تأملات بين ما خلق تعالى وما شرع
من هنا نطمئن على الحياة وأن الله تعالى لن يدعها للظلم، ولا بد أن يلتقي ما قدّر مع ما شرع، فيحق الله تعالى العدل بقدره كما أمر تعالى خلقه بالعدل، خاصة إذا اتجهت الجموع لإقامة العدل والمنهج الرباني..
يقول تعالى: بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ . الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ . وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ . وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ . أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ . وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ . وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ . فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ . وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ . فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:1-13].
في هذه الأيات مسائل ومجالات..
1- ذكر تعالى مجالَيْ الشرائع الربانية الممثلة في (القرآن)، ومجال (الخلق)، مجال كلام الله تعالى وخلقه.. وكلاهما من باب الرحمة.. بل قدم اسم الرحمن المستغرق لمعنى الرحمة، فيما أمر وشرع، قبل ذكره لمقتضاه فيما خلق، فقدم اسم الرحمة وجعلها عنوانًا لأمره ولخلقه، وقدم أمره على خلقه لفرط الرحمة فيها وتنبيهًا لخلقه، إذ شعورهم بالرحمة في الخلق والربوبية أسبق من شعورهم فيها في باب الأمر والعبودية فاحتاجوا إلى التنبيه.
وفي هذا السياق ذكر تعالى في مواطن عديدة رحمته فيما أنزل تعالى فقال تعالى: {حم . تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:1-2]، وقال تعالى (حم . وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ . إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان:1-3]، إلى قوله {أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ . رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان:5-6]، وهنا قال: {الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ}، وقال تعالى عن عموم الرسالة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:106].
2- وفي هذا إشارة إلى أنه لا ينضبط الإنسان إلا بشريعة الله تعالى، كما لا ينضبط الخلق إلا بأمره تعالى، وأن من خرج عن شرعه تعالى ففوق أنه خرج عن دين الله تعالى فقد اضطرب وخرج عن نظام الحياة وفطرتها ويسرها وجمالها.
3- أن شريعة الله تعالى كخلقه؛ فكما في خلقه تعالى الحكمة البالغة والانضباط الشديد والدقة المتناهية {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} يعني بحساب دقيق، فكذا الحكمة البالغة والانضباط الشديد والدقة المتناهية في شرعه، وكما يكتشف الناس كل يوم ما يبهرهم في خلقه وما يعرفون عنه من رحمة الله وغايات خلقه، فكذلك شرعه تعالى وما يعرفه الناس كل يوم عن حكمة وغاية ما شرعه تعالى، فكما يتعلمون مما خلق، كذلك يتعلمون مما شرع تعالى.
وكما اشتمل خلقه على الجمال واليسر، كذلك شرعه تعالى وما فيه من جمال خُلق ونظام ومنهج وسمات وأخلاق وخصائص، وكذا يسر ما شرع تعالى، كما لا تنتهي الاختراعات والاكتشافات في الخلق، فكذلك لا ينتهي الاجتهاد على أصول الشريعة وضوابطها، وكما لا يقصر الكون في إمداد الإنسان بحاجاته حتى ليفاجأ بما أودع فيه من قوى وطاقات وكنوز، فكذلك ما شرعه تعالى: لا يقصر في إمداد الإنسان بما يحتاجه من معرفة وقواعد وكنوز نفسية وروحية وقانونية، وشرائع تنظيمية وطاقات علمية ومعرفية وضوابط ربانية منظمة وخيّرة تمنع من الفساد والانحراف.
وكما يفسد الناس كونَهم بانحراف أفعالهم، وما يعانونه عندما يعتدون على (الطبيعة)، كذلك يفسدون إذا تحايلوا على شرعه تعالى أو حرفوه أو رفضوه.. فكما يصرخون حتى يرجعوا إلى اعتدال ما خلق تعالى، فكذلك يصرخون حتى يعودوا إلى ظلال شرعه تعالى.
الخلق ليس حملاً على الإنسان بل ظلال يلجأ إلى كنفه ويتقلب في خيراته، فكذلك شرعه تعالى ليس حملاً على الإنسان وقيودًا، بل ظلال يتفيؤها ويتقلب في خيراتها، وما فيه من قيود هي موانع سقوط، الخلق والكون ليس نهاية الحياة بل هو مجال الامتحان لحياة أخرى وموصلاً إليها، فكذلك ما شرع تعالى يفضي بالإنسان إلى نعيم أبدي وتلذذ بجوار من تقرّب إليه أثناء الحياة الدنيا.
4- ذكر تعالى مجالات خلقه: المجال الإنساني، والكون بمجالاته: المجال السماوي {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}، {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}، والمجال الأرضي {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} النجم النبات بلا ساق، المفترش على الأرض، على أحد القولين، {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ}، فكذلك مجالات ما شرعه تعالى وتناولته التنظيمات الربانية للحياة بمجالاتها.
5- كما ذكر تعالى ظاهر خلقه.. ذكر روحه وحقيقته وأنه عابد ساجد، فذكر تعالى {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}، وهذه حقيقة ذكرها تعالى في مواطن أن خلقه مسبح {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء من الآية:44] وأنه مصلٍ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور من الآية:41]، وأنه ساجد: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ} [الحج من الآية:18]، وبالتالي فالخضوع لما أنزل تعالى هو توافق مع روح الكون وتوافق مع فطرته وتوجهه، وبالتالي هو راحة للعبد وتصالح مع نفسه التي بين جنبيه، وهي جزء من فطرة الكون وانتظام الإنسان كأحد المخلوقات الساجدة لرب العالمين تعالى.
6- لم يذكر تعالى مجالات الخلق وجمال الكون في معرض جمال محلِّق كما يفعل الشعراء والأدباء، بل مع الجمال الباهر الآخذ بالنفس والخلق الرائع يذكر تعالى جدية الحياة وجدية ما خلق؛ فيذكر ما ترتب على خلق السماء وارتباط ذلك بالأرض وحياة الإنسان في مجال القيم كما في مجال المادة، فذكر تعالى ما يقتضيه ذلك من إقامة العدل في حياة الإنسان لاستمراره واستمرار الحياة {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ . وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}، فالتأمل في الخلق وإتقانه وجماله يقتضي مردودًا عمليًا يتمثل في دقة العدل في أدق المعاملات في البيع والشراء وحقوق الخلق، ومن باب الأوْلى في باب القيم ووزن الأشخاص وما هو أعظم من الكيل والوزن المادي.
ومن هنا نطمئن على الحياة وأن الله تعالى لن يدعها للظلم، ولا بد أن يلتقي ما قدّر مع ما شرع، فيحق الله تعالى العدل بقدره كما أمر تعالى خلقه بالعدل، خاصة إذا اتجهت الجموع لإقامة العدل والمنهج الرباني..
فالحمد لله على ما خلق والحمد لله على ما أمر، وإنا نقبل أمر الله وشرعه كما نقبل خلق الله تعالى، وكما نشعر بالضآلة أمام ما خلق فكذا نشعر بالضآلة أمام ما أمر.
فالحمد لله رب العالمين.. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين فضلاً منك ونعمة، وأقم اللهم فينا شرعك وظللنا بمنهجك وحكّم فينا كتابك وما أنزلت، كما أنعمت علينا بما خلقت.
- التصنيف: