أجب عن رسول الله
كي يصبح كل منا أهل للرد والإجابة والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا أن نرتقي مراقي الهدى ونحث الخطا إلى ذروات الجهاد بنوعيه الأصغر والأكبر: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا}.
أجب عن رسول الله حين تغدو الأمة قصعة يتداعى الأكلة عليها، وحين تتشرذم الأمة وتغدو نثراً، تتقاذفها رياح الفرقة وتطوح بها في غياهب التخلف والانقسامات والتناحر، وحين تصبح الأمة بتاريخها وماضيها وعراقة جذورها، ملكًا لغيرها من الأمم توجه مسارها، وتتحكم في مقدراتها وتتدخل في نظام حياتها وتهز أمن منظومتها القيمية العقائدية، فإن ذلك يعني أنها توشك أن تصبح أمة بلا قوام ولا مضمون يبوأها مكاناً مهابا بين الأمم، فيكسرها الضعف وينخر كيانها سوس الوهن، وتتلاعب بها الأهواء والعصبيات، وتتراخى سلسلة الإخاء والتوحد فيما بينها، وحين تسكت الأصوات الحكيمة التي ترتفع هنا وهناك، محذرة من آثار هذا الاستسلام المخجل، فلا تلقى إلا صداها الممزوج بالاستنكار والتشكيك والتهميش والإسكات، فلا يبقى للأمة إلا فضاء عدوها المسموم، وسراب الأوهام الخادع، وتنهار مقومات بقاءها وتفردها، فتسقط هامدة جسدا بلا روح، خواء من كل أسباب البقاء.
ولأننا أمة متميزة المنهج، ربانية التشريع فإن سنة الله فينا اقتضت ألا تقوم لنا قائمة وألا تبقى لنا ريح طيبة تملأ رحاب الكون عدلا ورخاء وأمانًا إلا بإقامة شرعه، والتمسك بحبله المتين، ولكي تبقى الصلة بيننا وبين الله تعالى موصولة، ولكي لا يخيب رجاؤنا بحسن المآل والمصير، علينا أن ننافح عن عقيدتنا ووجودنا ومقدراتنا وكياننا، فالأمر يقتضي منا تسخير كافة جهودنا وإمكانياتنا، في خدمة ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ورفعة شأننا، وقوام تميزنا، دون أن نستثني باباً واحداً من أبواب الرفعة إلا وطرقناه، ولا طريقًا يوقظ الأمة من غفلتها إلا وسلكناه.
ولنا في رسولنا صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضوان الله عليهم أسوة حسنة، وأنموذجاً مشرقاً، تأتلق سطور مجده وتشرق شمس حضوره أبد الدهر، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
لقد فتح النبي القائد صلى الله عليه وسلم لأمته أبواب العمل، وخاض بهم لجج التميز، وحلق بهم على أشرعة التقوى والنيات الخالصة، وحط بهم في ساحات الدفاع عن دين الله، وإرساء دعائم التوحيد، ولم تكن المسيرة سهلة، ولا الدرب مفروش بالزهر والريحان، ولكن الإخلاص القيادي، والتفاني في روح الفكرة التغييرية الجادة الرحيمة، ووضوح القصد، كل ذلك جعل من ذلك الجيل الفريد مثلا على الإبداع الرسالي، الذي قام بإرسائه جيل الصحابة رضوان الله عليهم، بحب خالص للفكرة وإخلاص وهمة عالية، من أجل إنجاح المشروع المتكامل الحكيم، الهادف إلى نزع مسحة الشقاء والمذلة عن وجه البشرية المبتلاة بعبادة غير الله في ذلك الزمان، وما جره عليها ذلك النسق القاصر الظالم الجاهلي، القائم على العقائد الفاسدة والمؤلهة لغير الله جل شأنه، وعبادة سواه من الخلق بكل أطياف المخلوقات وألوانها.
ولأن الرسالة شاملة، والدرب صعب شاق، والعدو عنيد مكابر، والفكر السائد فرعوني الوجه واليد والعقيدة، فقد أطلق القائد المعصوم من الزلل العنان لأمته، كي تسخّر كل إمكانياتها في إرساء قواعد دينها الحنيف، والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الحق دون قيد أو شرط، اللهم إلا ما كان مخالفا لثوابت الشرع باعثًا للفتن مركسًا للعمل والعاملين.
فمن ميادين السيف والنزال، إلى مجالس الإقناع والجدال، إلى آفاق الشعر الجزلة الندية المؤثرة، وعبر أعنّة البلاغة الساحرة، ركب الدعاة إلى الله أجنحة التبليغ بكل مجالاتها المتاحة في ذلك الزمان، آخذين بزمام ما أتيح لهم من وسائل الإعلام والتأثير، ليكون ذلك درساً للأمة أن لا تدع مجالاً يخدم دينها، وينصر فكرتها، ويقيم أمرها، ويقوي ويوضح حجتها، إلا وأخذته بقوة والتزام وجد واصطبار.
تلك هي مكة ورمالها اللاهبة وترابها الطاهر العابق بمسك الشهداء من آل ياسر وإخوانهم، ممن أطعموا دعوة الله لحومهم، ورووها بدمائهم، فأينعت جنان الرحمة بعد سنين معدودة، لتقول لكل مجاهد في سبيل الله، دمك امتداد دمائنا وعطر روحك مداد جراحنا، نحن شهداء الرأي والعقيدة، والحرية المصادرة، والإرهاب الفكري في زمن الفراعنة الممتد من أول الزمان إلى آخره، ولكن البشارة حية مستمرة: «صبرًا يا آل ياسر فإن موعدكم الجنة» (فقه السيرة: 103).
وتلك هي بدر ملحمة البطولة والطعان، والتعبير الواضح عن الانتصار بالقوة على من بدأ بالاعتداء، فوجد الرد الرادع القوي، وأصبح الانتصار قصائد يترنم بها المغلوبون في انتظار سعة الإنصاف.
وها هو المنبر النبوي في المدينة، تنطلق من عليه أنوار الهداية وتسير من خلاله أمور الدولة، وفي ساحته ينشد كبار الشعراء أبلغ القصائد، توحيداً وتمجيداً لله، وتوضيحاً لأدق وأوسع مجالات الحياة الجديدة، ومنه تنطلق جيوش الفتح، مؤتة وتبوك بوابة الشام وطريق بيت المقدس، وترسل الرسائل الطيبة من محمد رسول الله إلى الملوك والأمراء، والقائمين على أمور العباد، يدعوهم إلى ما أمره الله به، أن يخرج الناس من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد، ويفوض الدعاة من فقهاء الصحابة بالسير مع الوفود إلى ديارهم لتفقيههم في الدين، كي لا تكون جزئية صغيرة إلا واضحة، ولا حكما إلا مجلواً، إنها الأمانة يبلغها الأمين لأمته، وفق الأمر الذي لا يعرف احتمالات التأويل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ...} [المائدة:67].
إنه باب آخر يطرقه الإسلام، حريصاً على أن تبقى كلمة الله مسموعة عليا مطاعة، محفوظة جيلاً بعد جيل، وتمتد الألسن الحاقدة تشحنها العقول الخرقاء، تمتد بالهجاء والحط من شأن التغيير الجديد، والفكر الوليد، والصفحة الإنسانية الجديدة المشرقة، فيقوم الخطباء بدورهم ويتألق الشعر لآلئ في عقود منظومة بحبل الله، إنه سحر البيان، وجميل المعنى.
إنها العقيدة التي أطاحت بما سواها من المعتقدات، وأحالتها رماداً لا أثر له في القلوب التي زكاها أهلها بالتوحيد، وصقلوها بالحب الخالص لرسولهم الحبيب، فانطلقت الألسن الذاكرة تمتدح الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو له أهل، وتمجد الدين الحنيف بما يحمله من قيم ورحمات، وتخرس تلك الألسن الأفعوانية الحاقدة.
ويُسَر الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يرى البلغاء من أصحابه، والشعراء المبدعين يستخدمون موهبتهم بذكاء في الذب عن عرض رسولهم صلى الله عليه وسلم، ويدافعون عن عقيدتهم، ويقر هذا المنهج في أصحابه، بل ويدعوهم إلى التوسع في استخدامه، وها هو حسان بن ثابت يقف طوداً أدبياً وبلاغياً شامخاً، ينافح عن الله ورسوله ويحظى بوسام قل نظيره: «إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله» (مسلم: 2490).
ويستمر التكريم حتى ينيبه الرسول صلى الله عليه وسلم في إجابة أهل الضلالة عنه فيقول له: «أجب عن رسول الله» (البخاري: 453). ويكون التكليف الرفيع وقوداً لإبداعات ظلت على مر الأيام محطات دفاع عن رسولنا وديننا وعقيدتنا: "أنا لها يا رسول الله والله ما يسرني به مقول بين بصرى وصنعاء" ويبدع الشعراء من قلوبهم وتتألق كلماتهم دراً وتتلألأ نور.
إنه الأخذ بكل مجالات التبليغ والنصرة، والطرق على كل أبواب الارتقاء كلها معاً، وكلها بنفس الأهمية، وكلها بذات التأثير، فإذا أردنا أن نتخلص من حالة الشرذمة والضعف والتمزق الفكري، وحالة الاتهامات المتبادلة وإسقاط الخطأ أحدنا على الآخر، فانه لا بد لنا من إعادة النظر في منهجية الرد والإجابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمحيص الوقائع ودراسة المنهج التبليغي التوحيدي الجامع الموحد في ذلك العهد الزاهر المشرق، الذي حسن تبليغه وبدع أداؤه، وخلص لوجه الله عمله وجهاده، وحتى صار الواحد فيه يحمل لواء الإجابة الشافية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكي يصبح كل منا أهل للرد والإجابة والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا أن نرتقي مراقي الهدى ونحث الخطا إلى ذروات الجهاد بنوعيه الأصغر والأكبر: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29].
- التصنيف:
- المصدر: