جرعات دواء القلوب - (11) صرخات الاستغاثة
اصرخ الى الله صراخ من نفدت كل حيله وبلغ منتهاه، ثم اهتف بلسان الذل والانكسار: يا فالق الحب والنوى، يا مُنشىء الأجساد بعد البلى، يا ملاذ الراجعين إليه، يا كافي المتوكلين عليه، انقطع كل رجاء إلا منك، خابت ظنوننا إلا فيك، ضَعُف اعتمادنا إلا عليك، وَهَن استنادنا إلا إليك ، نسألك بالرحمة التي كتبتها على نفسك، وبالكرامة التي أخفيتها لأوليائك، أن تُمطر قلوبنا بسحائب برك، وأن تُعجِّل غوثنا بوابل إحسانك، وأن تَجبُر كسرنا بآثار رحمتك، وأن تُفرِّج ما نحن فيه ببرد عفوك، وأن تُقوِّي عزائمنا بقوة عظمتك، يا أرحم الراحمين.
وهو دواء لا يُقدَّر بثمن وكنز لا يُشترى بمال، ولذا لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم انصراف الناس عنه وعد انتباههم إلى قدره، انطلق يهتف في شداد بن أوس بن ثابت بن المنذر رضي الله عنه وهو ابن أخي حسان بن ثابت الأنصاري الخزرجي: «» (السلسلة الصحيحة [3228]).
وهو الحل الأخير والدواء الذي ليس بعده دواء، قال ابن القيِّم: "فإن عجزت عنه هذه الأدوية كلها لم يبق له إلا صدق اللجأ إلى من يُجيب المضطر إذا دعاه، وليطرح نفسه بين يديه على بابه مستغيثًا به متضرِّعًا متذللًا مستكينًا، فمتى وُفِّق لذلك فقد قرع باب التوفيق".
واسأل نفسك وأنت تتناول هذا الدواء: من الذي بيده أن يهب القلوب حياتها؟ من الذي يتفضل عليها بخشوعها وانكسارها؟ من الذي إذا شاء قلَبَ القلب؛ فأصبح أرق ما يكون لذكره، وأخشع ما يكون لآياته، وأبعد ما يكون عن سخطه وغضبه؟ فسبحان من ألان القلوب القاسية ولو كانت الجبال الراسية، فتجد العبد أقسى ما يكون قلبًا، وأضعف ما يكون عزمًا، وتأبى رحمة الله إلا أن تناله، فيجود عليه ويُكرمه، لتزوره تلك اللحظة العجيبة الرائعة التي يتغلغل فيها الإيمان إلى شغاف القلب بعد أن أذن الله لصاحبه في الشفاء، فمن ديوان الشقاء إلى ديوان السعادة، ومن أهل الجفا إلى أهل الوفا، وبعد أن كان مُدبرًا غير مُقبل، إذا به يتوجه إلى الله بقلبه وقالبه، وإذا بقلبه ينقلب في لحظة واحدة بل ينعدل في لحظة واحدة، ويُصبح بصيرًا مُتبصرًا بموضع الخطوة القادمة في رحلته نحو الجنة.
ومما يَغري النفس باللجوء إلى هذا الدواء: حياء الرب تعالى من عبده ، فذاك نوع آخر لا تدركه الأفهام، ولا تكيفه العقول، فإنه حياء كرم وبر وجود وجلال، فإنه تبارك وتعالى حَيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردَّهُما ُصفرًا، وكان يحيى بن معاذ يقول: سبحان من يُذنب عبده ويستحي هو!
أمل العُشاق الوحيد
يا رازحاً تحت وطأة الهوى والحب المحرَّم، يا من استزله الشيطان وعذَّب قلبه المتيَّم، يا باكيًا على فِراق الحبيب، يا من طَرد ظلام عِشقه أنوار فِطرته، يا من أغرق نفسه بيده، أتؤثر العَذَابات على اللذات؟ ألا تريد النجاة والفوز؟!تعال أدلك، عن قتادة قال: "كان عامر بن عبد قيس يسأل ربَّه أن يَنزع شهوة النِّساء من قلبه، فكان لا يُبالي أذكرًا لقِيَ أم أنثى"، واستجاب الله دعاءه حتى لُقِّب بعدها براهب هذه الأمة، وتبدل هواه إلى هُداه، وانطفأت نار شهوته ليُشرق نور صحوته، وانظروا إلى مشاعره حين حضرت وفاته: لما احتضر عامر بكى، فقيل: "ما يبكيك؟" قال: "ما أبكي جزعًا من الموت، ولا حرصًا على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وقيام الليل".
مُضَاعفات القوة
مما يُضاعف أثر جرعة الدواء في قلب المريض، ويجعلها تقطع أشواطًا أطول وأسرع في رحلة الشفاء:
1. موعد في السحر:
تعطَّر بالاستغفار إن كانت قد فضحتك روائح الذنوب، مع العلم أن للدواء موعدًا لا ينبغي التخلف عنه حتى يُحدِث أعظم الأثر، وهذا الموعد لم يحدِّده طبيب من الأطباء بل حدَّده رب الأطباء فقال سبحانه: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18].
وقد بلغ من أهمية هذا الدواء في علاج القلب حدًا جَعل الأطباء لا يتصورون أن يَتخلّف أحد عن موعدٍ واحد من مواعيد تعاطيه، أو يُهمل تناول جرعة من جرعاته، لذا رُوِي أنَّ طاووس اليماني جاء في السَّحَر يطلب رجلاً، فقالوا: "هو نائم"، فقال: "ما كنتُ أرى أنَّ أحداً ينام في السَّحَر!" بل وفوق ذلك ما روى يحيى بن عبد الحميد الحمَّانيُّ عن أبيه أنَّه صحِب أبا حنيفة ستة أشهر، قال: "فما رأيتُه صلَّى الغداة إلا بوضوء عشاء الآخرة، وكان يختم كُلَّ ليلة عند السَّحَر".
لكن تُرى، ما الذي رفع سعر هذا الدواء وغلَّاه؟
إنه الله، الذي يتنزل بنفسه ليَعرض عليك جرعة الدواء بلا رسول أو وسيط أو حاجب أو رقيب، ولأن الجرعة غالية فلا بد حتمًا من غلو الثمن، وهو ترك الفراش الدافئ ومُجافاة الزوجة وهجر النوم اللذيذ، ولذا ليس في غير هذا الوقت تجد هذه الجرعة: «من ذا الذي يدعوني فأستجيب له»، ومتى غير الآن تنعم بشفاء: «من ذا الذي يسألني فأعطيه»، ومن أين لك في غير السحر روعة بشارة: «من ذا الذي يستغفرني فأغفر له».
أخي، من وظائف رياح الأسحار نقل رسائل الاعتذار، ووالله لو أحسسنا ببلائنا لانقطعت أصواتنا من دعائنا، وقرحت أجفاننا من بكائنا، ولكننا قوم محرومون، فسبحان مُستخرج الدعاء بالبلاء، فكل من شرد عنه لابد وأن يعيده إليه، إما لطفًا باختياره، أو قسرًا بابتلائه، لأن من لم تأسره حلاوة النعمة أدّبته ضَراوة المحنة.
لا يترك الله عبداً ليس يذكُرُه *** ممن يؤدِّبه أو من يؤنِّبه
أو نعمة تقتضي شُكراً يدوم له *** أو نقمة حين ينسى الشكر تُنكُبه
2. المداومة شرط:
إن أفدح الأخطاء أن يترك المريض الدعاء اليوم؛ لأنه يرى أنه لم يُستجب له ورسول الله-صلي الله عليه وسلم-يقول: « » (صحيح البخاري [6340]).
وهو إما استبطاء أو إظهار يأس وكلاهما مذموم، أما الأول فلأن الإجابة لها وقت معين كما ورد أن بين دعاء موسى وهارون على فرعون وبين الإجابة أربعين سنة، وأما القنوط فلا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، مع أن الإجابة على أنواع منها تحصيل عين المطلوب في الوقت المطلوب، ومنها ادخاره ليوم يكون أحوج إلى ثوابه، ومنها وجوده في وقت آخر لحكمة اقتضت تأخيره، ومنها دفع شر بدله.
قال ابن القيم: "ومن الآفات التى تمنع ترتب أثر الدعاء عليه أن يستعجل العبد ويستبطئ الإجابة فيستحسر ويدع الدعاء وهو بمنزلة من بذر بذرًا أو غرس غرسًا فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله".
وصدق صلي الله عليه وسلم حين قال: « » (صحيح الجامع [1228]).
والمعنى: إن الله لا يمل من الثواب والعطاء على العمل حتى تملوا أنتم من العمل وتنقطعون عنه؛ فينقطع ثوابه عنكم، ولا يسأم من إنعامه عليكم إلا إن سَئمتم من عملكم لديه.
واقتدِ بمُورِّقٌ العجلي وهو يقول: "ما امتلأت غضبًا قط، ولقد سَألت الله حاجة منذ عشرين سنة فما شفَّعني فيها، وما سئمت من الدعاء".
لذا نزع ابن القيم اليأس من قلبك وقذف فيه بذرة الأمل عندما قال: "لا تسأم الوقوف على الباب ولو طُرِدت، ولا تقطع الاعتذار ولو رُدِدت، فإن فُتِح الباب للمقبولين دونك، فاهجم هجوم الكذابين وادخل دخول الطفيلية، وابسط كفَّ {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا} [يوسف من الآية: 88]".
3. طول الدعاء:
أقصر طريق إلى الإجابة طول الدعاء، فلا تُضيِّعن اليوم لحظة واحدة مقتديًا في ذلك بنبيك صلى الله عليه وسلم الذي شغله الذكر والدعاء يوم عرفة عن كل شيء حتى عن طعامه وشرابه، حتى ظنَّ كثير من الصحابة أنه صائم، فعن أم الفضل بنت الحارث أن ناسًا تماروا عندها يوم عرفة في صوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: "هو صائم" وقال بعضهم: "ليس بصائم"، فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره بعرفة فشرب.
نعم لم يضيِّع لحظة واحدة، وكأنه يقول لك: الوقت لا يقدر بثمن، فكل لحظة تُنفقها في غير طاعة أعظم خسارة، ودعاك إلى ذلك بفعله لتكون استجابتك أسرع وطاعتك أقرب، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه: "كنتُ رديف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته فسقط خطامها، فتناول الخطام بإحدى يديه وهو رافعٌ يده الأخرى".
واسمع إلى حديث جابر رضي الله عنه وتعلم منه: ".. ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته إلى الصخرات، وجعل جبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس".
تأمل قوله: "فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس"، داعيًا دون ملل، راجيًا دون كلل، وظل على تلك الحال حتى بعد غروب شمس عرفة وأثناء سيره لمزدلفة، وهو وقت ينشغل فيه الناس بالزحام إن لم يكن بالجدال واللغو من الكلام، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلمنا غير ذلك حيث أفاض صلى الله عليه وسلم وردفه أسامة بن زيد، فجالت به الناقة وهو رافع يديه لا تجاوزان رأسه فما زال يسير على هيئته حتى انتهى إلى جَمْع (مزدلفة).
4. الفقراء فقط يدخلون:
ما لكل طارق يُفتح الباب كلا، ولا كل ضيف يُستهل بأهلًا وسهلاً، فإن الدعاء إذا لم يكن فيه ذلٌ وخضوع لله تعالى وانكسار وانطراح بين يديه ذهب أدراج الرياح، قال ابن رجب رحمه الله تعالى: "وقد كان بعض الخائفين يجلس بالليل ساكنًا مُطرِقًا برأسه ويمد يديه كحال السائل، وهذا من أبلغ صفات الذل وإظهار المسكنة والافتقار، ومن افتقار القلب في الدعاء، وانكساره لله عز وجل، واستشعاره شدة الفاقة، والحاجة إليه وعلى قدر الحُرقة والفاقة تكون إجابة الدعاء".
ونفس المعنى ذكره ابن القيِّم في (الوابل الصيب) فقال: "فمن أراد الله به خيرًا فتح له باب الذل والانكسار ودوام اللجأ إلى الله تعالى والافتقار إليه ورؤية عيوب نفسه وجهلها وعدوانها، ومشاهدة فضل ربه وإحسانه ورحمته وجوده وبره وغناه وحمده، فالعارف سائر إلى الله تعالى بين هذين الجناحين لا يمكنه أن يسير إلا بهما، فمتى فاته واحد منهما فهو كالطير الذي فقد أحد جناحيه".
وذكره كذلك ابن عطاء حين قال: "ما الشأن وجود الطلب، إنما الشأن أن تُرزق حسن الأدب".
أيها المريض، استعن به على مرضك، اطلب نصره على هواك، لا تدخل المعركة وحدك، كيف وأنت معك المدد كله؟ كيف وبجوارك القوة التي لا تُغلب؟ أحسن الكلام في الشكوى سؤال المولى، ولا يدفع أمواج البلاء سوى صيحات الدعاء.
واظب على النياحة والبكاء، استعن بأرحم الراحمين، اشكُ إلى أكرم الأكرمين، أدمن الاستغاثة، لا تملل طول الشكاية، فإن مصيبتك عظيمة، وبليتك طمَّت، وتماديك طال، وداؤك أعيا، حتى انقطعت حيل الأطباء، وراحت كل محاولاتهم معك سدى، ولم يعد لك مطلب ولا مُستغاث ولا مَهرب ولا مَلجأ ولا منجا إلا إلى مولاك، فافزع إليه بالتضرع، واخشع على قدر جُرمك وهول ذنبك، فهو لا يرحم إلا المتضرِّع الذليل، ولا يُغيث إلا الطالب المتلهِّف، وقد أصبحت اليوم أحوج ما تكون إلى نظرة ربانية واحدة، ولمسة إلهية حانية.
أخي، ضاقت بك السبل، وانسدت عليك الطرق، وتقطَّعت بك الأسباب، واستفرد بك الشيطان، وخَفَت فيك وهج الإيمان، ولم تنجح فيك العظات ولا تشييع الأموات، ولم يكسرك التوبيخ، ومع ذلك كله، المطلوب منه كريم، والمسئول جواد، والمُستغاث رحيم، والرحمة واسعة، والكرم فياض، والعفو شامل، فيا من حال الشيطان بينه وبين التوبة، يا صاحب القلب المريض، عودة إلى جوار ربك، فالباب مفتوح، والسعد والهناء من وراء الباب، فالزم عتبة العبودية، وقم في الدُّجى، واصرخ بلسان الذُّل مع البكاء، وقل: أيها العزيز مسَّنا وأهلنا الضُّرُّ، هيا من الآن، فالنَّفَس يخرج وقد لا يعود، والعين تطرف وقد لا تطرف ثانية إلا في ساحة الحشر، قُل:
أيا ملك الملوك أقل عثاري *** فإني عنك أقصتني الذنوب
وأمرضني الهوى لضلال نفسي *** ولكن ليس غيرك لي طبيب
أيا ديَّان يوم الدين فرِّجْ *** همومًا في الفؤاد لها لهيبُ
اصرخ الى الله صراخ من نفدت كل حيله وبلغ منتهاه، ثم اهتف بلسان الذل والانكسار: يا فالق الحب والنوى، يا مُنشىء الأجساد بعد البلى، يا ملاذ الراجعين إليه، يا كافي المتوكلين عليه، انقطع كل رجاء إلا منك، خابت ظنوننا إلا فيك، ضَعُف اعتمادنا إلا عليك، وَهَن استنادنا إلا إليك ، نسألك بالرحمة التي كتبتها على نفسك، وبالكرامة التي أخفيتها لأوليائك، أن تُمطر قلوبنا بسحائب برك، وأن تُعجِّل غوثنا بوابل إحسانك، وأن تَجبُر كسرنا بآثار رحمتك، وأن تُفرِّج ما نحن فيه ببرد عفوك، وأن تُقوِّي عزائمنا بقوة عظمتك، يا أرحم الراحمين.
يا رب، إليك منا نتظلم، أحوالنا تنطق عنا دون أن نتكلم، وقلوبنا من ذنوبنا تشكو وتتألم، فاللهم بعلمك بحالنا، وقُدرتك على شفائنا، وأدراك بعلاجنا، ورحمتك التي لم تزل تُعاملنا بها منذ خلقتنا، وخَفي لُطفك الذي غمرنا رغم خطيئاتنا، داونا بدوائك، فلا شفاء غير شفائك، وأتمم علينا نعمتك وأوجب لنا رضاك وأجزل مثوبتك واجعل جائزتنا منك الجنة.
يا من قلت: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّوْنَهُ} [المائدة من الآية:54]، المحبّ لا يُعذِّب حبيبه، فكيف تعذِّبني غدًا يوم ألقاك؟ أو يُتصور من أم أن تضيِّع وليدها، أو تتركه هملاً دون رعاية وحنان؟ وكيف نظن بك أن تُضيِّعنا أو تتركنا هملاً في أودية الدنيا وفريسة لمكائد الشيطان، وقد أرسلت لنا عن طريق نبيك صلى الله عليه وسلم أنك أرحم بنا من الأم بولدها.
أخي، راية الفقراء فارفع، ودلائل العجز والتفريط جهِّز، وصحائف الذنوب قدِّم، والساعات الضائعة من عمرك واللهو في زمن الصبا كل هذا فتذكَّر، فكم أتعبت الحفظة سنين، وسهرت في المعاصي حينًا بعد حين، وأظهر الفاقة والمسكنة حتى تكون من مستحقي الصدقات، ألم تقرأ قول ربك: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة من الآية:60]، وتعبيرًا عن ذلك: ارفع يديك إلى صدرك مُتمثِّلا أعلى درجات الذل والعبودية مُقلدًا نبيك الذي قال عنه ابن عباس رضي الله عنه: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بعرفة ويداه إلى صدره كاستطعام المِسكين.
عسى الله فالق الحب والنوى، ومُنشئ الأجساد بعد البِلى، ومحيي الأرض بعد موتها؛ الذي أخرج الأخضر من اليابس أن ينقلنا من مما يكره إلى ما يحب، ويُبدلنا بهمِّ الدنيا الدَنية هممًا أُخرى عَلية، فطالما أغاث المُجدبين عندما قحطوا، وأنزل الغيث من بعد ما قنطوا، فلماذا لا نتكل على رحمته وكيف لا نطمع في غوثه ومعونته؟
حلاوة الدعاء شرط الشفاء.
وهذا الفقر واستشعار الذل كان اسمه حلاوة الدعاء في قاموس سعيد بن جبير، فعن داود بن أبي هند قال: لمَّا أخذ الحجَّاج سعيد بن جبير قال: "ما أُرانِي إلا مقتولا وسأُخبِركم: إنِّي كنتُ أنا وصاحبان لي دعونا حين وجدنا حلاوة الدُّعاء، ثم سألنا الله الشَّهادة، فكِلا صاحبيَّ رُزِقها، وأنا أنتظِرها"، قال: "فكأنَّه رأى أنَّ الإجابة عند حلاوة الدُّعاء".
وحلاوة الدعاء من الثمرة المُعجَّلة للعبد في الدنيا، ومن علامات وإرهاصات القبول في الآخرة، بل وفي الدنيا قبل الآخرة، فمن أراد معرفة حظ دُعائه من الإجابة والقَبول فلينظر كيف وجد طعمه، لأن الأمر كما قال ابن عطاء:
"من وجد ثمرة عمله عاجلًا، فهو دليل على وجود القَبول آجلًا".
5. إخفاء الدعاء:
فإذا جمع المريض إلى ما سبق أن أخفى دعاءه، فلم يَعرف به سوى من قصد به وجهه، فقد حاز الفضل وقصب السبق، قال ابن القيِّم وقد أحصى عشر فوائد لإخفاء الدعاء: "وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة: أحدها أنه أعظم إيمانًا لأن صاحبه يعلم أن الله تعالى يسمع دعاءه الخفي، وليس كالذي قال أن الله يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا.
ثانيها أنه أعظم في الأدب والتعظيم، ولهذا لا تُخاطَب الملوك ولا تسأل برفع الأصوات، وإنما تُخفض عندهم الأصوات، وَيخفُّ عندهم الكلام بمقدار ما يسمعونه، ومن رفع وصوته لديهم مَقتوه، ولله المثل الأعلى.
ثالثها أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولُبَه ومقصوده، فإن الخاشع الذليل الضارع إنما يسأل مسألة مسكين ذليل قد انكسر قلبه وذلّت جوارحه وخشع صوته؛ حتى إنه ليكاد تبلغ به ذلته ومسكنته وكسرته وضراعته إلى أن ينكسر لسانه فلا يطاوله بالنطق.
رابعها أنه أبلغ في الإخلاص.
خامسها أنه أبلغ في جمعية القلب على الله تعالى في الدعاء، فإن رفع الصوت يفرِّقه ويشتته.
سادسها أنه دال على قرب صاحبه من الله وأنه لاقترابه منه وشدة حضوره يسأله مسألة أقرب شيء إليه، فيسأله مسألة مناجاة للقريب لا مسألة نداء البعيد للبعيد.
سابعها أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال، فإن اللسان لا يَمَلّ والجوارح لا تتعب بخلاف ما إذا رفع صوته، فإنه قد يكِلُّ لسانه وتضعف بعض قواه.
ثامنها أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمُشوِّشات والمُضعفات، فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يدر به أحد، فلا يحصل هناك تشويش ولا غيره، وإذا جهر به تفطنت له الأرواح الشريرة والخبيثة من الجن والإنس فشوَّشت عليه ولا بد، ومانعته وعارضته، ولو لم يكن إلا أن تعلقها به يُفرق عليه همته فيُضعف أثر الدعاء لكفى.
تاسعها أن أعظم النعم الإقبال على الله والتعبد له والانقطاع إليه والتبتل إليه، ولكل نعمة حاسد على قدرها، دقَّت أو جلَّت، ولا نعمة أعظم من هذه النعمة، فأنُفس الحاسدين المنقطعين متعلقة بها، وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد، وأن لا يقصد إظهارها له، وكم من صاحب قلب وحال مع الله قد تحدث بها وأخبر بها فسلبه إياها الأغيار، فأصبح يقلِّب كفيه، ولهذا يوصي العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله، وأن لا يطلعوا عليه أحدًا، ويتكتمون به غاية التكتم، كما أنشد بعضهم في ذلك:
من سارروه فأبدى السِرَّ مجتهدًا *** لم يَأمنوه على الأسرار ما عاشا
وأبعدوه فلم يَظفر بقربهم *** وأبدلوه مكان الأُنس إيحاشا
لا يأمنون مُذيعًا بعض سِرَّهم *** حاشا وِدادهم من ذَلكم حاشا
والقوم أعظم شيء كتمانًا لأحوالهم مع الله وما وَهب الله لهم من مَحبته والأنس به؛ ولا سيما للمُبتدىء والسالك، فإذا تمكن أحدهم وقوي وثَبَتت أصول تلك الشجرة الطيبة التي أصلُها ثابت وفرعُها في السماء في قلبه؛ بحيث لا يُخشى عليه من العواصف، فإنه إذا أبدى حاله وشأنه مع الله ليُقتدى به ويُؤتم به لم يبالِ.
عاشرها أن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه متضمن للطلب منه والثناء عليه بأسمائه وأوصافه فهو ذكر وزيادة".
6. كلمة السر: آخرة:
اختبر نوعية دعائك وسائل نفسك: آخر مرة دعوتَ الله فيها، هل خطر لك الدعاء لآخرتك أم أن كل أدعيتك كانت دنيوية؟ هل رَجوت الله يومًا أن يرزقك قيام ليلة أو حُسن عبادة أو صنيعة معروف أو تفريج كرب، أم أن غير زيادة الرزق وتوسيع الدنيا لا يهمك؟ هل تدعو الله في سجودك أن يزيد إيمانك ويرقِّيك في مدارج الهداية كما تدعوه أن يزيد مالك ويُرقِّيك في مراتب الوظيفة؟ إن الذكي اليوم هو من يعرف أنه إذا أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، وأنه إذا جعل الآخرة همه كفاه الله أمر دنياه بل وأتته الدنيا راكعة ذليلة، فإن حدث ولم تأته الدنيا ملأ الله قلبه بالزُهد فارتاح ولم يحزن على فقدها، ومن هنا يجعل لدعاء الآخرة أكبر الحظ من دعائه، وقد فهم ابن عطاء ذلك جيدا فصاغه حكمة من حكمه قال فيها: "خير ما تطلبه منه هو ما يطلبه منك".
لكن .. لماذا لم يستجب؟!
- لم يستجب لك لأنك لم تستجب له، وقد سبق وأن قال لك: {فاذْكُروْني أَذْكُرْكُمْ} [البقرة من الآية:152].
- لأن تتابع جرعات الدواء وتوالي مرات الدعاء يضمن حدوث الشفاء.
- لأن الداعي قد يطرق الباب لطلب حاجة واحدة لسد ثغرة يتيمة فتنهمر عليه الخيرات بسبب الدعاء من أبواب كثيرة.
- لتتمتع بطول المناجاة، فكلما تأخرت الإجابة طالت المناجاة فحصلت اللذة وزاد القرب، ولوعُجِّلتْ الإجابة لفاتت هذه الثمرات، قال سفيان الثوري: لقد أنعم الله على عبد في حاجة أكْثَرَ من تضرعه إليه فيها ".
- لأنه أعلم بك منك، وأحرص عليك من نفسك، وأدرى بما ينفعك وما يضرك.
وقد لايُستجاب للدعاء لحكمة ربانية كأن يصرف عنه بدعائه سوءًا أو يدخر له من الأجر عند الله، أو بسبب أكل الداعي ومشربه من حرام، أو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو ارتكاب بعض الذنوب والمداومة عليها وعدم التوبة منها.
قال ابن القيم: "فقضاؤه لعبده المؤمن المنع عطاء، وإن كان في صورة المنع، ونعمة وإن كانت في صورة محنة، وبلاؤه عافية وإن كان في صورة بَلية، ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعُدُّ العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذَّ به في العاجل، وكان ملائمًا لطبعه ولو رُزِق من المعرفة حظًا وافرًا لعَدَّ المنع نعمة والبلاء رحمة، وتلذذ بالبلاء أكثر من لذته بالعافية، وتلذذ بالفقر أكثر من لذته بالغنى، وكان في حال القلة أعظم شكرا من حال الكثرة".
قبل المغادرة
يا سالك طريق الهدى، اقرأ هذا الكتاب مرتين يضاعف الله لك الاستفادة ضعفين، ويؤتك أجرك مرتين، ويبدو ذلك على عملك جليًا فتعمل عمل اثنين.
ثم سائل نفسك بعد القراة: منذ متى وأنت تسير في هذا الطريق؟ أتراك وصلت أو قاربت؟ أم أنك لا زلت بعدُ في البدايات؟ أم غرَّك أنك ابتدأت فاطمأننت وتوقفت؟
كلنا اشترك في رحلة الشفاء حين رُفعت له قارورة الدواء، وسار في الطريق كثير، حتى مضت فترة من الزمن، توقف خلالها البعض، وتاه عن الطريق نفر، وبدَّل الطريق وسار عكس الاتجاه فريق، وملّ من طول السير طائفة، ومات قبل أن يصل كل ضعيف، ولم يصل إلى ساحل العافية إلا كل بطل همام وصابر مقدام.
أخي، هذه آثار أقدام السابقين لنا في هذا الطريق واضحة محفورة في الأرض، لكن أتراها تبقى هذه الآثار تهدي وتُرشد أم ستعفوها رياح الشر العاصفة ويمحوها تتابع أقدام العابثين عليها؟
لقد آذن الوقت بالنفاد، وأذَّن المنادي بالرحيل، وكاد القلم أن يفارق صاحبه، وقد بذلت جهدي في نُصحك، ونُصح نفسي قبل نفسك، فبالله هلّا شمَّرت عن ساعد الجد لتبدأ البداية الجديدة وتستقبل الحياة السعيدة، وبالله عليك لا تركن، فأمتنا مقهورة، وكرامتها مسلوبة، وآمالها عليك معقودة، وهي الآن قابعة في قيود الذل بعد أن كانت سيدة الدنيا، ولم يَعد لها مهرب ولا خلاص إلا عن طريق إصلاح قلبك، فلا تُضيِّع نفسك، فتضيع الأمة بسببك.
يا أيها الناس فلتنجوا بأنفسكم ولا تكونوا كمن ضلَّت مساعيه، عودوا إلى الله ينقذكم برحمته من الشقاء الذي بِتْنا نعانيه، ولتستقوا من كتاب الله منهجكم فليس في الأرض منهاج يُدانيه، فهلا شُفيت أرواح من أمراضها وذاقت حلاوة الدواء، ثم سَمَت وارتقت في سُلَم الشفاء حتى دعت غيرها إلى ما اهتدت إليه، وشفته مما أصيبت به من قبل، ثم تسامت وتسامت حتى كسرت قيد الشهوة التي طالما ملكها واستعبدها، لتعود الروح إلى بارئها، وتطير بشوق نحو ما يُفرِحها، وتصبح مَهيَّئة لتعبر بوابة الخلود عن طريق الشهادة لتتوشح أشرف الأوسمة، فإن لم تنل هذا الشرف كانت مشاريع شهادة تنتظر؛ تملؤها الرغبة في البذل، ويحدوها الشوق إلى العمل، لتنال أجر الشهداء دون دماء، وتجني كما جنوا في الجنة ثمرة الهناء.
وعندما تسري هذه الروح في الأمة، عندها فقط تتحرَّر من أسر أعدائها بعد أن تحرَّرت من أسر أهوائها، وتنتصر على عصابة من يهود ما استأسدت علينا إلا لوهن قلوبنا.
وعندما تتحرَّر روحك، وعندما تصرع الشيطان في نفسك، وعندما تنتصر على النفس الشاردة، وعندما تطوِّع الطبيعة المتمرِّدة، وعندما تكون آخرتك أغلى عندك من عاجلتك، أي عندما يُشفى قلبك من كل هذه الأمراض والأسقام؛ عندها يتحقق حتمًا الوعد الإلهي الحق، وألقاك وقتها حتمًا على أعتاب بيت المقدس، وأصلي بجوارك منتشيًا في ساحة الأقصى {وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ۖ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء من الآية:51].
- التصنيف:
- المصدر: