خطوات في التربية - (28) اليقين في القرآن العظيم (2)

منذ 2015-07-03

 

ثالثًا: وانظر الى أمثلة قليلة في إعجاز القرآن في لفظه ونظمه..
ـ ففي سورة الضحى ينفي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ربه تركه، وينفي عنه أن يبغضه ربه، لكن ينفي الترك بقوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} [الضحى من الآية:3]، لكن عند ذكر البغض لم يذكر معه كاف الخطاب، فلفظ البغض رغم أنه منفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لشدة بعده عن البغض، بل بُعد احتمال البغض، قال: {وَمَا قَلَى} [الضحى من الآية:3]، ولم يقل (ما قلاك)، هذا مع التوازن والجمال بين إيقاع آخر الآيات وتناسب الفواصل، لكن المعنى رائع كما ترى.

ـ وفي سورة النجم عندما ذكر قسمة المشركين أن لهم الذكور ولربهم بنات! وهي الملائكة ولهذا يعبدونها، بينما ينزهون أنفسهم عن البنات ويكرهون أن يكون لأحدهم أنثى! فلما كانت القسمة مع ظلمها هي قسمة غريبة ذكر معها تعالى لفظًا غريبًا كذلك {ضِيزَى} يدلك عند نطقه على غرابة القسمة، يدل بلفظه، كما يدل بمعناه: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى . تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم:21-22].

ـ وفي سورة هود يذكر استنكار نوح على قومه كيف يلزمهم بالهدى وهم يكرهونه، فذكر لفظًا يمثل بنطقه صعوبة إلزامهم وشدة كراهتهم {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود:28]، فلفظ {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} صعب النطق للدلالة على صعوبة إلزامهم الهدى، وهذا اللفظ في محل آخر ليست له هذه الوظيفة البلاغية العميقة.. وهكذا الكثير من الكنوز التي لا تنتهي في هذا الكتاب الكريم.

رابعًا: السمو التشريعي.
من حيث احتوائه على أفضل القوانين والنظم، وأرقى التشريعات في جميع المجالات الحيوية، وإتيانه بما عجز عن الإتيان به أرقى الحضارات البشرية حتى يومنا هذا.

فعلم المواريث الذي يلمزون به الإسلام يمثل سموًا وتوازنا بين التكاليف والأعباء وارتباطًا ببقية الأحكام، وعبر عنه القرآن في ثلاث آيات بينما يستغرق في القانون الأمريكي مجلدات، وكذا في غيره من القوانين من الظلم والحيف فتعطي بعضها للابن الأكبر كل الميراث دون غيره، وغير هذا من الجور والحيف. 

والطلاق الذي أباحه القرآن ونظّمه، وعابه المسيحيون إذا بهم يتحايلون على أحكامهم ليقروا حق الطلاق، فكل ما صادموا به القرآن وأحكامه خضعوا له وعلموا أنه الحق والأليق بالحياة والفطرة.

خامسًا: الإخبار بالأمور المستقبلية واحتواؤه على الاُمور الغيبية، إذ أخبرعن وقائع وحوادث مستقبلية تحقّقت بعده حرفًا بحرف.. 

كما جاء فيه البشارة بانتصار الروم على الفرس، وظهور الدين وتمكينه، وكفاية رسوله المستهزئين، و{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45] فكان يوم بدر، {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ} [المسد:1]، والإخبار بأنه سيموت كافرًا مستوجبًا للنار، وقوله: {سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الفتح من الآية:16]، فكانت حروب الردة وفارس والروم، وقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة من الآية:24]، وبالفعل لم يفعلوا، وقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت من الآية:53]، فكان كل اكتشاف علمي يبين صدق القرآن وصحة الرسالة، فلا يضيق بها القرآن، بل إنه يرحب بها فهي تخدم بيان صدقه.

سادسًا: من حيث سلامته عن التناقض والاختلاف في النظم والأسلوب، وفي المعنى والمضمون، رغم تدرّجه في النزول على النبي صلى‌الله‌عليه‌ وآله‌ وسلم، وتنزّله في ظروف مختلفة متباينة كيفًا وحالًا، وخلال ثلاث وعشرين سنة محفوفة بالمشاكل الجسيمة، والتطورات العنيفة.

سابعًا: من حيث تناوله الدقيق للوقائع التاريخية الماضية، حيث قصّها على نحو خال عن شائبة الأساطير والخرافات، وهو أمر يمكن معرفته بمقارنة القرآن الكريم مع التوراة والإنجيل، فقد قص نبأ نوح بتفصيل لم يعلمه أهل الكتاب، وكذا قوم عاد وثمود.

ثامنًا: من حيث اشتماله على إشارات رائعة عميقة إلى حقائق كثيرة من العلوم الطبيعية التي توصّل إليها العلم الحديث -في هذا العصر- بفضل الجهود الطويلة المضنية، وبواسطة المختبرات، والوسائل العلمية والتجارب والاختبارات العديدة.

ومنها: 
نظرية تلقيح الرياح للنبات {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر من الآية:22]، ونظرية تمدد الكون: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47]، ودوران الشمس {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} [يس من الآية:38]، الْتقاء البحرين بحاجز مائي من نوع آخر {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ . بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} {الرحمن:19-20]، معجزات خاصة بالجيولوجيا {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ:7]، و{وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل من الآية:15]. 

شهادات العلماء الغربين المتخصصين ومن هؤلاء العلماء (إميل درمنجم) الذي قال عن القرآن: "لا بُدَّ لكل نبي من دليل على رسالته، ولا بُدَّ له من معجزة يتحدَّى بها.. والقرآن هو معجزة محمد صلى الله عليه وسلم، فأسلوبه المعجز وقوَّة أبحاثه لا تزال إلى يومنا يثيران ساكن مَنْ يتلونه، ولو لم يكونوا من الأتقياء العابدين، وكان محمد صلى الله عليه وسلم يتحدَّى الإنس والجنَّ بأن يأتوا بمثله، وكان هذا التحدِّي أَقْوَى دليل لمحمد على صدق رسالته..." (راجع د. راغب السرجاني، الإعجاز العلمي في القرآن الكريم).

تاسعًا: من حيث قوّة احتجاجه على خصومه ومعارضيه، وما جاء به من حجج لم يسبق لها نظير في علم المناظرة والاحتجاج وكانت -ولا تزال- أنجح الحجج في إفحام الخصوم وإسكات المجادلين، والمشكّكين، بل وهدايتهم في أغلب الأحيان.

عاشرًا: من جهة ما جاء به في مجال الأخلاق والتربية الأخلاقية للفرد والمجتمع حيث استقصى الأخلاق الفاضلة، وحثّ على التزيّن بها بما توجبه الحكمة من البعث والترغيب، وأحصى الأخلاق الرذيلة وزجر عن التلوّث بها بما توجبه الحكمة، ويقتضيه الاصلاح من التخويف والتنفير وسلك في ذلك كلّه طريقة فريدة لها أبلغ الأثر حتى في أشد القلوب قساوة..

لقد سمع أبو جهل أنه أُنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان فيما يتلوه: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل من الآية:90]، فقال: "لقد علمت أنه يأمر بكل حسن وينهى عن كل قبيح".

حادي عشر: من حيث روحانيته البالغة التي تنفذ إلى الأعماق، وتأخذ بمجامع القلوب، وتستميل المشاعر، فإذا بآياته روح تحيا بها نفوس الخلق، ونور يضيء القلوب، لا تستطيع النفس دفعه، بل تتعرف عليه بسهولة، ويتسلل اليها في أدق مساربها وأعمق طياتها الدفينة فيخاطبها مباشرة وبسهولة ويحييها.

ثاني عشر: من حيث تناوله لأدق المعارف العقلية، والقضايا الاعتقادية الرفيعة التي لا تصل إليها أفكار البشر، ولا تبلغها علومهم، ممّا يتعلّق بالله سبحانه وصفاته وأسمائه وأفعاله، وما أخبر به من عوالم غيبية في الملأ الأعلى، والنشأة الاُخرى.

ثالث عشر: من حيث تناسب آياته وتتابعها، وتناسب فواصل الآيات، وتوالي ترتيب نزوله، وتوالي ترتيبه في المصحف على صورته الحالية، ومن نظر في هذا العلم علم سمو القرآن وعلوه على ما سواه.. إلى غير ذلك من الجهات والوجوه التي يقصر البيان عن الإحاطة بها، وإحصائها في هذا المختصر.

وما زال في هذا القرآن معارف وكنوز لن تنتهي، فهو: "لا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد" يعني لا يبلى عن كثرة التكرار والترديد بل يُفتح منه معارف وكنوز، كلما قرأه قارىء يطلب منه الهداية.

يُتبع إن شاء الله..

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

مدحت القصراوي

كاتب إسلامي

  • 0
  • 0
  • 1,222
المقال السابق
(27) اليقين في القرآن العظيم (1)
المقال التالي
(29) اليقين في البعث واليوم الآخر (1)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً