يوسف من البئر إلى الملك - [02] المؤامرة
إنهم عشرة إخوة اتفقوا جميعًا على قول واحد، لم يشذ منهم واحد ليقول: إن قولكم هذا ادعاء باطل. أغلب الظن أن الأمر ليس طفرة، ولا فجائيًا أو لحظيًا، ولكنه نجوى تناجى بها اثنان حتى صارت قولًا واحدًا لهما، ثم تناجى الاثنان إلى آخرين ثم إلى آخرين حتى اجتمع أمرهم على هذا القول، فصار لهم قولًا واحدًا: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [يوسف:8]
{إِذْ قَالُوا} [يوسف:8]:
مقدمات الفتن:
إنهم عشرة إخوة اتفقوا جميعًا على قول واحد، لم يشذ منهم واحد ليقول: إن قولكم هذا ادعاء باطل. أغلب الظن أن الأمر ليس طفرة، ولا فجائيًا أو لحظيًا، ولكنه نجوى تناجى بها اثنان حتى صارت قولًا واحدًا لهما، ثم تناجى الاثنان إلى آخرين ثم إلى آخرين حتى اجتمع أمرهم على هذا القول، فصار لهم قولًا واحدًا: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [يوسف:8]
وهكذا تبدأ الفتن بقول يسعى به واحد؛ ليشيعه بين عصبة أو جمع ليصير لهم قولًا واحدًا؛ فيتحول إلى تآمر واتفاق على عمل واحد يكون من ورائه فتنة أو فتن ينتشر شررها ويعم شرها {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها"، ويصبح التواصي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ} [المجادلة:9]، و"أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك" دواء للفتنة، ونجاة من الوقوع في أتونها، واسأل التاريخ يُجبك بقول فصيح: أن أول الفتن الكلام، وأوسطها فرقة وخصام، وآخرها دماء وأرواح.
{لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا} [يوسف:8]:
ادعاء الحاسد الباطل
ادعاء باطل لأنه صدر من قوم أهل كيد، كما شهد بذلك أبوهم نبي الله يعقوب عليه السلام: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5]، وأيضًا من قوم هم أهل تآمر{يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف:11]، {وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف:18]، وأيضًا من قوم ملأ الحسد قلوبهم، فأظلمت وقست حتى استطاعوا أن يجتمعوا على إلقاء أخيهم في الجُب، ويالها من لحظة سوداء لو استحضرناها كما حدثت، وكيف حدثت؟ وكيف لا يرق قلب واحد منهم وهو يشارك في هذا الفعل المشين، وهلا تحركت نفس الأخ الذي اقترح أن يجعلوه في غياهب الجُب بدلًا من قتله؟، وهلا لان قلب أحدهم لصراخه واستغاثته؟، وإذا لم يكن ذلك منهم لأخيهم! فهلا حسبوا لموقفهم أمام أبيهم الشيخ حسابه؟ وهلا قدروا حجم الحزن الذي صارحهم به؟: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف:13]، والذي كان سببًا في ذهاب بصره {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84].
{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} [يوسف:9]:
هذا قانون حزب الشر في تعامله مع الآخر، ينكر عليه وجوده ولا يعترف له بشرعية، فلا حوار ولا تفاهم معه {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت:5]، فلا حق لإنسانية ولا حق لمواطنة، ولا مساواة أمام قانون، بل وتُقنن القوانين الاستثنائية لتطبق عليه هو، وهكذا يقُتل معنويًا وجسديًا لُيتخلص منه، وهو قانون قديم قدم التاريخ، طبقه قابيل على أخيه هابيل حين قبل الله منه قربانه، وها هو فرعون موسى وهامان وقارون يقولون {اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} [غافر:25]، وها هم إخوة يوسف يحسدون يوسف على حب أبيه له؛ فيتآمرون على قتله، وهم بهذا يخونون الأبوة والأخوة ويستسرون بهذا بعيدًا عن سمع أبيهم وبصره، وماقدروا ولا دروا أن الله يراهم، بل فضحهم وسجل فعلتهم السيئة في كتابه الخالد وقرآنة المجيد { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف:102].
{يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف:9]:
وكان أبوهم لا ينصرف بصره ولا وجهه عن يوسف عليه السلام في زعمهم ولو علموا بالرؤيا، وما أولها بها أبوهم ما قالوا الذي قالوه، لأن القلب من وراء الوجه مملوء بحب يوسف، وكيف لا يحب النبي ابنه الذي هو من بين إخوته وارثه في هذه المنزلة العظيمة، باختيار الله واجتبائه، وحتى لو غاب يوسف، فما زال القلب واللسان والعين تذكر يوسف.
ومصيبة حزب الشر أنه يتصور أن التغييب بالنفي أو بالقتل هو الحل، وفاتهم أن الإنسان سيرة ومواقف أكثر منه صورة وجسد، وأن الإنسان قد يذكر في غيابه بأخلاقه ومواقفه، أكثر مما يذكر في حضرته ووجوده، وها هم يؤكدون هذا المعنى في قولهم: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف:85].
{وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف:9]:
أي: من بعد غياب يوسف عن وجه أبيه، وكأن سبب مشكلة ذات البين وبين أخويهم من أبيهم، وبينهم وبين أبيهم، وبين ضرة أمهم، هو وجود يوسف وأخيه بينهم، وأن صلاح ذات البين في {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} [يوسف:9] كما قال فرعون: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]، وهكذا لابد من اختلاق مبررات وتلفيق أكاذيب وادعاءات يموهون بها على أنفسهم أو على غيرهم، مهما كانت سخافة وغباء المبررات والادعاءات، وإلا فكيف يطمح إلى إصلاح يكون بعد هذا الفساد الذي تموج بجريمة شنعاء.
{ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ} [يوسف:10]:
احذروا التعميم:
إن تعميم العداء للآخر وتعميم الولاء للذات (الأنا) نظرة ظالمة وغير منصفة، وكما أنها ضارة في التعامل على أساسها. وصدق من قال " كم منا وليس فينا، وكم فينا وليس منا" وهذا كتابنا يقول عن أهل الكتاب: {لَيْسُوا سَوَاءً} [آل عمران:113]، ويقول: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران:75] وهذا الصنف الأخير يتعامل مع الكل بنظرة واحدة، فيقول {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران:75] فالكل أميون، ويبدو أنهم موافقون على اقتراح أخيهم، حيث أن السياق لم يتطرق إلى رفض الاقتراح، كما أن التنفيذ قد تم كذلك.
{قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ} [يوسف:11]:
وكما حذره أن يقص رؤياه على إخوته، فلا بد أنه كان يحذره من الخروج معهم للرعي واللعب فما استجاب لهم، مما جعلهم يبدون استنكارهم هكذا {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ} [يوسف:11]، ثم يؤكدون لأبيهم ما قد يشُك فيه من أنهم يحفظونه وينصحونه، فقالوا {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف:11] ، وكأنهم يريدون من أبيهم أن يصدقهم في ادعائهم، أنهم أمناء ناصحون ليوسف عليه السلام.
كما يستحيل الإخوة قتل أخ لهم دونما ذنب أو جريرة منه، غير أنه أحب إلى أبيهم منهم؟ ويتواطأون على ذلك، لايقف واحد منهم ينكر عليهم تآمرهم؛ لدفع الظلم عن أخيه، ويرد عنهم سخط أبيهم عليهم، وقالة السوء التي تظل ملازمة لسيرتهم كما لازمت قابيل من يوم أن قتل أخاه هابيل. وقبل ذلك وبعده غضب الله عليهم: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]:
وكيف يدلسون على أبيهم في طلبهم لخروج يوسف معهم، مدعين له مايعلمون هم كذبهم في ادعائه: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف:12]، ويصدقهم يعقوب عليه السلام بكره، لكنه يبدي حزنه لفراق يوسف {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ} [يوسف:13] حزنه لفراقه ساعات النهار حتى يعودوا آخره بيوسف وقد رتع ولعب، فكيف يكون الحزن إذا ذهب إلى غير رجعة، فإن الذئب قد أكله، وكان يمكن لهذا أن يكون تذكرة لهم، فإن الابن أو الأبناء يجب أن لا يكونوا مصدر حزن مؤقت أو مؤبد لأبيهم، ثم أردف قائلًا: {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف:13]، أي: إني لا أخافكم عليه ولكني أخاف أن يأكله الذئب حال غفلتكم عنه، أي: أنه استجاش وأيقظ فيهم روح الحرص والتنبيه أن يأكله الذئب، وقد كان حريًا بهم أن يشكروا لأبيهم حسن الظن بهم، أنهم لن يغفلوا عنه لئلا يأكله الذئب، وذلك تصديق لتأكيدهم له: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف:12].
{قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ} [يوسف:14]:
وزيادة في طمأنينة أبيهم عسى أن يوافقهم على خروج يوسف معهم، ادعوا أن أمر الحفاظ على يوسف يعني أباهم فإنه يعنيهم أيضًا، لأنه إذا حدث وأكل الذئب يوسف فإننا إذن لخاسرون، حيث إننا أولي قوة يستحيل أن يقرب الذئب منا أو من يوسف، {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف:12]، ووافق الأب على خروجهم وخرج يوسف معهم، واجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجُب تنفيذًا لمؤامراتهم، وألقوه في غيابة الجُب، وتم لهم مادبروا.
وها هم أولاء لم يوفوا بما اتفقوا عليه مع أبيهم، ولكنهم عائدون إلى أبيهم ماذا هو قائلون لهم؟ وماذا هم فاعلون؟ هل اتفقوا على هذا قبل أن يفعلوا فعلتهم الشعناء، أم أن الأمر أُنُف، وإذا كان الأمر الأول أنهم اتفقوا على خطة من أولها إلى آخرها، فيمكن تصور أنهم أخذوا معهم قميصًا ليوسف غير الذي يلبسه بحجة أنه سيرتع ويلعب ويحتاج عند العودة إلى تغيير قميص اللعب، كما أنهم يمكن أن يأخذون معهم سكينًا يذبحون به ما يلطخون بدمه قميص يوسف، أما إذا كان الأمر أُنُفًا فإن التجهيز والتفكير في العودة قد يكون جرى قبل القاءه في الجيب، فليخلعوا عنه قميصه قبل القاءه، وحيئذا يرد التساؤل كم قميصًا كان يلبس يوسف عليه السلام؟ فإن كان قميصًا واحدًا فقد ألقوه في الجب عريانًا، وهذا غير مستبعد على ما أجازوا لأنفسهم على هذه الفعلة الشنيعة، ولعله كان يلبس قميصين، أما السكين الذي ذبحوا به الذبيح فربما من عادة الرعاة ان يكون معهم سكينًا يذبحون به في الموقودة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع.
أما الدموع الكاذبة والبكاء المتكلف فاختاروا له وقت العِشاء، {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [يوسف:16]، وهم قد اصطنعوا البكاء تمويهًا على أبيهم، لئلا يظن بهم أنهم اغتالوه.
وبعض المتظلمين بالباطل يفعلون ذلك، وفطنة الحاكم لاتنخدع بمثل هذه الحيل، ولاتنوط بها حكمًا، وإنما يناط الحُكم بالبينة، فقد جاءت امرأة إلى شريح تخاصم في شيء، وكانت مُبطلة فجعلت تبكي، وأظهر شريح عدم الاطمئنان لدعواها، فقيل له: ماتراها تبكي؟ فقال: قد جاء إخوة يوسف عليه السلام إباهم عِشاء يبكون وهم ظلمة كذبة، لاينبغي لأحد أن يقضي بالحق، قال ابن عربي: "هذا يدل على أن بكاء المرء لايدل على مقاله ؛احتمال أن يكون تصنعًا".
{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف:18]:
إضراب عما قالوه، أي أنه صارحهم أنه لم يصدقهم فيما ادعوا، وأنما هو أمر آخر سولته له أنفسهم فلعل الرؤيا التي أخبر بها يوسف عليه السلام أباه؛ هي سبب عدم تصديق أبيهم أياه، لأنه علم من تأويلها أن سيكون له شأن عظيم، {وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [يوسف:6]، فكان هذا تطمينًا مسبقًا له، كما طمئن الله يوسف عليه السلام لما أجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجُب، فأوحى إليه {لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [يوسف:15]، وكذلك ينزل الله على عباده في امتحانتهم وابتلائتهم مايصبرهم ويرضيهم.
إنه أمر سولته لهم أنفسهم، اكتفى يعقوب عليه السلام بتقريره دون استقصائه أو التحقق منه، وهم قد اكتفوا بما ذكروه، أليست هذه قضية تستحق التحقيق؟ والأمر ليس هينًا! لكنه فقد ابن حبيب بكيد من إخوته.
لو كان المفقود نعجة أو مال لاستحق التحقيق والتبين، حتى يوقف على الحقيقة وينال كل جزاءه {أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا. وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ ۖ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:87:88]، وهكذا أعفى يعقوب عليه السلام نفسه من كل هذا واكتفى أن يكلف نفسه بالصبر الجميل.
{ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف:18]:
والصبر ضياء:
والاستعانة بالله على ما وصفوا وادعوا، فهل هذا الأفق السامي الذي يجب أن يتطلع عليه الآباء في الصبر على ماينالهم من أبنائهم، وعلى مايكون بين الأبناء من كيد أو حسد؟ إن الصبر على أذى الغير أمر مطلوب لاستدامة التعامل والمخالطة بين الناس عمومًا « » (صحيح ابن ماجه [3273]) كما قال صلى الله عليه وسلم، والصبر على ظلم الغير من عزم الأمور كما قال ربنا تبارك وتعالى {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:43]
وإذا كان الصبر محمودًا في هذه الدوائر التي تتسع لكل خلق الله فإن دوائر القربات والرحم أولى بذلك، وأجدر وأحق، وإذا كان الشاعر يحفز مشاعر الضيق والحساسية من ذوي القربي حين يقول:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة *** على النفس من وقع الحسام المهند
فإن عمل الكرام وأهل الصفح والعفو يقول قولًا آخر: بقدر قرب القرابة والصلة يكون الصبر على الظلم، نستبق الأصول، ونفوت العوارض، ونرضي الرحمن، ونخزي الشيطان، ونصل ما أمر الله به أن يوصل.
إن أبا بكر رضي الله عنه لما حجب عطاءه عن قريبه "مِسطَح" رضي الله عنه حين شارك في حديث الأفك، فنزل قول الله تبارك وتعالى {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَاتُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } [النور:25]، فكان جوابه رضي الله عنه: أحب أن يغفر الله لي وأعاد الصلة بمسطح كما كان.
ويُلقى يوسف في البئر ويترك وحيدًا يعاني الوحدة والظلام والبعد عن أبيه وموطنه، يؤنسه أمله في الله الذي نبأه به عن طريق الرؤيا التي عبرها له أبوه، فماذا زرعت هذه الفتره في قلبه تجاه إخوته؟
ويخرج من البئر متعلقًا بدلو السيارة، الذين باعوه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين، وليكن فظهر الأرض خير من بطنها، ونور الشمس خير من ظلام البئر، ويدخل بيتًا اشتراه موصى عليه {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21]، وقبل أن يستغرقنا السياق فنحسب أن يوسف عليه السلام متروك للذين ألقوه في البئر، وكذا للذي انتشلوه وباعوه وكذا للذي اشتراه، يدركنا السياق ليذكرنا بالقدرة المستورة وراء كل فعل وتدبير{وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} [يوسف:21]، وإنها لخطوات في إطار التدبير الإلهي الذي سلك كل هذه الخطوات في خط واحد، يصل مابين بيت يعقوب عليه السلام إلى بيت عزيز مصر مرورًا بالبئر ثم بالسوق.
اللهم يا مدبر الأمر من السماء إلى الأرض دبر لنا فيما لا نحسن التدبير...اللهم آمين.
{وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف:21]:
ليؤول رؤيي الفتيين اللذان دخلا معه السجن ويطلب من الناجي منهما أن يذكره عند ربه، فأنساه الشيطان ذكر ربه ويمكث في السجن بضع سنين، حتى يرى الملك رؤياه ويعجز المؤولون عن تعبيرها، ويذكر الناجي ويطلب منهم أن يرسلوه، ويسأل يوسف عليه السلام ويجيبه يوسف بتأويل الرؤيا، ويرجع الذي نجا إلى العزيز ليخبره بالتأويل؛ فيرسل إلى يوسف، ويرجعه يوسف إلى العزيز ليسأله أن يحقق في أمر النسوة اللاتي قطعن أيديهن، فتظهر براءة وطهارة يوسف عليه السلام {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:51]، فطلبه العزير مرة أخرى، فيجيب هذه المرة ليقول له العزيز:{إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54]، فيجيبه يوسف عليه السلام {اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، وهكذا يتحرك يوسف عليه السلام في عالم الغيب عبرالاحاديث وتأويلها، حتى يصل إلى آخر مراحل التمكين {وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:56]، ويكتمل المشوار من السجن سنين ثقال إلى وزارات المالية والاقتصاد والتجارة وخزائن الأرض.
محمد عبدالمعطي الجزار.
- التصنيف: