قل هو من عند أنفسكم

منذ 2015-05-27

تأمل ما نحن فيه من البلاء، ومع هذا لا زال السفهاء يعبثون بثوابت الأمة، ويستهينون بأوامر الله.

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين وبعد:

ففي هذه الأيام نمر فيها بأحداث عظام، وبلايا جسام، وفتن ومحن، وتبدل للحقائق، وسوء وظلم، وأمراض وأسقام، وقحط وجدب، وغلاء وعناء.

وهذا يجعل الناظر بعين البصر والبصيرة ينظر إلى أسباب هذه البلايا، والرزايا.. فيا ترى ما سبب كثرة البلايا والفتن؟ والقحط والجدب؟ والأمراض والأسقام؟ والغلاء المتزايد؟

عند التأمل في آيات الله البينات نصل إلى حقيقة جلية، وبيان ظاهر مما يجعلنا نضع أيدينا على الداء ومن ثم بعده نسعى للعلاج. فكتاب الله لو أنَّا تدبرناه وعقلناه، لساقنا ذلك إلى العمل بمقتضى آياته، والإفادة من عبره وعظاته، ولَكَان الحال غير الحال، والأمور غير الأمور. تأمل قول الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].

 

فظهور الفساد في البر إما أن يكون بالقحط، وقلة النبات كما قاله عطية، وإما أن يكون بنقصان البركة كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وظهوره في البحر أي: البلاد التي على الأنهار بقلة مائها، وذلك كله: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] من المعاصي والآثام، فتحل بهم العقوبة على شيء من أعمالهم لا على أعمالهم كلها، كل ذلك لعلهم إلى ربهم يرجعون، وعن المعاصي يكفون ويتوبون.

ويقول ربنا تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدً} ا[الكهف:59] والظلم هنا شامل للمعاصي وأعظم المعاصي الشرك.

ويقول تعالى لصحابة رسوله صلى الله عليه وسلم لما خالفوا أمره في أُحد، فحل بهم ما حل، قال الله لهم: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165]، فالله تعالى يبين لهم لما استفهموا مستنكرين كيف يحل بنا هذا ونحن أصحاب رسوله، بل هو بيننا صلى الله عليه وسلم فيأتي الجواب الرباني {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ}.

 

فالنصر والتمكين والرزق والحفظ والصحة والعافية هي من الله ولا تسأل إلا منه وحده، ولا يطلب ما عند الله إلا برضاه، فكيف يطلب ما عند الله، والطالب هو يُبارز مولاه بالمعاصي ليل نهار.

والذي يتأمل في قانون السنن الإلهية يدرك ذلك، فإن سنن الله لا تحابي أحدًا، ولا تجامله، بل تجري على ما أراده الله وقضاه كونًا، فإن من سنة الله أن من حارب دينه، أو عصى أمره فإن قانون السنن له بالمرصاد، فقد قضت مشيئة الله وجرت بها سنته، أن تترتب مشيئة الله بالبشر على تصرف هؤلاء البشر؛ وأن تنفذ فيهم سنته بناء على تعرضهم لهذه السنة بسلوكهم.

يقول سيد رحمه الله تعالى حول قضية مخالفة أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم: "أنفسكم هي التي تخلخلت وفشلت وتنازعت في الأمر، وأنفسكم هي التي أخلت بشرط الله وشرط رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنفسكم هي التي خالجتها الأطماع والهواجس، وأنفسكم هي التي عصت أمر رسول الله وخطته للمعركة.. فهذا الذي تستنكرون أن يقع لكم، وتقولون:كيف هذا؟! هو من عند أنفسكم، بانطباق سنة الله عليكم، حين عرضتم أنفسكم لها. فالإنسان حين يعرض نفسه لسنة الله لا بد أن تنطبق عليه، مسلمًا كان أو مشركًا، ولا تنخرق محاباة له، فمن كمال إسلامه أن يوافق نفسه على مقتضى سنة الله ابتداء!" (في ظلال القرآن [1/496]).

 

إخواني من يؤمننا من مكر الله؟! هل بيننا وبين الله نسب؟! هل عندنا من الله عهد أن لا يأخذنا بعذابه؟!: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ . أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ . أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97-99].

إخواني: إن لنا فيما حولنا عبرًا وعظات، وبينات وآيات حروب طاحنات، وسنين معوزات، وتفرق وتشرذم، وخوف وعناء، وظلم وبلاء.

تأمل ما نحن فيه من البلاء، ومع هذا لا زال السفهاء يعبثون بثوابت الأمة، ويستهينون بأوامر الله، ويتجرؤون على محارمه، بل ويعيثون في الأرض فسادًا.

إن مكة هي بلد الله الحرام، وإن الله تعالى قد أجاب نبيه إبراهيم الخليل عليه السلام بأن يجعل مكة بلدًا آمنًا، وأن يرزق أهلها من الثمرات لكن بشرط من آمن بالله، وهذا البلد على حرمته، وعلو منزلته، قد عاقب الله أهله وأنزل فيهم قرآنًا لما كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل:112].

 

أيها العقلاء: لا حَلَ لما نحن فيه إلا بالعودة إلى الله وتصحيح المسار، وهذا الأمر ليس أمرًا اختياريًا بل واجب شرعيًا. فلا الخطط الاقتصادية، ولا رفع دخل الفرد، ولا التفكير والتخطيط ينفع مع العصيان، ومبارزة الديان، ومحاربة القوي المنان، فما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه.

إن العودة إلى الله مهما تكررت الذنوب هو المخرج من هذا التيه الذي نعيشه، وهذه البلايا المتتابعات التي بدأت تحل بهذا البلد. وبهذه المناسبة أذكر حديثًا له في القلب مكانة، وفي النفس عبرة، وهو يسوق العاصين إلى سلوك طريق التائبين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما يحكيه عن ربه عز وجل -: «إنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا -وَرُبَّمَا قَالَ أَذْنَبَ ذَنْبًا- فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ - وَرُبَّمَا قَالَ أَصَبْتُ - فَاغْفِرْ لِي فَقَالَ رَبُّهُ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي. ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ -أَوْ أَصَبْتُ- آخَرَ فَاغْفِرْهُ. فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا -وَرُبَّمَا قَالَ: أَصَابَ ذَنْبًا- قَالَ: رَبِّ أَصَبْتُ -أَوْ أَذْنَبْتُ- آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي. فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي -ثَلاَثًا- فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ» (أخرجه البخاري ومسلم).

فقوله صلى الله عليه وسلم: «وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ» معناه ما دمت تذنب فتتوب غفرت لك، وقال النووي رحمه الله تعالى: "إن الذنوب ولو تكررت مائة مرة، بل ألفًا وأكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته، أو تاب عن الجميع توبة واحدة صحت توبته".

 

إخواني: إن الله قد وعد من آمن واتقى بالرزق والبركات قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96].

وقال تعالى عن بني إسرائيل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة:66].

فلو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل بالعمل بما فيهما ومنه الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وما أُنزل عليهم من الكتب لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، فيوسع عليهم الرزق، ويفيض من كل جهة.

أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. وأسأله أن يذهب عنا وعن المسلمين الغلاء والوباء والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن بلاد المسلمين عامة.

 

المصدر: موقع د. ظافر بن حسن آل جَبْعَان
  • 2
  • 0
  • 4,451

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً