دمعات القلوب الطاهرة

منذ 2014-10-17

إنها دليل الصدق، وعلامة الإخلاص، وصفة النقاء والطهارة، تتساقط من العيون الخاشعة، فتبلل الوجوه المتوضئة المخبتة، وتتهادى على شفاه مسبحة، فتسقط في موضع السجود.

إنها دليل الصدق، وعلامة الإخلاص، وصفة النقاء والطهارة، تتساقط من العيون الخاشعة، فتبلل الوجوه المتوضئة المخبتة، وتتهادى على شفاه مسبحة، فتسقط في موضع السجود، تظل شاهدة على تلك اللحظات الربانية العلوية الكريمة، ثم تأتي بشهادة أخرى يوم لاينفع مال ولا بنون.

انها بالفعل دمعات القلوب لا دمعات العيون فحسب، فثورتها نتاج غليان من قلب أحرقه الندم على ذنبه، وانتهى به الشوق لربه سبحانه، وخنقته العبرة على تقصيره وغفلته، فانسالت تروي أرضا جدباء من نفسه العائدة التائبة.

والبكاء الصادق لايخرج إلا عبر ثورة أخرى هي ثورة الرجاء في الله الرحمن الرحيم، فلا رجاء إلا فيه ولا أمل إلا منه سبحانه ولا دعاء إلا له، هو المرتجى والمأمول، إذ حبس في الدنيا متاعها إلا ما شاء الله وقصر في الحياة زخرفها إلا ما أمر الله، وبان في الدنيا عوارها، فلم يعد لها قيمة إلا ذكر الله وما والاه وعالمًا ومتعلمًا.

والبكاء الخاشع يزيد الخشوع، ويبدي قيمة الإشفاق، ويعلم الإخبات والإنابة، قال الله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:109]، وكذا كان الحبيب يدل وينبه ويوجه صلى الله عليه وسلم، فعن أنس رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، فقال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا» قال: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين (متفق عليه).

بل إنه صلى الله عليه وسلم، يرغب فيه أيما ترغيب، فعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس شيء أحب إلى الله تعالى من قطرتين وأثرين: قطرة دموع من خشية الله وقطرة تهرق في سبيل الله، وأما الأثران فأثر في سبيل الله تعالى وأثرٌ في فريضة من فرائض الله تعالى» (أخرجه الترمذي).

بل إن النار المخيفة تمتنع عن البكائين من خشية الله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يلج النار رجل بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع غبارٌ في سبيل الله ودخان جهنم» (أخرجه الترمذي).

إنه ديدن الكرام الميامين، وعمل المقتدين الصالحين، فاقتدى الصحابة بالأثر وعلموا الخبر وساروا على النهج:
قال علي رضي الله عنه: رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أر اليوم شيئًا يشبههم، كانوا يصبحون شعثًا صفرًا غبرًا، بين أعينهم كَرُكَب المعزى قد باتوا سجدًا وقيامًا، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا تمادوا كما يميد الشجر يوم الريح، وهملت أعينهم بالبكاء، فوالله لكأني بالقوم باتوا غافلين.

وكان لعمر بن الخطاب في وجهه خطان أسودان من كثرة الدموع.
وكان ابن عباس رضي الله عنهما أسفل عينيه مثل الشراك البالي من كثرة البكاء.
وكان عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يبكي كثيرًا، وكانت أمه تأتيه بالكحل، فكان يغلق عليه بابه ويبكي حتى رمدت عيناه.

وعن مسلم بن بشير قال: بكى أبو هريرة رضي الله عنه في مرضه فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكني أبكي لبعد سفري وقلة زادي، أصبحت في صعود مهبطه جنة ونار، فلا أدري إلى أيهما يسلك بي.

 

بكاء عند القرآن:

إنها لحظة سماع كلام الله، ولقاء التذكرة العلوية المكرمة، إنه أحسن الحديث وخير الكلم، فلتسكب عندئذ العبرات ولتسقط الدمعات {لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا الْقُرْ‌آنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَ‌أَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّـهِ} [الحشر:21]، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «إقرأ عليّ القرآن» قلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: «إني أحب أن أسمعه من غيري»، فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41]، قال: «حسبك الآن» فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان (أخرجه البخاري).

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه قيل له في الصلاة، قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» فقالت عائشة رضي الله عنها: إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ القرآن غلبه البكاء، فقال: «مروه فليصل» (متفق عليه).

وعن حفص بن حميد قال: قال لي زياد بن جرير: اقرأ علي، فقرأت عليه {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح:1-3]، فقال: يا ابن أم زياد، أنقض ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم! فجعل يبكي كما يبكي الصبي.

وعن مزاحم بن زفر قال: صلى بنا سفيان الثوري المغرب فقرأ حتى إذا بلغ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} بكى حتى انقطعت قراءته ثم عاد فقرأ {الْحَمْدُ لِلَّه}.

وعن إبراهيم بن الأشعث قال: سمعت فضيلًا يقرأ سورة محمد ويبكي ويردد هذه الآية: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31]، وجعل يقول: {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} ويردد: إن بلوت أخبارنا فضحتنا وهتكت أستارنا، إنك إن بلوت أخبارنا أهلكتنا وعذبتنا ويبكي.

 

بكاء الخوف من الله

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله...» وذكر منهم: «ورجلٌ ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه» (متفق عليه)، وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون (أخرجه الترمذي).

وعن قبيص بن قيس العنبري قال: كان الضحاك بن مزاحم إذا أمسى بكى، فيقال له: ما يبكيك؟ فيقول: لا أدري ما صعد اليوم من عملي.

وعن جعفر بن سليمان قال: حدثنا ثابت البناني قال: كنا نتبع الجنازة فما نرى إلا متقنعًا باكيًا أو متقنعًا متفكرًا.
وعن جعفر بن سليمان قال: بكى ثابت البناني حتى كادت عينه تذهب فجاءوا برجل يعالجها فقال -أي الرجلـ: أعالجها على أن تطيعني، قال: وأي شيء؟ قال: على أن لا تبكي، قال: فما خيرهما إن لم تبكيا؟! وأبى.

وعن عيسى بن عمر: كان عمرو بن عتبة بن فرقد يخرج على فرسه ليلًا فيقف على القبور فيقول: يا أهل القبور قد طويت الصحف وقد رفعت الأعمال، ثم يبكي ويصف بين قدميه حتى يصبح فيرجع فيشهد صلاة الصبح.

وبكى عمر بن عبد العزيز فبكت فاطمة فبكى أهل الدار لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما تجلى عنهم العبرة قالت له فاطمة: مم بكيت؟ قال: ذكرت يا فاطمة منصرف القوم من بين يدي الله عز وجل فريق في الجنة وفريق في السعير، فما زالا يبكيان.

وعن عباد الجشمي قال: قال كعب الأحبار: لأن أبكي من خشية الله فتسيل دموعي على وجنتي أحب إلي من أن أتصدق بوزني ذهبًا


بكاء التقصير في حق الله

عن نافع: كان ابن عمر إذا قرأ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16] بكى حتى يغلبه البكاء.

وعن عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه أنه تلا: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء:41] فجعل ابن عمر يبكي حتى لثقت (ابتلت) لحيته وجيبه من دموعه.

وعن قتادة قال: كان العلاء بن زياد قد بكى حتى غشي بصره، وكان إذا أراد أن يقرأ أو يتكلم جهشه البكاء.
قال الذهبي: عن محمد بن المنكدر أنه بينا هو ذات ليلة قائم يصلي إذ استبكى، فكثر بكاؤه حتى فزع له أهله وسألوه، فاستعجم عليهم، وتمادى في البكاء، فأرسلوا إلى أبي حازم فجاء إليه، فقال: ما الذي أبكاك؛ قد روعت أهلك؟ قال: مرت بي آية، قال: ما هي؟ قال: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] فبكى أبو حازم معه، فاشتد بكاؤهما.

قال الذهبي: كان ابن المنكدر يقول: كم من عين ساهرة في رزقى في ظلمات البر والبحر، وكان إذا بكى مسح وجهه ولحيته من دموعه، ويقول: بلغني أن النار لا تأكل موضعًا مسته الدموع.

وعن عطاء الخفاف قال: ما لقيت سفيان -الثوري- إلا باكيًا، فقلت: ما شأنك؟ قال: أتخوف أن أكون في أم الكتاب شقيًا، قال ابن وهب: ورأيته في الحرم بعد المغرب، صلى ثم سجد سجدة فلم يرفع حتى نودي للعشاء.

وعن يحيى بن أبي بكير: قلت للحسن بن صالح : صف لنا غسل الميت؟ فما قدر عليه من البكاء.

عن محمد بن المبارك قال: كان سعيد بن عبد العزيز إذا فاتته صلاة الجماعة بكى.

خالد رُوشه 

29/5/1433 هـ

  • 3
  • 1
  • 8,431

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً