احتسب حين تحتسب
إنها إن كانت وظيفة الأنبياء، وعهد الله إلى رسله الذي بعثهم لأجله، فإن الساعين فيها لا يريدون بها علوا في الأرض، ولا يبغون عنها عوضاً، لاستشعارهم مكانتها السامية، ودورها الفعال في خدمة الأمة الإسلامية.
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
تأتي مفردة الاحتساب بمعنى طلب الثواب من الله - عز وجل - على عملٍ ما دون أجر مادي دنيوي، وتأتي متعدية بحرف "على" تحمل معنى إنكار القبيح، ودفع المنكر [1]، ولا ريب أن تطبيق المعنى الأول حين تحقيق المعنى الثاني في أقصى الأهمية، فلذلك اتخذها الأنبياء منهجاً وهم سادة المحتسبين، وجاء الحث لخاتمهم على الاقتداء بهم صلى الله وسلم عليهم أجمعين في قوله - تعالى -بعد أن عدد جملة منهم: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) [الأنعام: 90]، وقرن الأمر بأمرٍ تطبيقي آخر، هو صلب الموضوع، أن لا يسأل أجراً على ما يأمر به وينهى.
وهذا الأمر قد تكرر في كتاب الله في أكثر من مرة، وجاء الأمر بالاقتداء بالأنبياء والمرسلين السابقين بعد العرض الطويل لحال المرسلين في شأن احتسابهم على أقوامهم، في عدة مواضع في القرآن الكريم، فكلهم يقول: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء: 109، 127، 145، 164، 180].
ابتداء من نوح - عليه السلام - القائل: (وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) [هود: 29]. وانتهاء بمحمد - عليه الصلاة والسلام - القائل: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) [الشورى: 23].
ودلالة على هذا أنه صار سلوكاً له - صلى الله عليه وسلم -، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: كان غلام يهودي يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمرض، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: ((أسلِم)) فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم، فأسلم، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: ((الحمد لله الذي أنقذه من النار))[2].
فلو كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - حاجة يبتغيها ما أتى اليهودي وهو غلام لا شيخ عشيرة ولا حبر ولا قسيس، وخادمٌ لا صاحب تجارة ولا مال، وهو على شفير الموت، يدعوه إلى الإسلام لا يريد منه أجراً ولا جزاءً، إنما إنقاذه من سعير الجحيم، وشيء آخر: هو درسٌ لمن وراءه من أهل الاحتساب في ابتغاء الثواب، وغض البصر عن لمعان الجزاء الدنيوي.
فلذلك قال - تعالى -: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً) [المؤمنون: 72] قال الحسن: أجراً. وقال قتادة: جُعْلاً (فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ) أي: أنت لا تسألهم أجرة ولا جُعلاً ولا شيئاً على دعوتك إياهم إلى الهدى، بل أنت في ذلك تحتسب عند الله جزيل ثوابه، كما قال: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) وقال: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) وقال: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) وقال: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً) [3].
لقد جاء الرجل من أقصى المدينة يسعى وينبه القوم على أشهر صفات الأنبياء أنهم لا يأخذون أجراً، وأنهم في عالم غير عالم الماديين حتى في الدين، وصارت تلك الخصلة لهم شعارا يُحمل في جبين كل واحدٍ منهم، وهو دليل على "علامات الصدق والنصح على رسالتهم؛ إذ هم يَدْعُون إلى هُدى ولا نفع ينجرُّ لهم من ذلك فتمحَّضت دعوتهم لقصد هداية المرسَل إليهم، وهذه كلمة حكمة جامعة، أي: اتبعوا من لا تخسرون معهم شيئاً من دنياكم وتربحون صحة دينكم" [4].
فالمعنى: "اتبعوا من نصحكم نصحا يعود إليكم بالخير، وليس يريد منكم أموالكم ولا أجراً على نصحه لكم وإرشاده إياكم، فهذا موجب لاتباع من هذا وصفه" [5].
"ويجب على المحتسب أن يقصد بقوله، وفعله وجه الله - تعالى - وطلب مرضاته خالص النية لا يشوبه في طويته رئاء، ولا مراء، ويتجنب في رئاسته مناقشة الخلق، ومفاخرة أبناء الجنس؛ لينشر الله عليه رداء القبول، وعلم التوفيق، ويقذف له في القلوب مهابة، وجلالة، ومبادرة إلى قوله بالسمع والطاعة" [6].
إنها إن كانت وظيفة الأنبياء، وعهد الله إلى رسله الذي بعثهم لأجله، فإن الساعين فيها لا يريدون بها علوا في الأرض، ولا يبغون عنها عوضاً، لاستشعارهم مكانتها السامية، ودورها الفعال في خدمة الأمة الإسلامية.
والأمر الذي يتخذه الإنسان يرجو به ثواب الله ويزهد عما في أيدي الناس من الحمد والثناء والمال والعطاء، ونحوه مما قد تتطلع إليه النفوس، يجد من الله تسديداً وتوفيقا فيه، وينال في ذاته شرفاً وعزاً؛ لأنه يُبلِّغ عن الله ما أحل وما حرم، واقفا على سرب الناس يتلقف أيدي الموشكين على السقوط، ومباركاً جهود المنقذين، ومهنئاً للناجين بما وصلوا إليه.
هذه الفئة من الناس وحدها هي التي تستحق الوثوب في هذا المضمار، لا الذين اتخذوا من الحسبة مكسباً ومصدر تمويل لذواتهم، أو تكبير لنفوسهم، بعيدين عن شروط الكمال وسمات العدالة ومعالم المروءة ورفيع الخصال.
ولهم الأولوية ما دامت أيديهم بيضاء، مكفوفة لم تمتد لذي دينار، إن مُدَّت مُدَّتْ سبابتها مرتين، مرة في تشهدها مذَكِّرة بالله، ومرة تشير إلى ذي منكر توبخه أو ذي معروف تثني عليه.
ذكر ناصر المروزي أن بعض الفقهاء المختلفين إلى القفال احتسب على بعض أتباع متولي مَرْو، فرفع ذلك إلى السلطان محمود، فقال: أيأخذ القفال شيئا من ديواننا؟
قال: لا.
قال: فهل يتلبس بشيء من الأوقاف؟.
قال: لا.
قال: فإن الاحتساب لهم سائغ دعهم [7].
إنهم هم المقبولون عند الكبير والصغير والراعي والرعية، فبهم يقتدى، وعلى حذوهم يحتذى، وعلى أثرهم يقتقى.
وليس هذا قانون الاحتساب، إنما هو الحال التي توفرت فيها دواعي القبول، وموانع الفضول، ومساوئ الظنون، كي لا يلقى المحتسب عبارات الانتقاص، وليكون هو اليد العليا في كل شأن.
ومن جانب آخر، قد يفضي انتظار الجزاء العاجل إلى التقصير في الاحتساب والتواكل والتسويف والمعاوضة التي لا تحمد في مقام الحسبة، والمفاوضة التي لا تنبغي حين التواصي بالحق والصبر..
وبعد، فإذا تقرر هذا، فإن أمر الاحتساب كغيره من أمور الشريعة التي يجوز الأخذ عليها، كالتعليم والإمامة، والولاية والأذان وغيرها، فليس المطلوب أن يُعْرِضَ المحتسبُ صفحاً عن الأجرِ المادي؛ طلباً للثواب من الله، بل ما جاء دون استشراف فلا غبار عليه أن يأخذه قريرة به عينه، أو حتى قُرِّر له أخذه جزاء عمله وتفرغه وحسبته ما دام حسناً في نيته، مخلصا في حسبته.
وإن رجلاً يدعو إلى الله، ويعرف الناس بالطريق إليه، أولى بأن يعطى وأن يأخذ، وليس عجباً بل العجب من الآكلين بأمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف والمتخذين دعوتهم إلى الانحلال مصدر عيش، أولئك الذين اعتاد الناس منهم المنافسة في كسب الأرباح والأموال، ويعيشون بها ولأجلها، ويتكلون عليها، وتتكل عليهم، فإذا ما ولي أحدٌ أمراً من أمر الاحتساب والدعوة إلى الله له فيها جُعْلٌ معلوم من قبل الهيئات القائمة والجهات المسؤولة، نادى منادي الحسد: بأي حقٍ صُرفتْ؟، وربما أصدر من ضجته ما يتقمص قميص الفتوى فيحرم من تلك العطايا بقدر ما يغيظ نفسه!.
مع أن العلماء قد ذكروا جواز أخذ المحتسب أجراً على عمله الاحتسابي، وجعلوا ذلك فرقاً من الفروق بينه وبين المتطوع [8].
وذلك لأن "المحتسب المنصوب [المعين] كفايته في بيت المال من الجزية والخراج ونحوهما؛ لأنه عامل للمسلمين، محبوس لهم، فيكون كفايته في مالهم، وصار كأرزاق الولاة والقضاة والغزاة والمفتين والمعلمين من الملتقط بخلاف المتطوع؛ لأنه غير محبوس لذلك" [9].
هذا، ولئلا يتخذ أحدٌ ما بثَّته السطور ذريعة لنفث ما في الصدور، ينال بها في أعراض الثلة المباركة أينما كانوا، فالكلام في هذا الشأن إنما هو تذكير وترشيد، لا يفهم منه أن ثمت خللا في أوساط المحتسبين، يخرم مروءتهم أو يجرح عدالتهم، فالواقع في الغابر والحاضر كفيل شهيد بعلو مرتبة المحتسبين، ورفعة شأنهم، وأنهم لا يرومون جزاء ولا شكوراً، فليدرِ المحتسَبُ عليه أنه إن ائتمر بما أمروه أو لم يأتمر، أو انتهى عما نهوه أو لم ينتهِ ما أخسرهم مما هم فيه شيئاً، فعملهم دائم، وسعيهم دائب، فمنهم الإفادة، وبهم الإشادة، فجميعاً هم أو أشتاتاً كل واحد فيهم ما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى..
[1]: انظر لسان العرب مادة حسب.
[2]: - صحيح البخاري: (1/455) برقم: (1290).
[3]: تفسير ابن كثير: (3/ 306) دار الفكر.
[4]: التحرير والتنوير: (22/214).
[5]: تفسير السعدي: (ص: 693)
[6]: معالم القربة في طلب الحسبة (ص: 9) لمحمد بن محمد الشافعي المعروف باب الأخوة.
[7]: سير أعلام النبلاء: (17/407).
[8]: انظر: الأحكام السلطانية: (1/486) للماوردي، وأصول الدعوة: (1/196) للدكتور عبد الكريم زيدان.
[9]: نصاب الاحتساب: (ص: 9) لعمر بن محمد السنامي.
علي بن أحمد المطاع
- التصنيف:
- المصدر: