كيف تحتسبين على أمك؟

منذ 2015-02-22

إن الذين عرفوا مكانة الأم، وعظيم قدرها، وكبير حقها على أولادها هم الذين يسارعون إلى كل خير تنتفع به الأمهات في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا سعادة وبعد عن المعاصي والمنكرات التي هي سبب للشقاء، وفي الآخرة جنات ونعيم مقيم، والاحتساب على الأمهات له أهمية بالغة.

إن مكانة الأم في الإسلام عظيمة، فقد بدأ الله عز وجل بذكرها في كتابه بعد أن أمر بالإحسان للوالدين كليهما فقال: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]، جاء في البحر المديد: "أي: حملته بكُرْهٍ ومشقة، ووضعته كذلك، وذكره للحث على الإحسان والبرور بها، فإن الإحسان إليها أوجب، وأحق من الأب" [1]، وقال ابن عادل في اللباب: "ذلك يدل على أن حقها أعظمُ، وأَنَّ وصول المشاقّ إليهما بسبب الولد كثيرة" [2]، وفي السنة النبوية يبين عليه الصلاة والسلام أنها مقدمة على الأب فيسأل: "من أحق الناس بحسن صحابتي؟" قال: «أمك»، قال: "ثم من؟" قال: «ثم أمك»، قال: "ثم من؟" قال: «ثم أمك»، قال: "ثم من؟" قال: «ثم أبوك» [3]، فكما أنها أحق بالبر، وأولى بالمعروف، فمن أعظم المعروف، ومن أجل البر الذي تقدمينه لأمك الاحتساب عليها، ودعوتها إلى ترك المنكرات الواقعة في فيها، وأمرها بالمعروف الذي أوجبها الله تعالى عليها، وهذا هو ما فعله أبو هريرة رضي الله عنه عندما كان حريصاً على دعوة أمه إلى الإسلام فأبت؛ فطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها بالهداية، فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم اهد أم أبي هريرة» [4]؛ فأسلمت رضي الله عنها وعن ابنها البار بها، والذي لم تهدأ نفسه حتى احتسب على أمه ودخلت في الإسلام.

والاحتساب على الأم هو ما فعله أبو ذر الغفاري رضي الله عنه بعدما أسلم، فذهب ليدعوا أهله وقومه، فأسلمت أمه رضي الله عنها [5].

ومن الاحتساب على الأم ما قامت به جدة عمر بن عبد العزيز وزوجة عاصم ابن عمر بن الخطاب يوم أن أمرتها أمها أن تخلط اللبن بالماء، فقالت لها البنية: "أما سمعت منادي عمر بالأمس ينهي عن ذلك؟!" فقالت أمها مقالاً معناه أن عمر لا يدري عنك، فقالت البنية: "والله ما كنت لأطيعه علانية، واعصيه سراً"، وعمر رضي الله عنه يسمع كلامهما؛ فأعجبه عقل هذه البنية ودينها، فزوجها من ابنه المذكور [6].

إن الذين عرفوا مكانة الأم، وعظيم قدرها، وكبير حقها على أولادها هم الذين يسارعون إلى كل خير تنتفع به الأمهات في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا سعادة وبعد عن المعاصي والمنكرات التي هي سبب للشقاء، وفي الآخرة جنات ونعيم مقيم، والاحتساب على الأمهات له أهمية بالغة تتمثل في النقاط التالية:

- أنه حق لها على أولادها الذين تعبت في حملهم، وفي ولادتهم، وفي رعايتهم يوم كانوا لا يستطيعون أن يرفعوا أو يدفعوا الأذى عن أنفسهم لضعفهم وقلة حيلتهم، فكم دافعت عنهم، وكم تضررت بسببهم، وكم عانت من أجلهم، وكم هجرت النوم لراحتهم، وكم أصابها من الهم والغم قلقاً عليهم، وكم مرضت وهي تسعى لشفائهم، وكم تعرضت للموت إنقاذاً لحياتهم، وكم دمعت عيناها فرحاً بنجاحهم، وبكت حزناً على فراقهم، وألماً بسبب ما ألمَّ بهم، فهل نحرمها من الاحتساب عليها، وإرشادها إلى ما فيه سعادتها في دنياها وآخرتها؟! {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14].

- أن الاحتساب على الأم هو من الاحتساب على الأقربين الذي هم أولى وأحق بالاحتساب من غيرهم، فقد قال تعالى لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، يقول السعدي رحمه الله: "الذين هم أقرب الناس إليك، وأحقهم بإحسانك الديني والدنيوي" [7]، ويقول أبو بكر الجزائري حفظه الله: "أمر من الله لرسوله أن يخص أولاً بإنذاره قرابته؛ لأنهم أولى بطلب النجاة لهم من العذاب" [8]، وقد يكون -وهو الغالب- أثر القريب في الدعوة والاحتساب أكبر من غيره؛ لأنه يعرف حبه له، وأنه لن يأمره إلا بالخير، وبما فيه صلاحه، ولن يكون بينهما عائق الغرابة وعدم المعرفة، بل يقوم القريب بالاحتساب مباشرة بالتي هي أحسن، يقول الرازي رحمه الله: "أمره بدعوة الأقرب فالأقرب؛ وذلك لأنه إذا تشدد على نفسه أولاً، ثم بالأقرب فالأقرب ثانياً لم يكن لأحد فيه طعن ألبتة، وكان قوله أنفع وكلامه أنجع" [9].

- أن الأم هي الركن الركين لصلاح أهل البيت جميعاً، فغالباً ما يكون صلاحها سبباً لصلاح الأب، وصلاح الأخوة والأحفاد، بل وحتى الجيران، والعكس بالعكس فبفسادها وابتعادها عن ربها، وارتكابها للمنكرات قد يؤدي ذلك إلى توسع دائرة الفساد في كل نواحي البيت، وعلى جميع أفراد الأسرة...

ولم أر للخلائق من محلِّ *** يُهذِّبها كحِضن الأمهات

فحضْن الأمّ مدرسة تسامتْ *** بتربية ِ البنين أو البنات

وأخلاقُ الوليدِ تقاس حسناً *** بأخلاق النساءِ الوالداتِ

وليس ربيبُ عالية ِ المزايا *** كمثل ربيب سافلة الصفات

وليس النبت ينبت في جنانٍ *** كمثل النبت ينبت في الفَلاة

ولعلنا نذكر بعض الوسائل والطرق التي تعين على الاحتساب على الأم، وتسهل هذه المهمة التي قد يهملها الكثير منا بعذر أن فيها شيئاً من الصعوبة، وأنها قد تؤدي إلى غضب الأم مما يجر إلى النفرة والخصام، فنعمل بما علمنا من هذه الوسائل علَّ الله تعالى أن ينفع بذلك، ومن هذه الوسائل:

- نبدأ بأهم وسيلة، وأعظم سبب وهو إرجاع الأمر لله عز وجل؛ فهو الذي بيده هداية الناس جميعاً: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد:31]، أفلم يعلموا أن الهداية بيد الله سبحانه، فندعو الله لتلك الأم أن يهديها ويصلحها، ويبعدها عن ذلك المنكر التي لا تزال مصرة عليه، ويهديها إلى ذلك المعروف الذي هجرته، وابتعدت عنه، وهذا ما مر علينا من فعل أبي هريرة رضي الله عنه حين طلب من رسول صلى الله عليه وسلم الدعاء لأمه بالهداية، فدعا لها فأسلمت.

- ومن الوسائل التي تعين على الاحتساب على الأم حسن معاملتها، وخدمتها، والقيام بها وبحاجياتها على أحسن وجه وبقدر المستطاع، وكم من الأمهات من تغيرت إلى الأفضل بسبب الأخلاق العالية التي تتخلق بها ابنتها الصالحة؛ فإن من الأسباب التي دعت أمة من الناس إلى الإسلام أخلاق الدعاة إلى الله تعالى، وعلى رأسهم نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد كان يعرف في قريش بأحسن الأخلاق والسلوك، وهو الذي زكاه ربه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، فتتعامل المحتسبة مع أمها بالصدق والحكمة والتواضع والصبر، ولو كانت واقعة في منكر؛ لأن الله تعالى قد أمر بالتعامل مع الوالدين بالمعروف ولو كانا مشركين، فقال جل وعلا: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، وهذا رجل يسلم بسبب خلق تخلق به مسلم وهو الأمانة، فعندما خرج هذا المسلم من مركز إسلامي في إحدى الدول الأجنبية، وركب وسيلة مواصلات أعطى لمن يأخذ النقود من الركاب مبلغاً أكثر من المطلوب، فرد العامل للمسلم أكثر مما له، فنظر المسلم إلى أن النقود التي عادت إليه أكثر مما له فردها إلى العامل، فتبسم العامل وقال: إني أعلم أنها أكثر مما لك؛ لكنني أردت أن أنظر هل ما قرأته عن الإسلام هو نفسه الذي يعمل به المسلمون؟ أم أنهم لا يطبقونه؟ فعلمت أنكم تطبقون دينكم؛ فها أنا ذا أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.

- ومن الوسائل التي تعين على الاحتساب على الأم جلب النساء الصالحات إلى البيت، وربط الأم بهن، ويا حبذا لو كن في نفس عمر الأم أو ما يقارب ذلك؛ حتى يكون أدعى لقبول كلامهن ونصحهن، وقد يكون ربط الأم بالصالحات عن طريق زيارة تلك الصالحة مع الأم، والجلوس معها، وتحرص المحتسبة على اختيار الصالحات ذات الأساليب الدعوية، وذات التأثير، وقد تخبر المحتسبة صديقة أمها بالمنكر الذي تقع في الأم حتى تقوم تلك الصديقة بتغييره بالأسلوب الأمثل عن طريق النقاش، والإقناع، والجلسات المفيدة.

- التنويع في الأساليب التي تستخدم مع الأم في الاحتساب عليها، فحيناً بالموعظة، وحيناً بالتخويف، وحيناً بالترغيب، وحيناً بالأدلة العقلية، وحيناً بالإشارة دون التصريح، وحيناً بالقصة المؤثرة، وحيناً باستغلال الحدث، وما أحسن قول إبراهيم عليه السلام: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:42-45]، وتتأمل المحتسبة كثيراً في خطاب إبراهيم عليه السلام مع أبيه إذ فيه مراعاة للأبوة، فلا تنس المحتسبة أنها تتكلم مع أمها، فلا تتكلم بنبرة متعالمة، ولا من منبر عاجي، بل بكل تواضع، وبكل احترام وأدب؛ لأن الكلام هنا مع الأم.

- ومن الأساليب التي تتخذها المحتسبة في الاحتساب على أمها الاستعانة بأهل البيت من الأقارب من النساء اللواتي لهن كلمة مسموعة عند الأم، أو من الذكور ممن تقدرهم الأم كالإخوة أو الأب أو الأحفاد، وهذا من التعاون على البر والتقوى التي يحبه الله جل وعلا، ففي قصة إسلام أم أبي ذر السابقة جاء أبو ذر هو وأخوه أُنيس رضي الله عنهما يدعوان أمهما للإسلام فأسلمت [10].

- إدخال الوسائل الدعوية التي تستفيد منها الأم سواء المقروءة أو المسموعة أو المرئية، والتي تحذر من المنكرات أو تأمر بالمعروف، وتدعو إلى الخير، من مجلات، أو قنوات إسلامية، أو أشرطة وأقراص إلكترونية، وغير ذلك، وقد تخصص هذه الوسائل بالمنكر الذي يراد تغييره والذي تقع فيه الأم، كالأغاني فيؤتى بما يبين حرمة الأغاني، ويبين خطورتها على القلب، وعلى المسلم في الدنيا والآخرة.

نسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا، أن ييسر على الخير خطانا، وأن يردنا إليه رداً جميلاً، وأن يجمعنا في الدنيا على طاعته، وفي الآخرة في جنته.

اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا ولمن له فضل علينا، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان يا رب العالمين.

[1] البحر المديد لأبي العباس الإدريسي (7/126).

[2] اللباب في علوم الكتاب لابن عادل (17/394).

[3] رواه البخاري برقم (5971)، ومسلم برقم (2548).

[4] رواه مسلم برقم (2491).

[5] دلائل النبوة للبيهقي (2/212).

[6] مرآة الجنان وعبرة اليقظان، لابن سليمان اليافعي (1/209).

[7] تفسير السعدي (1/598).

[8] أيسر التفاسير للجزائري (3/687).

[9] مفاتيح الغيب للرازي (24/148).

[10] دلائل النبوة للبيهقي (2/212).


عادل محمد هزاع الشميري

  • 1
  • 0
  • 4,536

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً