وصايا قبل تناول دواء القلوب - (14) ارتدِ العدسة المصغِّرة
طوبى لمن أنصف ربه عز وجل، قيل: وكيف يُنصِف ربه؟ قال: يُقِرُّ له بالآفات في طاعته، وبالجهل في معصيته، وإن أخذه بذنوبه رأى عدله، وإن غفر له رأى فضله، وإن لم يتقبل منه حسناته لم يره ظالمًا لما معه من الآفات، وإن قبلها رأى إحسانه لما جاد به من الكرامات
أخي، سحائب شفائُك قد أبرقت، فليكن وابلُها سالمًا من صواعق العُجب، وقد جُبِلت النفس على إحسان الظن بحالها، وتزكية عملها، والخنفساء تُسمي بنتها القَمرا، ولا يتم شفاء أو يؤثِّر دواء إلا باستصغار عملك الصالح ورؤيته صغيرًا في جَنب الله، وقد قيل: الإحساس بالتقصير أُولى درجات الكمال، بل يقرِّر ابن عطاء أن أشفى جَرعة دواء وأقربها إلى القَبول وإحداث الأثر هي التي مُزِجت بسطور هذه الوصية، قال رحمه الله: "لا عمل أرجى للقَبول من عمل يغيب عنك شهوده ويُحتَقَر عندك وجوده".
ومما يعينك على هذه الرؤية الخوف من الاستدراج، وقدوتك في ذلك أحمد بن حنبل، قال الخلال: "قلت لأبي عبد الله: "ما أكثر الدَّاعي لك!" قال: "أخاف أن يكون هذا استدراجًا، بأيِّ شيء هذا؟" وقلت له: "قدم رجل من طرسوس، فقال: كنَّا في بلاد الرُّوم في الغزو إذا هدأ الليل، رفعوا أصواتهم بالدُّعاء، ادعوا لأبي عبدالله، وكنا نمد المنجنيق ونرمي عنه، ولقد رمي عنه الحجر والعلج على الحصن متترِّس بدرقة فذهب برأسه وبالدرقة"، فتغيَّر وجهه وقال: "ليته لا يكون استدراجًا"، فقلت: كلا".
ومما يعينك على هذه الرؤية رؤية العون الإلهي، جاء في دعاء ابن الجوزي: "اللهم إنك افترضت علينا ما لا نَطيق أداءه إلا بتوفيقك؛ فوفِّقنا لأداء ما افترضته، وحرَّمت علينا ما لا نمتنع من مواقعته إلا بِحفظك، فاحفظنا عن مواقعة ما حرَّمته؛ فلا نعتمد إلا عليك".
فوالله لولا الله يُسعد عبده *** بتوفيقه والله بالعبد أرحم
لما ثبت الإيمان يوما بقلبه ***على هذه العلات والأمر أعظم
ولا طاوعته النفس في ترك شهوة *** مخافة نار جمرها يتضرَّم
ولا خاف يوما من مقام إلهه *** عليه بحكم القسط إذ ليس يظلم
قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا . ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء:69-70]، وتأمَّل قوله: {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} مما يفيد الحصر، ومع أن فضل الله أنواع وألوان، ولكن أُريد هنا المبالغة في قوة هذا الفضل بالذات حتى وكأنه الفضل الوحيد لتخشع النفس وتذل ولا تغتر.
هذا الفضل الذي لو غاب لاندثر الخير وانقرض واختفى الهُدى من على وجه الأرض واحتضر: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21].
أخذ ابن القيم الآية السابقة وأسقط معناها على أجلّ العبادات وأشرفها وهي عبادة الذكر معلناً أنك ليس لك فيها أدنى فضل إن رُزِقتها، بل هو الذي دفعك لذكره واختارك لقربه، قال رحمه الله: "وذكر العبد لربه محفوف بذكرين من ربه له: ذكر قبله به صار العبد ذاكرًا له، وذكر بعده به صار العبد مذكورًا كما قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] ".
ومما يُعينك على هذه الرؤية وضع النفس دومًا في قفص الاتهام، وهو ما سماه ذو النون بإنصاف الرب فقال: "طوبى لمن أنصف ربه عز وجل، قيل: وكيف يُنصِف ربه؟ قال: يُقِرُّ له بالآفات في طاعته، وبالجهل في معصيته، وإن أخذه بذنوبه رأى عدله، وإن غفر له رأى فضله، وإن لم يتقبل منه حسناته لم يره ظالمًا لما معه من الآفات، وإن قبلها رأى إحسانه لما جاد به من الكرامات".
ومما يعينك على هذه الرؤية الخوف من الخاتمة، قال خير النساج: "لا نسب أشرف من نسب من خلقه الله بيده فلم يعصمه، ولا علم أشرف من علم من علَّمه الله الأسماء كلها فلم ينفعه في وقت جريان القدر والقضاء عليه، ولا عبادة أتم ولا أكثر من عبادة إبليس؛ فلم يُنجِه ذلك من المسبوق عليه".
ومما يعينك على هذه الرؤية عقد المقارنة مع السابقين وقراءة قصص الصالحين والتنزه في كتب التراجم والسير، مما يورثك معرفة قدّْ نفسك إن كان قد أوقعك في الغرور طول المُكث بين من هو أدنى منك إيمانا وأقل تقوى.
- التصنيف:
- المصدر: