تأملات في آية
نقول للذين مَلَّكَهُم الله أمرًا على الناس كونوا ناصِحين لهم، ولا تَغشوهم، فإنْ فعلتُم سَعِدتُم ونجيتُم، وإنْ كانتِ الأخرى فلا يَجْني جانٍ إلا على نفْسه.
الحمدُ لله ذي المَنِّ والعطاء، يُوالي على عباده النَّعْماء، ويُرادِف عليهم الآلاء، أحْمده تعالى حمدَ معترفٍ بما أنعم عليه في الشدَّة والرَّخاء، وأشكُره على حالِ السرَّاء والضرَّاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحْدَه لا شريكَ له تنزَّه عنِ الأنداد والشُّركاء، وتَعالى عن الأمثالِ والنظراء، هو الأوَّل بلا ابتِداء، والآخِر بلا انتهاء، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه إمام الحُنفاء، وسيِّد الأصفياء، صلَّى الله عليه وعلى آلِه الأوفياء، وصحابته الأتْقياء، والتابعين ومَن تبعهم بإحسانٍ ما دامتِ الأرض والسَّماء، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
فلقدْ تأملتُ آيتين في كتابِ الله تعالى وقفتُ معهما طويلاً، وأرعيتُ لهما سمْعي وأُذني، وجميعَ حواسي، حتَّى أخذتَا بمجامعِ قلْبي، وسكنتَا لُبِّي وعقلي، وهما قول الله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى . فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:15-16].
السَّاعة حقٌّ لا شك في ذلك، وكان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذا قامَ مِنَ الليل متهجِّدًا يقول: « » (رواه البخاري ومسلم مِن حديث ابن عباس رضي الله عنهما).
والله عزَّ وجلَّ أخْفَى علينا علمَ الساعة؛ ليعلمَ الصادق مِن الكاذب، وليتبيَّن الولي مِن الدَّعي، وليعرفَ العامل المجتهد الذي أفْرَغ وقتَه وجهدَه لخِدمة ربِّه وطاعة مولاه، مِن المُقصِّر المفرِّط الذي تمنَّى على الله الأمانيَّ.
وقد استأثَر ربُّنا سبحانه وتعالى بعِلم الساعَة، فلا يعلم وقتَ قِيامها مَلَك مُقرَّب، ولا نبيٌّ مُرسَل، لماذا؟ ليُجازي كلَّ إنسان بما عمِل، فمَن ظُلم في الدنيا سيجد في الآخِرة حقَّه، وسيأخذ مِن الذي ظلَمه، وسيقتصُّ منه، ومَن تَجرَّع الصابَ والعلقمَ في الدنيا، ولم يجد له مأوًى، سيجد في الآخِرة متنفَّسًا، فالدنيا بُستان الآخِرة، كلٌّ يقطف مِن ثمارها على حسبِ ما يُيسّر له، وحسابات الآخِرة تختلف عن حسابات الدنيا.
ونقول للذين مَلَّكَهُم الله أمرًا على الناس كونوا ناصِحين لهم، ولا تَغشوهم، فإنْ فعلتُم سَعِدتُم ونجيتُم، وإنْ كانتِ الأخرى فلا يَجْني جانٍ إلا على نفْسه.
وانظر معي بعَيْن التأمُّل لهذه القِصَّة، ترَ الفرق بيننا وبين مَن سبَقَنا مِن هؤلاء العُظماء.
رَوى أبو نعيم الأصبهانيُّ بسنده، قال: حدَّث الفُضَيلُ بن الربيع، قال: "حَجَّ أميرُ المؤمنين هارون الرشيد عليه رحمة الله قال: ثم أتاني وخرجتُ مسرعًا، أقول له: لو أرسلتَ إليَّ لأتيتُك، قال: ويحَك! قدْ حاك في نفْسي شيءٌ، فانظر لي رجلاً أسأله، فقلتُ له: ها هنا سفيان بن عُيَينة، فقال: امضِ بنا إليه، قال: فأتيناه فقرَعْنا الباب، فقال: مَن؟ قلت: أمير المؤمنين، فخرَج، وقال: لو أرسلتَ إليَّ أتيتُك..
فحادَثه ساعة ثم قال له: أعليك دَيْن؟ قال: نعَمْ، قال: اقضِ دَينه، فلما خرجْنا قال: ما أغنى عنِّي صاحبُك شيئًا، انظرْ لي رجلاً آخرَ أسأله، قلت: ها هنا عبد الرزَّاق بن همَّام، قال: امضِ بنا إليه، فأتيناه، فقرَعْنا الباب وخرَج إلينا، فإذا هو بأميرِ المؤمنين، فقال: لو أرسلتَ إليَّ لأتيتُك، فحادَثه ساعة، ثم قال: أعليكَ دَين؟ قال: نعم، قال: يا أبا عباس، اقضِ دَينَه، قال: فلمَّا خرجْنا قال: ما أغْنى عني صاحبُك شيئًا، انظرْ لي رجلاً أسأله..
قلت: ها هنا الفُضَيلُ بن عِياض، قال: امضِ بنا إليه، قال: فأتيناه، فإذا هو قائمٌ يتلو آيةً مِن القرآن يُردِّدها، قال: فقرعتُ الباب فلم يردَّ، فقلت: أجبْ أميرَ المؤمنين، قال: فاستمرَّ في قراءته، فقلت: أمَا عليك طاعة، قال: بلى، لكن ليس للمؤمِن أن يُذلَّ نفسه، ثم نزَل ففتح بابَ الدار، ثم ارْتقَى إلى غُرفة مِن الغُرَف، وأطفأ السراج، والْتَجأ إلى زاوية في بيته، قال: فدخَلْنا فجعلنا نجول بأيدينا عَلَّنا نجده، فسبقتْ كفُّ هارون إليه، فقال: يا لها مِن كفٍّ ما ألينَها إنْ نجَت غدًا مِن عذاب الله عزَّ وجلَّ! فقلت في نفسي: ليكلمنَّه الليلةَ بكلام قويٍّ مِن قلْب تقي.
قال: خُذْ رحمك الله لمجيئِنا إليك، وأعطاه مالاً، فقال: إنَّ عمرَ بن عبد العزيز لمَّا وَلِيَ الخلافةَ دعَا سالمَ بن عبد الله، ومحمدَ بن كعب، ورجاءَ بن حيوة، فقال لهم: إني قد ابتليتُ بهذا البلاء، فأَشيروا عليَّ، فعدَّ الخلافةَ بلاءً، وعددتَها أنت نِعمة، خُذْ مالَكَ لا أُريده، ثم واصل فقال: قال له سالِم: إنْ أردتَ النجاة مِن عذابِ الله، فصُمْ عن الدنيا، وليكن إفطارُك منها الموت، وقال له محمَّد بن كعب: إنْ أردتَ النجاةَ مِن عذاب الله، فليكن كبيرُ المؤمنين لك أَبًا، وأوسطُهم أخًا، وأصغرُهم ابنًا، ووقِّرْ أباك، وأكْرِم أخاك، واحْنُ على ولدك، وقال له رجاء: إنْ أردتَ النجاة غدًا مِن عذاب الله، فأحِبَّ للمسلمين ما تُحبُّ لنفسك، واكْرَه لهم ما تَكْره لنفسك، ثم مُتْ إنْ شئت..
وإني أقول لك يا أمير المؤمنين: إنِّي أخاف عليك أَشدَّ الخوفِ مِن يوم تزلُّ فيه الأقدام، فهل معَك رحمك الله مَن يُشير عليك بمِثل ذلك؟ فبَكَى هارون بكاءً شديدًا، حتى غُشِي عليه، فقلتُ له: ارْفُق بأمير المؤمنين، فقال: يا ابن الربيع؛ تقْتُله أنتَ وأصحابُك وأرْفُق به أنا، النُّصْح رِفق، النُّصح رِفق، ثم أفاق الرشيد، وقال: زِدني رحمك الله فقال: يا أميرَ المؤمنين، بلغَني أنَّ عاملاً لعمرَ بن عبد العزيز شُكي إليه، فكتَب عمرُ إليه قائلاً: يا أخِي، أُذكِّرك طولَ سهر أهلِ النار في النار مع خُلودِ الأبَد، فلمَّا قرأ الكتابَ طوى البلادَ، حتى قَدِم على عمرَ، فقال له عمر: ما أقْدَمَك؟
قال: خلعتَ قلبي بكتابكَ، والله لا أعود إلى ولايةٍ حتى ألْقَى الله عزَّ وجلَّ فبكَى الرشيدُ بكاءً شديدًا، ثم قال: زِدني رحمك الله فقال: يا حسنَ الوجه، أنتَ الذي سيسألُكَ الله عزَّ وجلَّ عن هذا الخَلْق يوم القيامة، فإنِ استطعت أن تَقيَ هذا الوجهَ النارَ فافعلْ، وإيَّاك أن تُصبح وتُمسي وفي قلبِكَ غِشٌّ لأحد مِن رعيتك؛ فإنَّ نبيَّنا صلَّى الله عليه وسلَّم قال: « »، فبكى هارون بكاءً شديدًا، ثم أفاق، وقال له: أعليك دَيْن؟ قال: نَعَم، دَيْن لربِّي لم يحاسبْني عليه، فالويل لي إنْ سألني، والويل لي إنْ ناقشني، والويل لي إنْ لم أُلْهَم حُجَّتي، ثم انفجَر باكيًا مضطربًا كما يضطرب العصفورُ المبلَّل بالماء، ثم هدَأ، فقال له هارون: أمَا عَلَيْك دينٌ لعِباد الله نَقضيه عنك؟ قال: إنَّ ربي أمرَني أن أَصْدُق وعْدَه، وأطيعَ أمره، فقال جَلَّ وَعَزَّ : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُم من رزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56-58].
قال: هذه ألْف دِينار، تَقوَّ بها على عبادتِك، وأنفِقْها على عيالك، وسُدَّ بها حاجاتِهم.
قال: سبحانَ الله! أدلُّك على طريقِ النجاة، وتُكافئني بمِثْل هذا سلَّمك الله! ثم صَمَتَ فلمْ يتكلمْ بعدها.
قال: فخرجْنا من عنده، فلمَّا صِرْنا إلى الباب، قال هارون لحاجِبه: إذا سألتُك أن تدلُّنَي على أحدٍ فدُلَّني على مِثل هذا، فلمَّا انصرفْنا قال: دخلتْ عليه امرأتُه، فقالت: يا هذا، قدْ ترَى ما نحن فيه مِن ضِيق الحال، فلو قبلتَ المال لتسدَّ به حاجتَنا.
فقال لها: إنَّما مَثَلِي ومَثَلكم كمَثَل قوم كان لهم بعيرٌ يأكلون مِن كسْبه، فلمَّا كَبِر نَحروه فأكلوا لحمَه، فلمَّا سمع هارون كلامَه وهو على الباب، قال: نرجع إليه فعَسَى أن يقبلَ الدراهم، فلمَّا علم الفضيل بعودتهم، خرَج فجلس على سطحِ الغُرْفة، فجاء هارون وجلَس إلى جنبه، فجعَل يُكلِّمه فلا يُجيبه، فبينما هم كذلك إذ خرَجَتْ جاريةٌ فقالت: يا هذا، قد آذيتموه هذه اللَّيْلة، دعوه مع كتابِ الله وانصرِفوا رحمكم الله" (ا.هـ، حلية الأولياء بتصرف يسير:8/ 105 107).
قال أحدُ الدعاة وفَّقه الله: يُمكننا أن نأخذَ مِن هذه الحادثة عِبرتين:
أولاً: أنَّ طلب النصيحة مِن صاحب المنزلة والسعي للبَحْث عنها في مظانِّها، وطَرْق الأبواب لها، وتلمُّس الوسائل للحصول عليها عقلٌ ورُشْد، وأي رشد! لأنَّ إتيانَ النصيحة إلى صاحِب المكانة يجعلها في مركزِ الضَّعْف، والعكس بالعكس؛ إتيانه للنصيحة يجعلها في مركَز القوَّة.
ثانيًا: أنَّ المؤمنين إخوةٌ لا تَظالُمَ ولا تخاذُل ولا تحاقُرَ بينهم، الصغير ابن، والوسط أخ، والكبير أب، جسدٌ واحد، وأمَّة واحدة، قد قالها عمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه لإخوةٍ له خرَجوا يريدون نشْرَ دِين الله في الأرْض بأمره خَلْف السهول والبحار، والفيافي والقِفار، فقال لهم: "سِيروا على بركةِ الله، وأنا أبو العيال حتى تَعودوا"، قالها؛ حتى لا يترك في قلوبِهم شغلاً بهؤلاءِ الصِّغار، فهل تستطيع أُمَّةُ الإسلام أن تُربِّي مثلَ هذه النماذج؟ نعمْ والله.
إنَّها لأُمَّة خيرٍ يتعاقبه جيلٌ بعدَ جيل، ولن تعدَم الأمُّةُ وسائلَ لتربية مِثل هذه النماذج، وأعْلى وسيلةٍ عِلمُ كلِّ فرد وهو على ثغرٍ من ثغور الإسلام أنَّ المسؤولية تكليفٌ لا تشريف، وأنَّ له شيئًا وعليه شيئًا، فليأخذ ما له مِن حق، وليَقُم بِما عليه مِن واجب، وليكن مع ذلك أصمَّ سميعًا، أعْمى بصيرًا، سكوتًا نَطوقًا، والله غالبٌ على أمره، ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون.
والمتأمِّل لهذه القِصَّة يجد أنَّ القلوب الحيَّة، والنفوس الأبيَّة، تخضع لأوامرِ الله، وتستجيب لمرادِ الله، لا سيَّما إذا أيقنت بالحسابِ والجزاء، والبعْثِ بعدَ الموت، فجعلت التقوى شعارَها، واليومَ الآخِر نُصبَ عينيها، فلا يَظلم نفْسَه، ولا أحدًا ممَّن له ولايةٌ عليه، والعباد المظلومون يَعجُّون بالدعاء، ويرفعون أيديَهم إلى السماء؛ لينصرَهم الله، فنَسمع أنين اليتامَى، وصريخَ الثَّكالَى، ونشيجَ المكلومين والحيارَى، ولا مُجيب، والله الموعِدُ.
أيها الأخ الكريم: ليس مِن شأنِ المسلِم المتَّقي لله حقًّا أن يَدَعَ أخاه فريسةً في يدِ مَنْ يظلمه أو يُذلُّه، وهو قادرٌ على أنْ يَنصُرَه، مَن أُذِلَّ عنده مؤمنٌ فلم ينصره وهو قادرٌ على أن ينصرَه، أذلَّه الله على رؤوسِ الخلائق يومَ القيامة.
ثبَت عندَ ابن ماجه في سننه بسندٍ حسن عن جابر رضي الله عنه قال: "لمَّا رجعتْ مهاجرةُ البحر مهاجرة الحبشة إلى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: « »، قال فِتيةٌ منهم: بلى يا رسولَ الله، بينما نحن جلوس، مرَّتْ بنا عجوزٌ من عجائزِ رهابينهم، تحمل على رأسها قُلَّةً مِن ماء، فمرَّتْ بفتًى منهم، فجعل إحدى يديه بيْن كتفيها ثم دفعَها، فخرَّت على رُكبتيها، فانكسَرتْ قُلَّتها، فلمَّا قامتِ التفتَتْ إليه، وقالت: سوف تعلم يا غُدر! إذا وضَع الله الكرسيَّ، وجمَع الأولين والآخرين، وتكلمتِ الأيدي والأرجُلُ بما كانوا يكسبون، كيف يكون أمْري وأمرك عندَه غدًا؟ فقال صلَّى الله عليه وسلَّم : « »، « »، إنَّ مِن الضعفاء مَن لو أقسم على الله لأبرَّه.
{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72]، كم يَستغيثون؟ كم هم يَئِنُّون؟ وقد يسأل سائلٌ ويقول: ولماذا نحيَّتَ بحديثِك إلى الظلم دون غيرِه من الأخلاق الذميمة؟
فالجواب: أنَّ الظلم مرتَعُه وخيم، والإنسان قد يَظلم ويعتقد أنه عادِل، ويُفسِد ويظن أنه صالِح، ويَجْني على أخيه بالسوء ويحسب نفْسَه وليًّا، فليس المقصد الظلمَ بمعناه الحرْفي كأخْذِ حقٍّ، أو سَلْب مِلْك للغير، ولكن أقصد المعنى العامَّ لهذه الكلمة، واللبيبُ بالإشارة يَفْهَم.
فلَنا في أرجاء المعمورة إخوةٌ فُعِل بهم الأفاعيل؛ مِن قتْلٍ وتشريد، وتجويعٍ وتهديد، وقتْل للذريَّة، واغتصاب للنِّساء، بدعوى إقامة الحريَّة! في خِسَّة وصَفاقة مِن العالَم الغربي والعربي، والواقع يَحكِي بلسان الحالِ صِدقَ ما أقول، إخوانُنا في كثيرٍ مِن بلاد المسلمين يَئِنُّون ويَصرُخون، وما يَجري في فِلَسْطين والعراق وسوريا وبورما خيرُ شاهد على ذلك، مِن همجية صليبيَّة صِهْيَونية، وتورُّط وخِيانة رافضية، واستعباد وإذلال لأهل السنَّة، والله الموعِد، وذلك تحتَ مُسمَّى المنظَّمات الدولية، والأعراف السِّلمية، والشرعية الدولية!
كم في المسلمين مِن ذوي حاجة، وأصحابِ هموم، وصرْعَى مظالِم، وفقراء وجرْحى قلوب، ولا مجيب!
يقول بعض الفضلاء: لا تكن العصافيرُ أحسنَ مروءةً منَّا، إذا أُوذي أحدُ العصافير صاح، فاجتمعتْ لنُصرته ونجْدته كلها، بل إذا وقَع فرخٌ لطائر منها طِرْن جميعًا حولَه يُعلِّمْنَه الطَّيران؛ فأين المسلم الإنسان؟! انصر الحقَّ والمظلوم حيث كان، ولا تطمعْ بوسام التقوى حقيقةً إلا إنْ كنتَ فاعلاً متفاعلاً، نصيرًا بكلمة، بشفاعة، بإعانة، بإشارة خير، بدعاء، بعزْم ومضاء، إنْ فعلتَ ذلك وصلتَ إلى العُلا، ورُمتَ الشَّرَفَ والسُّموَّ، وبلغتَ بالنفْس إلى ما تتمنَّى، وتصعَد بها إلى حضرةِ القُدس.
ولكنِ انظرْ إلى واقع الأمَّة المرير، وتربُّصِ الأعداء بها، وتشتُّت أمَّتنا قبلَ تربُّص أعدائِنا، وإنفاقها ببذخ وإسراف، ثم إذا دُعِيت إلى البذل والتضحية تَعلَّلتْ وادَّعتِ الفقر، هنا يأتيك كلامُ الشيخ البشير الإبراهيمي متعجِّبًا: "إنَّ أُمَّةً تُنفِق مِئات الملايين في الشهر، على الدُّخان، والمحرَّمات، ومثلها في السَّنَة وأمثالها على الكماليات، ثم تَدَّعي الفقر إذا دعاها داعِي البذل لمَا يُحييها، لَأُمَّةٌ كاذبة على الله، سفيهةٌ في تصرفاتها، ومِن عدل الله فيها ألا يُغيِّر ما بها حتى تتوبَ وتؤوبَ لباريها؛ {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]".
يقول أحد الدعاة: "إنَّ الحروب الطاحِنة التي شُنَّتْ وما زالت، قد تركَت في جسمِ الأمَّة ندوبًا لا تكاد تندمِل، وفئامًا مِن اليتامى والأرامل، والأيامَى والمعاقين قد مسَّهم الضُّرُّ، وزاغَتْ مِنهم الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، فقدوا العائلَ والكافل، وآلة العمل، فَقَدوا المنازل والديار، فما لهم إلا الكِرام منازل، فهلمَّ هلمَّ فلْنُنسِ اليتيمَ حرارةَ اليُتم، والأيمَ حرارةَ الثكل، وذا الإعاقة أنه عالة؛ هل تُنصَرون وتُرزقون إلا بضُعفائكم؟! امسكوا على أحزانِهم بيدٍ مِن عطْف وحَنان، واقطعوا تعاملَكم مَع مَن جرَّعهم الآلام والأحزان، إنهم يعتمدون عليكم ليَحيوا، ويَنهبوكم في حرْب اقتصاديَّة تسعَى لإفقاركم، ويأتمرون بِكم ليقتلوكم، وما شرٌّ مِن الأولى إلا الثانية" (ا.هـ).
وفي هذا الجوِّ المليء بالقهْر والظُّلم والاستبداد مِن بعض مَن لا خَلاقَ لهم، نجد متنفَّسًا وفرَجًا لأناسٍ تنسَّموا عبقَ التاريخ، وتألَّقوا في سماء العِزِّ والعُلَى، باجتهادهم في طاعةِ مولاهم، ولكن لا مُعينَ لهم ولا ناصِر، فيقرع سمعَك هذه الآيةُ الكريمة؛ لكي تتسلَّى بها: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، ولا بدَّ للإنسان أن يَحبِسَ نفسه مع أهل الطاعة، ويصبرَ معهم، وقد يمرُّ بالإنسان وقتٌ يتمنَّى قيام الساعة في وقت الفِتن والمحن، حينما ينزل به ما لا طاقةَ له على دفْعِه، فإلى أين المفرُّ والملجأ، يقرع سمعَك قولُ ربك عزَّ وجلَّ منوهًا لك أنَّ ها هنا ما تريد.
فنحن نعلم أنَّ هناك قُطَّاعَ طرق في الوصول إلى الله، وبيَّن ذلك نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله: « » (رواه أحمد في مسنده، وحسَّنه الشيخ شعيب الأرناؤوط).
"فلا يَنبغي للإنسانِ أن يتبع مَن كذَّب بالساعة، وأقْبل على ملاذِّه في دنياه، وعصَى مولاه، واتبع هواه، فمَن وافقهم على ذلك، فقدْ خاب وخسِر" (كما يقول ابن كثير رحمه الله)، والمُكذِّب بالساعة كافر؛ لأنَّ حالَه كحالِ الدهريِّين الذين قالوا: "وما يُهلكنا إلا الدَّهْر"، والمُتَّبع لهواه فاسِق، وأصلُ كلِّ بلية في اتِّباع الهوى، وقد أَخْبَر النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه مِن المهلِكات: « » (رواه البزَّار في مسنده، والطبراني في الأوسط، وحسَّنه الألباني بشواهده في الصحيحة).
قال الشاطبيُّ رحمه الله: "مخالفة ما تهوَى الأنفُس شاقٌّ عليها، وصعبٌ خروجُها عنه؛ ولذلك بلَغ الهوى بأهلِه مبالغَ لا يبلغها غيرُهم، وكفَى شاهدًا على ذلك حال المحبِّين، وحال مَن بُعِث إليهم رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم مِن المشركين وأهلِ الكتاب، وغيرهم ممَّن صمَّم على ما هو عليه، حتى رَضُوا بإهلاكِ النفوس والأموال، كفَّار قريش خَرَجوا في معركة بدر وأهلكوا النفوس والأموال في سبيلِ الهوى الذي استقرَّ في نفوسهم، وتَمكَّن مِن قلوبهم، فحَرَمهم الاستفادةَ والاستجابة لدعوةِ الرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم الهوى سواءً كان عندَ أبي جهل وغيرِه هو: حبُّ الرِّئاسة، وسواءً كان عندَ سَدَنة الأصنام هو: حبُّ الأصنام، وسواءً عندَ الغوغائيِّين والتَّبَع هو: حبُّ مَن يعتقدون أنه قُدوتهم، وأنَّه مِن أئمَّتهم، وهم مِن أئمَّة النار في الحقيقة.
فإذًا هؤلاءِ رَضُوا بإهلاكِ النفوس والأموال ولم يَرْضَوا بمخالفة الهوى (أليس كذلك؟!) حتى قال الله تعالى في شأنهم: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]، وقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:14]" (الموافقات:2/264).
فانظرْ كيف ختَم الله عزَّ وجلَّ الآية بقوله: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه من الآية:16]؛ يعني: إنْ اتَّبعت هؤلاء كنتَ مِن الهالكين، فاجتنبْ طريقَهم، واحذر مسلكَهم، وإلا كنتَ معهم.
هذه كلماتٌ قليلات، في هذه الآياتِ الكريمات، ملَكَتْ هوى نفسي، وأثارتْ خاطري، وهي لي ولك، ولمَن يقوم على حِراسة ثغْرٍ مِن ثغور الإسلام، يُخشَى أن يُؤتَى الإسلامُ مِن قِبله.
- التصنيف: