وداع العام

منذ 2014-10-22

يا من متعك الله بالصحة والعافية، فأنت تتقلب في رغد العيش والملذات، تفطن لسنين عمرك، فربما يفجئك الأجل وأنت في غفلة عن نفسك فتعض أصابع الندم، ولات حين مندم ولات حين مناص.

نحن الآن على طرف قنطرة نوشك أن نعبرها لتستقر أقدامنا على طرف قنطرة أخرى، فخطوة نودع بها وأخرى نستقبل بها، نقف بين قنطرتين مودعين ومستقبلين، مودعين موسمًا كاملًا أودعنا فيه ما شاء الله أن نودع، فخزائن بعضنا ملأى بما هو له، وخزائن بعضنا ملأى بما هو عليه، ومن الناس من جمع ما له وما عليه. ومستقبلين عامًا جديدًا.

إن هذه الجمعة آخر جمعة في هذا العام، الذي أوشك رحيله، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلًا، ومن أصدق من الله حديثًا {يُقَلِّبُ اللَّـهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ‌ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَ‌ةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ‌} [النور:44]، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ‌ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} [الأعراف:54].

وهذا السير الحثيث يباعد عن الدنيا ويقرب إلى الآخرة، يباعد من دار العمل ويقرب من دار الجزاء. قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: "ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحدة منها بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل" (أخرجه البخاري).

نسير إلى الآجال في كل لحظة *** وأعمارنا تطوى وهن مراحل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى *** فعمرك أيـام وهن قلائـل
وما هذه الأيام إلا مراحـل *** يحث بها حاد إلى الموت قاصد
وأعجب شيء لو تأملت أنها *** منازل تطوى والمسافر قاعد

جادت قريحة أحد الأدباء في وصف مناسبة وداع العام، فجرى قلمه بقوله: "رأيت على الطريق شبحًا يسير منهوكًا، على الطريق الذي لا يمتد في سهل ولا وعر، ولا يسير على سفح جبل ولا شاطئ بحر، ولا يسلك الصحراء ولا يخترق البساتين، ولكنه يلف السهل والوعر، والجبل والبحر، والصحراء والبساتين، وكل ما تحتويه ومن يكون فيها على الطريق الطويل الذي يلوح كخط أبيض يغيب أوله في ظلام الأزل، ويختفي آخره في ظلام الأبد.

رأيت شبحًا يسير على طريق الزمان، وسمعت صائحًا يصيح بالدنيا النائمة: تيقظي تيقظي، إن العام يرحل الآن، أمن الممكن هذا؟ أيحدث هذا كله في هدوء؟ يموت في هذه الليلة عام ويولد عام، يمضي الراحل بذكرياتنا وآلامنا وآمالنا إلى حيث لا يعود أبدًا. ويقبل القادم فاتحًا ذراعيه، ليأخذ قطعة من نفوسنا وجزءًا من حياتنا، ولا يعطينا بدلًا منها شيء. هل الحياة إلا أعوام فوق أعوام؟وهل النفوس إلا الذكريات والآلام.. إلى آخر ما قال أثابه الله.

 

معاشر المسلمين: أزف رحيل هذا العام فها هو يطوي بساطة، ويقوض خيامه، ويشد رحاله، وكل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، عام كامل، تصرمت أيامه وتفرقت أوصاله، وقد حوى بين جنبيه حكمًا وعبرًا، وأحداثًا وعظات، فلا إله إلا الله، كم شقي فيه من أناس، وكم سعد فيه من آخرين، كم طفل قد تيتم، وكم من امرأة قد ترملت، وكم من متأهل قد تأيم، مريض قوم قد تعافى، وسليم قوم في التراب قد توارى، أهل بيت يشيعون ميتهم، وآخرون يزفون عروسهم، دار تفرح بمولود وأخرى تعزى بمفقود، عناق وعبرات من شوق اللقاء، وعبرات تهل من لوعة الفراق، وآلام تنقلب أفراحًا وأفراح تنقلب أتراحًا، أحد يتمنى زوال يومه ليزول معه همه وغمه وقلقه، وآخر يتمنى دوام يومه ليتلذذ بفرحه وغبطته وسروره. أيام تمر على أصحابها كالأعوام، وأعوام تمر على أصحابها كالأيام

مرت سنون بالوئام وبالهناء *** فكـأننا وكـأنها أيــام
ثم أعقبت أيام سوء بعدها *** فكأننا وكـأنها أعــوام

أحدهم يُلقي عصا التسيار حيث استقر به المثوى، وآخر يضرب في الأرض طلبًا للرزق والمأوى.
حضر فلان وغاب فلان، مرض فلان ودفن فلان، وهكذا دواليك.. تغيّر أحوال وتبدل أشخاص، فسبحان الله ما أحكم تدبيره، وما أجل صنعه، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويعطي من يشاء بفضله ويمنع من يشاء بعدله، وربك يخلق ما يشاء ويختار. أمور تترى تزيد العاقل عظة وعبرة، وتنبه الجاهل من سبات الغفلة، ومن لم يعتبر بما جرى حوله فقد غبن نفسه.

خليلي كم من ميت قد حضرته *** ولكنني لم أنتفع بحضوري
وكم من ليال قد أرتني عجائبًا *** لهن وأيام خلت وشهور
وكم من سنين قد طوتني كثيرة *** وكم من أمور قد جرت وأمور
ومن لم يزده السن ما عاش عبرة *** فذاك الذي لا يستنير بنور

 

معاشر المسلمين: تختلف رغبات الناس ويتغاير شعورهم عند انسلاخ العام، فمنهم من يفرح ومنهم من يحزن ومنهم من يكون بين ذلك سبيلًا.
فالسجين يفرح بانسلاخ عامه، لأن ذلك مما يقرب موعد خروجه وفرجه، فهو يعد الليالي والأيام على أحر من الجمر، وقبلها تمر عليه الشهور والأعوام دون أن يشعر بها، فكأنه يحاكي قول القائل:

أعد الليالي ليلة بعد ليلة *** وقد عشت دهرًا لا أعدّ اللياليا

وآخر يفرح بانقضاء العام، ليقبض أجرة مساكن وممتلكات أجّرها حتى يستثمر ريعها وأرباحها.
وآخر يفرح بانقضاء عامه من أجل ترقية وظيفية.. إلى غير ذلك من المقاصد التي تفتقد إلى المقصد الأسمى وهو المقصد الأخروي، فالفرح بقطع الأيام والأعوام دون اعتبار وحساب لما كان فيها ويكون بعدها هو من البيع المغبون.

إنا لنفرح بالأيام نقطـعها *** وكل يوم مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدًا *** فإنما الربح والخسران في العمل

فالعاقل من اتعظ بأمسه، واجتهد في يومه، واستعد لغده. ومن أعظم الحكم في تعاقب السنين وتغير الأحوال والأشخاص أن ذلك دليل على كمال عظمة الله تعالى وقيوميته، {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ‌ وَالظَّاهِرُ‌ وَالْبَاطِنُ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3].

فهو الأول فليس قبله شيء والآخر فليس بعده شيء، والظاهر فليس فوقه شيء والباطن فليس دونه شيء فلا إله إلا الله ما أجل شأنه وأعظم قدرته {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ . وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَ‌بِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَ‌امِ} [الرحمن:26-27].

 

عباد الله: على العاقل أن يتدارك أوقاته، وأن يعد أنفاسه، وأن يكون حافظًا لوقته شحيحًا به، فلا يفرط في شيء من لحظات عمره إلا بما يعود عليه بالنفع في الدنيا والبرزخ والآخرة. فالعمر قليل والأجل قريب، ومهما طال الأمد فلكل أجل كتاب.
قيل لنوح عليه السلام، وقد لبث مع قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا: كيف رأيت هذه الدنيا؟ فقال: كداخل من باب وخارج من آخر.

فيا من متعك الله بالصحة والعافية، فأنت تتقلب في رغد العيش والملذات، تفطن لسنين عمرك، فربما يفجئك الأجل وأنت في غفلة عن نفسك فتعض أصابع الندم، ولات حين مندم ولات حين مناص.

ثم تذكر أن ذلك التنعم والترفه الذي كنت تتقلب فيه صباح مساء قد يعقبه ما ينسي لذاته كلها، كما أن من عمر أوقاته بطاعة الله وهو يعيش ضيق من الأمر وقد قدر عليه رزقه قد يعقب ضيق عيشه ما ينسيه ألمه وفقره.
قال صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في جهنم صبغة ثم يقال له: يا ابن آدم هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يارب! ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة صبغة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ما مر بي بؤس قط ولا مر بي شدة قطّ» ( أخرجه الإمام مسلم عن أنس رضي الله عنه).

أليس من الخسران أن لياليًا *** تمر بلا نفع وتحسب من عمري

اللهم اختم لنا عامنا بخير، واجعل عواقبنا إلى خير، إنك سميع مجيب الدعاء.

  • 2
  • 5
  • 4,715

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً