مدمن روايات

منذ 2015-09-09

قراءة الروايات قد تكون من أنفع الوسائل لإزالة حالة القلق والتوتر والكآبة، كما أنها مفيدة للأعمار الصغيرة لإدخالهم عالم القراءة الحُرة، لكن في الحقيقة كل هذا لا يقلل من أن أضرارها الكبيرة إذا ما جاوزت الحد المطلوب.

قراءة الروايات قد تكون من أنفع الوسائل لإزالة حالة القلق والتوتر والكآبة، كما أنها مفيدة للأعمار الصغيرة لإدخالهم عالم القراءة الحُرة، وقد تكون وسيلة جيدة لتعليم بعض اللغات الأجنبية، أو تعليم الكتابة، وما إلى ذلك.

لكن في الحقيقة كل هذا لا يقلل من أن أضرارها الكبيرة إذا ما جاوزت الحد المطلوب، إذ لا يجب أن تستهلك أكثر من (10 أو 15 %) من وقت القراءة، فهي في الغالب لا تُثمر في فكر القارئ ولا تُضيف للأُمة بقدر غيرها من الكتابات العلمية والفكرية والأدبية، بل إن حُمى الروايات المنتشرة اليوم قرينة على حالة الضعف الشديد التي وصلت إليها الأُمة.

ومن الناحية الثقافية الفكرية؛ فالإفراط من قراءتها مُؤدٍ للآتي:

- تضييع الوقت مقابل فوائد ثقافية وفكرية فعلية أقل قيمة بكثير من الوقت المُهدر.

- ربط القارئ تدريجيًا بنوع محدد من القراءة ووضع حواجز نفسية وفكرية بينه وبين الكتب العلمية والفكرية التأسيسية التي تحتاج لجُهد وممارسة ودربة في قراءتها، ومع الوقت يصعُب استيعاب المصطلحات والتعبيرات الفكرية وطريقة عرض الكتب العلمية، وهذا أمر مُشاهد ملموس، وقد سألتُ إحدى الفتيات التي كانت مولعة بقراءة الروايات -حتى أنها كانت تقرأ نحو خمس عشرة رواية شهريًا- عن مدى قُدرتها على قراءة الكُتب الفكرية أو العلمية فأجابت بأنها لا تُحب ولا تُفضل ولا تستطيع أصلًا قراءة أي كتب من هذا النوع وأنها لم تقرأ سوى الروايات، وحين حاولت قراءة مذكرة فكرية لم تتجاوز مُقدمتها.

- تجييش العواطف والتأثير على واقع القارئ، وإثارة خياله فيما لا حقيقة له، بل ما لا يُمكن أن يكون حقيقة على الإطلاق في كثير من الأحيان، بما يترتب على ذلك من أزمات نفسية وانعزال عن المجتمع وقضايا الأُمة.

- تضييع الموارد الفكرية والثقافية المُتعلقة بالتأليف والطباعة والنشر فيما لا يُساهم فعليًا في نهضة الأُمة علميًا أو ثقافيًا أو اجتماعيًا أو اقتصاديًا بصورة مباشرة.

- ابتذال موهبة الكتابة، لتجرأ غير المُؤهلين -في الغالب- على كتابة الروايات بأسلوب الحكايات والقصص، وعدم مراعاة اللغة العربية والترويج للعامية، بل بعض الألفاظ العامية الساقطة للأسف الشديد، ومن ثمَّ إهمال الاهتمام بتنمية مهارات الكتابة الفعلية واكتساب المعارف الفكرية وبذل الجهد في الكتابات العلمية والفكرية التأسيسية وعدم التشجيع عليها لصالح الكتابات الأسهل جُهدًا وأكثر رواجًا (الروايات)، وهو أمر مشاهد ملموس في أسواق الكتب.

 

ولا مجال مع ما تقدم الاحتجاج بكثرة القصص في القرآن الكريم، لأن كثرتها لم تكن إلا لعبرة ومعنى ديني شرعي لا يتحقق في العمل الروائي، ولو كان العمل الروائي على ذات الأهمية والنسق لما كره كثير من أهل العلم خلفًا عن سلف الإفراط في قراءة هذا النوع من الكُتب، بل لم تُذكر مهنة القُصاص في كُتب التاريخ والتراجم والجرح والتعديل إلا في مواضع الذم والانتقاص، ولم يُعلم في تاريخ الأُمة في أي مرحلة من مراحل التاريخ أنهم كتبوا مثل هذه النوعية من الكتب أو فضلوها أو حثوا عليها، مع عدم إنكاري لأهميتها في العصر الحالي بالقدر المطلوب والضوابط الحاكمة لأهميتها من الناحية الأدبية أو التعليمية.

وحتى يُمكن ترشيد الإفراط في قراءة الروايات وإدمانها بشكل عملي واقعي، فيُمكن العمل على ذلك من خلال الآتي:
- تقليل الوقت المُخصص لقراءة الروايات تدريجيًا حتى لا يتجاوز أكثر من (10 أو 15 %) من الوقت المُخصص للقراءة الحُرة، ولو زاد على ذلك لتحول إلى ما يُشبه إدمان المُخدرات لكن من ناحية فكرية، نعم قد يبدو هذا القول صادم أو مُفاجئ بالنسبة للبعض فلا يستسغيه، لكنه حقيقي وواقعي تمامًا، تُؤيده تجارب الشباب.

- تخيُر الروايات القديمة أو التأسيسية فكريًا أو علميًا أو أدبيًا مثل روايات؛ الدكتور فريد الأنصاري (آخر الفرسان) و(عودة الفرسان)، والأستاذ نجيب الكيلاني (الظل الأسود)، والمنفلوطي (الفضيلة) و(العبرات)، وفيكتور هوجو (البؤساء)، وغير ذلك.

- إحلال بعض القراءات قريبة الشبه منها في الأسلوب الأدبي أو التعبيري الأعمق منها فكريًا وثقافيًا؛ كالكتب الأدبية التي بها خواطر وتجارب ونظرات في الحياة مثل: (من وحي القلم) للأستاذ مصطفى صادق الرافعي، (النظرات) للمنفلوطي، (الموازين) لفتح الله كولن، (صيد الخاطر) لأبي الفرج ابن الجوزي، وغيرها.

ومن الكتب قريبة الشبه من الروايات في الأسلوب الأدبي لكنها أعمق فكريًا وثقافيًا؛ المذكرات الذاتية، ومنها على سبيل المثال: (أمير الظل) للمهندس عبدالله البرغوثي، (شهادة العصر والتاريخ) للأستاذ أنور الجندي، (مذكرات السلطان عبد الحميد الثاني)، (مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي)، (هروبي إلى الحرية) لعلي عزت بيجوفيتش، (أيام من حياتي) للأستاذة زينب الغزالي، (طفل من القرية) للأستاذ سيد قطب، (عندما غابت الشمس) للأستاذ عبد الحليم خفاجي، (رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر) للدكتور عبدالوهاب المسيري، (سنوات عصيبة مذكرات نائب عام) للأستاذ محمد عبدالسلام وغيرها.

وفي النهاية ليست العبرة بكثرة القراءة، بل العبرة بالقراءة الجيدة، والتنوع في القراءة بين قراءات علمية تُبصر القارئ وتُكسبه قدرات علمية متنوعة، وفكرية تُصقل فِكره وترفع قُدراته الإبداعية، وأدبية تُنمي مهاراته اللغوية والأدبية، وفلسفية تُعمق فيه الأبعاد الإنسانية. 

 

محمد وفيق زين العابدين

المصدر: موقع ساسة بوست
  • 15
  • 0
  • 8,128

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً