التحذير من الاغترار بالدنيا وطول الأمل

منذ 2015-07-23

قال صلى الله عليه وسلم: «مَن أحبَّ لقاءَ اللهِ أحبَّ اللهُ لقاءَهُ، ومن كرِهَ لقاءَ اللهِ كرِهَ اللهُ لقاءَهُ»

الحمد لله الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملًا وهو العزيز الغفور، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه التي يجددها في المساء والبكور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بيده مواقيت الأعمار ومقادير الأمور، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى كل عمل مبرور، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان في سائر العصور.

أما بعد:

أيها الناس، أُوصيكم وإياي بتقوى الله تعالى والتزوُّد من الأعمال الصالحة ما دامت الفُرص لكم سانحة، واعلموا أن الله سبحانه وتعالى كتب على الدنيا الفناء، وعلى الآخرة البقاء، ولا بقاء لما كُتب عليه الفناء، فكل شيء هالك إلا وجهه، وكل ملك زائل إلا ملكه: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَـٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ . مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر:39-40]، سمى الله الدنيا متاعًا، ومعروف أن المتاع ما يتمتع به صاحبه بُرهة ثم ينقطع، أشبه بزاد المسافر، فلا تركنوا إلى الدنيا، فتلهيكم عن الآخرة: {أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة من الآية:38].

فصاحب الدنيا المبتلى بحبها المغرور به فيها من المتاع تخدعه، حتى تزِل قدمه، ثم يجازَى بعمله، فما أسرع تقلب أحوالها وتبدُّل حياتها بالموت، وعمارها بالخراب وتفرُّق الأحباب، فمن أجال فكره في هذه الدنيا، وجدها محفوفة بالأنكاد والأكدار، وبالشرور والأضرار، وبالهموم والغموم والأحزان، ولا يهذبها ويُصفي كدرها إلا الدين وطاعة ربِّ العالمين، فلا تصفو لأحد بحال، فصروفها وحوادثها تُنبه الغافلين، وتُوقظ النائمين، وقد ضرب الله لها مثلًا بالمطر الذي يصيب الأرض القاحلة اليابسة، فتَنبُت وتَختلط فيها الأعشاب، وتزهو بالزهور المختلفة التي تسرُّ الناظر، وتأخذه بالإعجاب، وسَرعان ما تتغير خضرتها بالصفرة ووجهها المليح بالكدرة؛ قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف من الآية:45].

هكذا الدنيا لأهلها فما فوق التراب تراب، فعمر الإنسان أشبه بالنبات الذي اختلط به نبات الأرض وأصبح هشيمًا تذروه الرياح، فالإنسان في هذه الحياة يمدد آماله، وقد قرب من الدنيا انتقاله، والقدوم على صالح أو سيئ أعماله، ثم إن الموت ليس هو فناء أبدي كما يعتقده الدهريون الذين قص الله علينا مقالتهم في كتابه العزيز: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية من الآية:24].

لكنه انتقال إلى حياة الآخرة، فالمؤمن في الحياة الدنيا يرى تفرق أهله وأحبابه بالموت يومًا بعد يوم، ويعلم أنه لا بد نازل به في الصباح أو المساء، فيستعد له بفعل الطاعات، ويغتنم فرص الحياة، ويرجو اجتماعه بأحبابه في حياة الآخرة التي لا موت فيها ولا حزن، التي يقول أهلها حين يدخلونها: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر من الآية:74].

وقال الله جل ذكره في حق الذين اغتروا بالدنيا، حتى تفاجئهم الآجال، وهم لم يستعدوا للارتحال، مُندِّدين بطول الأمل الذي يمنع صاحبه من تصحيح العمل والتأهُّب: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} [الأنبياء:1].

لاهية قلوبهم بدنياهم وجمعها والتكاثر فيها بالمال والبنين، مشتغلين بها عن عبادة رب العالمين، وسبب ذلك طول الأمل الذي يمنع صاحبه عن تصحيح العمل وعن الحرص على حسن الخاتمة، والاعتبار بمن عن الدنيا ارتحل.

عباد الله:

إن عاقبة طول الأمل وخيمة، ينقطع بصاحبه الأجل وربما كان في حال ذميمة، عليه حقوق الله ولعباده، ولا يمكنه التخلص منها، وقد شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الوصية لمن له أو عليه شيء؛ ليخرج من الدنيا سالمًا من التبعات؛ قال صلى الله عليه وسلم: «ما حقُّ امرئٍ مسلمٍ له شيءٌ يريدُ أن يوصيَ فيه يبيتُ ليلتين إلا ووصيتُه مكتوبةٌ عنده»(صحيح البخاري؛ برقم: [2738]، ومسلم؛ برقم: [1627]).

وأحق ما يوصي به العبد الخروج من المظالم وأداء الحقوق والديون إلى أهلها، وفي الحديث: «نفسُ المؤمنِ مُعلَّقةٌ بدَيْنِه حتَّى يُقضَى دَيْنُه» (سنن الترمذي؛ برقم: [1079]، وصححه الألباني).

وتفكروا -رحمكم الله- ما أشد حسرة الموت على الذي فرط على نفسه وظلم الناس في حقوقهم! جمع الأموال وأوعاها، ولا يتورع من أي كسب حواها، إذا أيقن بالموت وتحقق الفوت، فلا منجى له ولا خلاص، فهو يتمنَّى أن يتخلص من شوائب ماله، ولا حول ولا قوة، انقطعت عنه اللذات، وبقيت عليه التبعات، فهو يكره الموت لكراهته لقاء ربِّه من أجل ما قدمه من سوء عمله، أما المؤمن الذي عرف قدر الدنيا وسرعة زوالها، واغتنم حياته واستعملها في الأعمال الصالحة، فإنه لا يندم على الدنيا ولا يجزع من الموت؛ لعلمه أن له حياة هي أرقى وأبقى من الحياة الدنيا، فنفسه مطمئنة بلقاء ربه وثواب عمله، فإنه من قدم خيرًا، أحب القدوم عليه، يقال له عند الموت: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27-30].

ولما قال صلى الله عليه وسلم: «مَن أحبَّ لقاءَ اللهِ أحبَّ اللهُ لقاءَهُ، ومن كرِهَ لقاءَ اللهِ كرِهَ اللهُ لقاءَهُ»، قال بعض من سمعه من الصحابة: كلنا يكره الموت يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: «ليس ذاك، ولكنَّ المؤمنَ إذا حضره الموتُ بُشِّر برضوانِ اللهِ وكرامتِه، فليس شيءٌ أحبَّ إليه ممَّا أمامه، فأحبَّ لقاءَ اللهِ وأحبَّ اللهُ لقاءَه، وإنَّ الكافرَ إذا حُضِر بُشِّر بعذابِ اللهِ وعقوبتِه، فليس شيءٌ أكرهَ إليه ممَّا أمامه، فكرِه لقاءَ اللهِ وكرِه اللهُ لقاءَه» (صحيح البخاري؛ برقم: [6507]، ومسلم؛ برقم: [2684]).

ولما احتُضر معاذ بن جبل رضي الله عنه الذي قال في حقه صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْعُلَمَاءَ إِذَا حَضَرُوا رَبَّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ مُعَاذُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ رَتْوَةً بِحَجَرٍ» (صحيح الجامع؛ برقم: [1680]، ورواه أبو نعيم في الحلية؛ برقم: [806]).

كان صائمًا، فقال لجاريته: انظري هل غربت الشمس؟ فقالت: لم تغرب، ثم مكث ما شاء الله، ثم قال لها: انظري هل غربت؟ فقالت: نعم، فقال عند ذلك: "مرحبًا بالموت، مرحبًا بطارش جاء على فاقة، ما أفلح والله من ندم على الدنيا، اللهم إنك تعلم أني لم أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولا لجمع المال، وإنما أحببت البقاء في الدنيا لقيام الليل وصيام النهار، ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلَق الذكر، آهًا إلى ذلك"، ثم قضى وتوفِّي رضي الله عنه.

واعلموا -رحمكم الله- أنه ما بين أن يثاب الإنسان على الطاعة والإحسان، أو يعاقب على الإساءة والعصيان، إلا أن يقال (مات فلان) -جعلني الله وإياكم من الذين إذا ذكروا تذكروا، وإذا ذكر الله وجِلت قلوبهم، وأنابوا واستغفروا- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ . وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ . أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:54-56].

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له على رغم أنف من جحد به وكفر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلَّغ عن الله ما أمر، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه الغُرر.

أما بعدُ:

أيها الناس، اتَّقوا الله حق تُقاته، والتمسوا من الأعمال ما هو سبب لمرضاته، واعلموا أن الدنيا دار المصائب والأحزان، دار الابتلاء والامتحان، فمن عرَفها حق المعرفة، لم يغترَّ بزخارفها، ولم يركن إليها ولم يأمَن من مخاوفها، يكون منها على حذر، ويرضى بما قسَمه الله له منها من حُلو القضاء ومُر القدر، يحمد الله ويشكره على ما متَّعه به من الخير والسرور، ويحتسب عليه ما يُصيبه من الآلام والمصائب وعظائم الأمور، يرجو بذلك رفع الدرجات وتعظيم الأجور؛ يقول الله جل ذكره في مدح الصابرين: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155-157].

جعلني الله وإياكم منهم، ويقول صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمرِ المؤمنِ، إن أمرَه كلَّه خيرٌ؛ وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمنِ، إن أصابته سراءُ شكرَ فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيرًا له» (صحيح مسلم؛ برقم: [2999]).

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من عبدٍ تصيبُه مصيبةٌ فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهمَّ أْجُرْني في مصيبتي وأَخلِفْ لي خيرًا منها، إلا أجَره اللهُ في مصيبتِه وأخْلَف له خيرًا منها» (صحيح مسلم؛ برقم: [918]).

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم وشدد في النهي عن التضجر عند المصائب، ورفْع الصوت بالبكاء والنياحة على الميت، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن النائحة وهي التي تعدِّد محاسن الميت، وتندبه بصوت عالٍ مع البكاء، كأن تقول: (وا كسباه، وا مطعماه.. وا حياتاه)، ونحو ذلك، وقال صلى الله عليه وسلم: «النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا، تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ، وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ»  (صحيح مسلم؛برقم: [934])، وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» (صحيح البخاري؛ برقم: [1286])؛ أي: يتألم في قبره من بكاء أهله عليه، أما البكاء الذي هو مجرد دمع العين من غير رفْع صوت وتأوُّه، فلا بأس به، فقد قال صلى الله عليه وسلم حين مات إبراهيم: «إنَّ العينَ تدمَعُ والقلبَ يحزَنُ، ولا نقولُ إلَّا ما يُرْضِي ربَّنا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبراهيمُ لمحزنونَ» (صحيح البخاري؛ برقم: [1303]، صحيح مسلم؛ برقم: [2315])، فالسعيد من امتثَل المأمور، والشقي من قارف المحظور.

والحمد لله ربِّ العالمين.

 

الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن بن عبدالعزيز الدهيشي

  • 18
  • 1
  • 42,811

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً