم تأخذها مأخذ الجد، بل قد اجتالتها بعض الأفكار الهدَّامة، مما يدعونه من مساواة وحقوق إنسان، وتسامح ديني، وأخوة إنسانية!! على أنقاض مبادئ القرآن التي جاء ليغرسها في الأمة، ويقيم عليها علاقاته، ويعقد عليها ولاءه وبراءه، ويحيا عليها ويموت من أجلها، ويقف عندها فلا يعدوها كما فعلت يهود، فلا يتعدّى ولا يعتدي!
ألا إنها دعوة لي وللذين آمنوا أن يؤمنوا، كما قال الله تعالى في قرآنه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ}[النساء:136].
إذن فلم يخالف القرآن من يدعو الذين آمنوا أن يؤمنوا من جديد، ويؤمنوا بالمزيد.
والمؤسف الآخر أن يهود تمسَّكوا بصفاتهم التي جاء الكتب بمحاربتها، فيهم قبل غيرهم، بينما لم تتمسك أمة الإسلام-إلا من رحم ربك- بالصفات التي جاءت الكتب بغرسها فينا.
لسنا خيرًا منهم إلا أن نتقي، وإنه لينطبق علينا كما ينطبق عليهم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[المائدة:68]، وبئس الأخوة أخوة بني إسرائيل؛ إن كانت لهم كل مُرة، ولنا كل حُلوة!، كما قال ذلك الصحابي رضي الله عنه.
فلسنا على شيء حتى نقيم الكتاب والسنة، أما الدعاوى:
والدعاوى إن لم يكن لها * * * بيّناتٌ أصحابها أدعياء
ما بلك إن كان هذا التعدِّي والاعتداء من المسلمين على المسلمين، فهاهم بعض المسلمين، أو المنتسبين إلى دعوته، يتعدَّوْن الحدود الربانية في إخوانهم؛ بالطّعن في نياتهم التي لم يطلع عليها إلا الله سبحانه، ويرمونهم بأبشع الأوصاف..
هاهم إخوانهم يموتون في ساحات الاعتصام، وساحات الحرب والاحتدام، ولم يرحمهم حتى بعض دعاة الإسلام، ورمَوهم بأنهم يفعلون ذلك من أجل الصراع على الكراسي والسلطة.. هم يموتون مقبلين غير مدبرين، تاركين الكراسي وراءهم يجلس عليها من يتهمهم بحبها، ثم يرمونهم بها: نعم، وكما قيل: رمتني بدائها وانسلَّت!
أليس هذا من التعدِّي والاعتداء جميعًا..
يعتدون هذا الاعتداء في الوقت الذي يفعل فيه اليهود وأشياعهم مثله، فكانوا ظهيرًا لهم على إخوانه!
فهل نقول الآن:
{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة:118].
أم نقول: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة:113].
فوقع كثيرٌ من المسلمين في التشبه باليهود، لا في تسريحة شعر، وعيد يوم السبت، لأجل النهي عنه، وإنما في التعدّي والاعتداء ومحاربة المسلمين.
أم إنه يكفي أن نقول: {فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} [القصص:86]، كما قال موسى عليه والصلاة والسلام: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17].
إذن فقد جمعت هذه الشَّدة معنيين للآية: فبحضورها الظلم والاعتداء، وبغيابها: التجاوز والتعدّي. وتلك من بلاغة القرآن الكريم.
وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أبو محمد بن عبد الله
باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.
- التصنيف:
- المصدر: