فلسفة الدمع
جرى حديث مع أحد الفاضلين حول ماهية الدمع، وباعثه، واختلاف الناس في جمودهم وجودهم فيه، وكيف تجود عين فلان في الدمع، وتجمد عينُ آخرَ مع أن الموقف واحد؟ وما المحمود في ذلك؟ وما المذموم منه؟ إلى غير ذلك مما يدور في شأن الدمع؛ فكان ذلك باعثًا للحديث عن الدمع، وعن نظرة الناس إليه، واختلافهم في شأنه، وأحوالهم، وغرائبهم فيه.
جرى حديث مع أحد الفاضلين حول ماهية الدمع، وباعثه، واختلاف الناس في جمودهم وجودهم فيه، وكيف تجود عين فلان في الدمع، وتجمد عينُ آخرَ مع أن الموقف واحد؟ وما المحمود في ذلك؟ وما المذموم منه؟ إلى غير ذلك مما يدور في شأن الدمع؛ فكان ذلك باعثًا للحديث عن الدمع، وعن نظرة الناس إليه، واختلافهم في شأنه، وأحوالهم، وغرائبهم فيه.
فالدمع هو الماء الذي يتحدر من العين من جراء موقف، أو حديث، أو تذكُّر، أو سماع، أو ما جرى مجرى ذلك. ولقد راعى الشارع الحكيم تلك الحال؛ فكان للقرآن الكريم حديث حول فيض الأعين من الدمع، وعن سبب ذلك؛ كما في قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين} [المائدة: 83]. وكما في قوله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة: 92].
كما أن السيرة النبوية حافلة بذلك، وبذكر الموقف الذي جرى فيه الدمع على نحو ما سيمر في غضون هذا الحديث. وأما نظرة الحكماء، والشعراء، وعموم الناس للدمع فمختلفة من جهة باعثه، ووصفه، وكثرته، وقلته، ولهم في ذلك مذاهب وغرائب.
فامرؤ القيس وهو من أقدم الشعراء، وأدقهم في الوصف، له وقفات مع الدمع، ويكاد يكون أحسن مَنْ وصف الدمع في حال قلته وكثرته، وذلك في قوله:
أَمِنْ ذِكْر نبهانيةٍ حَلَّ أهلُها *** بِجزع الملا عيناك تبتدران
فَدَمْعُهما سُحٌّ وسَكْبٌ ودِيمةٌ *** ورشٌّ وتَوْكافٌ وتنهملان
وأما ذو الرمة فيرى أن في انحدار الدمع راحةً للمحزون، وسلوةً للمكروب حيث يقول:
خليليَّ عوجا من صدور الرواحل *** بجمهور حزوى فابكيا في المنازل
لعل انحدارَ الدمعِ يَعْقِبُ راحةً *** من الوجد أو يشفي نجيَّ البلابل
وقبله قالت الخنساء:
إن البكاء هو الشفاء *** من الجوى، ومن الجوانح
وقد أفاد ابن عباس رضي الله عنهما من تجربة ذي الرمة؛ فقد جاء في محاضرات الأصبهاني ما نصه: قال ابن عباس: كنت إذا حَرجت أمتنع من البكاء، حتى سمعت قول ذي الرمة:
لعل انحدار الدمع يعقب راحة *** من الوجد أو يشفي نجيَّ البلابل
فصرت اشتفي من الوجد به ا_هـ.
وجاء في الكامل للمبرد أن أبا بكر بن عياش قال: نَزَلَتْ بي مصيبةٌ، فذكرت قول ذي الرمة:
لعل انحدار الدمع يعقب راحة *** من الوجد أو يشفي نجيَّ البلابل
فخلوت، فبكيت، فسلوت. وجاء نحوٌ من هذا الخبر في العقد الفريد لابن عبد ربه. وفي خاص الخاص للثعالبي زيادةُ قولِ بكر بن عياش: رحم الله ذا الرمة؛ فما كان أعرفه بدواء الحزن. وجاء في كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري ما لفظه: وقال امرؤ القيس:
وإن شفائي عبرة مُهَرَاقَةٌ *** فهل عند رسمٍ دارسٍ من مُعَوَّلِ
أخبرنا أبو أحمد، قال: أخبرنا الأنباري: قال: حدثنا محمد بن المرزبان قال: حدثنا حمادة بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: حدثنا محمد بن كناسة، قال: قال: أبو بكر بن عياش: كنت وأنا شاب إذا أصابتني مصيبة لا أبكي؛ فيحترق جوفي، فرأيت أعرابيًا بالكناس على ناقة له والناس حوله وهو ينشد:
خليلي عوجا من صدور الرواحل *** بِبُرْقَةَ حزوى فابكيا في المنازل
لعل انحدار الدمع يعقب راحة *** من الوجد أو يشفي نجي البلابل
فسألت عن الأعرابي؟ فقيل: هو ذو الرمة؛ فكنت بعد ذلك إذا أصابتني مصيبة بكيت فاشتفيت، فقلت: قاتل الله الأعرابي ما كان أبصره! ا_هـ.
وجاء في ديوان المعاني لأبي هلال العسكري ما يأتي: وأخبرنا أبو أحمد عن الصولي، قال: أنشد الحسن بن رجاء عن المبرد يوماً بيت ذي الرمة:
لعل انحدار الدمع يعقب راحة *** من الوجد أو يشفي نجي البلابل
وقال له: من قال في مثله؟ فقال: قد مَلُحَ الحسن بن وهب في قوله:
ابك فما أكثر نفع البكا *** والحب إشفاق وتعليل
افزع إليه في ازدحام الجوى *** ففيه مسلاة وتسهيل
وهو إذا أنت تأملته *** حزن على الخدين محلول
أما أبو فراس الحمداني فله مذهب آخر في الدمع؛ إذ هو مُتَصَبِّرٌ مُتجلِّدٌ عصيُّ الدمع، على نحو قوله:
أراك عصيَّ الدمع شيمتُك الصبرُ *** أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمر
وقوله لما كان في الأسر عند الروم، وقد سمع نوح حمامة:
أقول وقد ناحت بقربي حمامة *** أيا جارتا لو تعلمين بحالي
معاذَ الهوى ما ذقت طارقةَ النوى *** ولا خطرت منك الهموم ببالِ
أيضحك مأسور وتبكي طليقةٌ *** ويسكت محزون ويندب سالِ؟
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلةً *** ولكن دمعيْ في الحوادث غالِ
أما أبو الطيب المتنبي فهو بين بين على نحو قوله:
الحزن يقلق والتجمُّل يردع *** والدمع بينهما عصيٌّ طيِّع
يتنازعان دموعَ عينِ مُسهَّدٍ *** هذا يجيء بها وهذا يرجع
وله وقفات مع الدمع يطول ذكرها، وتحتاج إلى مزيد تحرير وتحليل.
ثم إن الدموع تختلف شرفًا وحِطةً؛ فهناك دموع فاضلة شريفة، وهناك دموع هي إلى السماجة أقرب؛ فأشرف الدموع ما فاضت عن خشية الله، والشوق إلى لقائه، وكانت بلا تكلف، ولا رياء كما في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم: رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه. ومن ذلك ما كان عند سماع تلاوة القرآن: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ} [المائدة:83].
وقد كان ابن مسعود يقرأ القرآن على النبي "حتى وصل إلى قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] فقال: حسبك ، يقول ابن مسعود: فالتفت فإذا عيناه تذرفان.
ولأبي بكر وعمر وسائر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين مواقف مع الدموع ناشئة عن الحب لله، ورجائه، والخوف منه، والتسليم لأمره، وما جرى مجرى ذلك من الأحوال الإيمانية. ومن الدموع الشريفة دموعُ الوفاءِ الناشئةُ عن حسن التذمم، ورعاية العهد؛ كما قال أبو الطيب:
إن خير الدموع عيناً لدمعٌ *** بعثته رعايةٌ فاستهلا
يقول الشيخ محمد الخضر حسين لما رأى جنازة شيخه عمر ابن الشيخ تذكرت قول خالي الشيخ محمد المكي بن عزوز فيه:
إذا عُمَرُ بنُ الشيخ قام لدرسه *** فقم واغترف علماً بملء جفان
ففاضت عيناي بالدموع.
ومن شريف الدموع دموع التشوق إلى الأهل والأحبة حال الغربة.
ومن أحسن ما جاء في ذلك ما ذكره ابن عبدالبر في بهجة المجالس؛ حيث قال: قال عوف بن مُحلِّم: عادلت عبدالله بن طاهر إلى خراسان، فدخلنا الرَّيّ _ طهران _ في السحر، فإذا قُمْرِيَّةٌ تُغَرِّد على فَنَن شجرة، فقال عبدالله: أحسن والله أبو كبيرفي قوله:
ألا يا حمامَ الأَيْكِ إِلْفُكَ حَاضِرٌ *** وغُصْنُكَ ميَّادٌ ففيم تنوحُ
ثم قال: يا عوف! أَجِزْها، فقلت: شيخ كبير، وحُملت على البديهة، وهي معارضة أبي كبير، ثم انفتح لي شيء، فقلت:
أفي كُلِّ عامٍ غُرْبَةٌ ونُزُوحُ *** أَمَا للنَّوى مِنْ وَنْيَةٍ فَتُريحُ
لقد طَلَحَ البَيْنُ المُشِتُّ رَكائبي *** فهل أَرَيَنَّ البَيْنَ وهو طَلِيحُ
وأرَّقني بالرَّيِّ نَوْحُ حمامةٍ *** فَنُحْتُ وَذُو الشَّجْوِ القَريح يَنُوحُ
على أنها ناحت ولم تَذْرُ عَبْرَةً *** وَنُحْتُ وأسرابُ الدُّموعِ سُفُوحُ
وناحت وفرْخَاها بِحيثُ تراهما *** ومن دُونِ أفراخِي مَهَامِهُ فِيحُ
ونفثةُ السحر في هذه الأبيات تَكْمُن في البيت الأخير.
ومعناه: أن هذه القُمْريةَ تنوح بالبكاء، وهي ترى أفراخها أمامها، فليس لِنُواحها مسوِّغ!
أما أنا فإن نُواحي على أولادي البعيدين الذين حال بيني وبينهم القِفارُ الواسعة.
ومن شريف الدموع دموع الإكبار للموقف النبيل، وأذكر أن أحد الوجهاء الأكابر الأغنياء استضاف مجموعة من الصائمين على مائدة الإفطار؛ فكان بجانبه أحد الضعفاء، من ذوي الفقر والمسكنة الشديدة، والعقول التي لا تستطيع تدبير نفسها لا في الملبس، ولا في المأكل، ولا في أي شأن من شؤونها؛ فكان ذلك الضعيف المسكين يتناول الإفطار، وكان يتساقط منه بعض الأطعمة، والأشربة على ثياب ذلك الوجيه، وكان ذلك الوجيه يباسطه، ويمازحه، وكأن شيئًا لم يكن؛ فكنت أرقب الوضع، ففاضت عيناي؛ إكبارًا لذلك الوجيه المتواضع، وأقبلت عليه، وقلت له: ما أعظم وقع ذلك التصرف منك، ولعله وَقع مَوقِعَهُ عند الله؛ فجادت عينا ذلك الوجيه بالدمع.
ومن شريف الدمع دمع الدهشة والفرح، والتقدير لمواقف الشهامة، والبطولة. وقريب منه دمع الانبهار للمعروف الكبير. ومن أشرف الدمع دمع الرحمة، والسيرة النبوية حافلة بذلك، والمواقف فيه أشهر من أن تذكر.
ومن شريف الدموع دموع الود عند اللقاء بين المتوادين مودة خالصة طويلة؛ وأذكر من ذلك أن والدي قد كف بصره في آخر عمره، فكان يحتاج إلى قائد يسير به، وكان يذهب يوم الجمعة راجلًا إلى المسجد الجامع _ جامع الملك عبدالعزيز حاليًا _ وكانت بيت الشيخ محمد بن عبدالله المسعود في منتصف الطريق، وكان بينه وبين الوالد محبة قوية صادقة؛ فإذا قربنا من بيت الشيخ محمد قال لي والدي: مِل بي إلى محمد العبدالله، فنقف على بابه، ويرفع والدي الصوت مناديًا له: يا محمد، فيخرج من مجلسه، ويَدَع من عنده من الضيوف، ويأتي إلى الوالد، فيسلم عليه، ويعانقه، ويرفع صوته ويمدُّه قائلاً: إبراهيم، فيجيبه والدي بصوت أعلى: محمد ثم يتقابلان مدة ثلاث دقائق تزيد أو تقل، ولا يتكلمان بكلمة، ولا ترى سوى تذراف الدموع منهما، وبعد ذلك يودعان بعضًا دون أن يدور بينهما أيُّ حديث. وكان ذلك دأبهما في كل لقاء، وكنت صغيرًا أتعجب من ذلك، ولا أدري ما السر.
ومن أنواع الدموع دموع الفرح الشديد كما قال الأول:
طفح السرور علي حتى إنه *** من فرط ما قد سرني أبكاني
يا عين قد صار البكا لك عادة *** تبكين في فرحي وفي أحزاني
ومن غرائب الناس في الدموع أن بعضهم بطيء التبسم جامد العين، وبعضهم كثير الضحك جدًا، ولا تكاد تدمع عينه، وبعضهم يغلب عليه الضحك والتبسم، وسرعان ما يبكي عند أدنى سبب. وبعضهم لا تدمع عينه عند المصائب ولو جلَّت، ولكنها تجود في مواقف الشهامة والبطولة. وبعضهم تدمع عينه عند تذكر أمه، أو أبيه، أو أحد أحبته، وبعضهم لا تدمع عينه إلا إذا ذُكِرَ شخص بعينه. وأذكر أن أحد الأحبة كثير المزاح، والإيناس لأصحابه، فإذا حلَّ ذكر الشيخ ابن باز فاضت عيناه بالدموع.
وبعض الناس أجود ما تجود عينه إذا وقف على قبر أمه. وبعض الناس جامد العين تماماً لا تذرف عينه عند أي موقف، فلا تحركه المصائب، ولا تهزه المكارم على نحو قول الأول:
يُبْكَى علينا ولا نبكي على أحد *** لنحن أغلظ أكباداً من الإبل
وبعض الناس لا تدمع عينه عند المصائب العظام، ولكن يدمي مقلته موقف قد يمر على كثيرين دون أن يلقوا له بالًا. يقول أحدهم: في يوم من الأيام كنت أسير في منتصف الليل عائدًا إلى منزلي، فشاهدت أمامي رجلًا كبيرًا في السن، وكان فقيرًا ذا بنات، وكان يقود سيارته ومعه بناته في السيارة، وبعضهم داخل السيارة، وبعضهم في حوضها؛ حيث لم يكنْ داخل السيارة يكفيهم، فظننت أنه قد أتى بهن من مكان، ويريد الذهاب إلى بيته، وإذا به يتجول بهن من حي إلى حي في تلك الساعة من الليل، وبعد ذلك رجع بهن إلى المنزل.
يقول ذلك المتحدث: فرجعت إلى منزلي، وأنا أكفكف دموعي؛ رحمةً بذلك الرجل الذي نهض في تلك الساعة التي نام بها أترابه؛ رحمة بتلك البنيات، ورغبة في إسعادهن في ذلك الوقت؛ فنال ذلك الموقف مني نيلَه.
ومن مواطن الدموع مواقف الوداع؛ فللوداع لوعته، ودموعه، وزفراته، وللحكماء والشعراء مذاهبهم المختلفة في تصويره، ونظرتهم له. فعن المعتمر بن إياس قال: ودع الحسن رجلاً، وعيناه تهملان، وهو يقول:
وما الدهر إلا هكذا فاصطبر له *** رزيئةُ مالٍ أو فراقُ حبيب
وقال آخر لرجل ودَّعه: بقي علينا أن نَكُفَّ من غَرْبِ الشؤون ونستعين على فُرقة الوحشة بالكتب؛ فإنها ألسن ناطقة، وعيون رامقة. وهذا ابن زريق يصور موقف الوداع، وما فيه من الدموع فيقول:
أستودع الله في بغداد لي قمراً *** بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودَّعته وبودي لو يودعني *** طيب الحياة وأني لا أودعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحًى *** وأدمعي مستهلات وأدمعه
ولأبي الطيب المتنبي وقفات مع دموع الوداع تملأ ديوانه؛ فها هو يصور لوعة الوداع، فيقول:
حُشاشة نفسٍ ودعت يوم ودعوا *** فلم أدرِ أيّ الظاعنين أشيعُ
أشاروا بتسليم فجُدْنا بأنفسٍ *** تسيل من الآماقِ والسِّمُّ أدمعُ
ويقول في موضع آخر:
شوقي إليك نفى لذيذ هجوعي *** فَارَقْتَنِي فأقام بين ضلوعي
أوما وجدتم في الصَّراة ملوحةً *** مما أرقرق في الفرات دموعي
ويقول في موضع آخر:
ولم أرَ كالألحاظ يومَ رحيلهم *** بعثن بكل القتل من كل مشفق
أدَرْنَ عيوناً حائراتٍ كأنها *** مركبةٌ أَحْدَاقُها فوقَ زئبق
عشية يعدونا عن النظر البكا *** وعن لذة التوديع خوف التفرق
ومن أبدع ما قيل من الشعر في دموع الوداع للأصدقاء ما قاله أبو تمام يمدح عليَّ بن الجهم القرشي الشاعر، وقد جاءه يودعه لسفر أراده، وكان أصدق الناس له:
هيَ فُرْقَة ٌ منْ صَاحبٍ لكَ ماجِدِ *** فغداً إذابةُ كلِّ دمعٍ جامدِ
فافْزَعْ إلى ذخْر الشُّؤونِ وغَرْبِه *** فالدَّمْعُ يُذْهبُ بَعْضَ جَهْد الجَاهدِ
وإذا فَقَدْتَ أخاً ولَمْ تَفْقِدْ لَهُ *** دَمْعاً ولا صَبْراً فَلَسْتَ بفاقد
أما أحط الدموع وأسمجها، فهو ما كان عن رياء، وسمعة، وملق، وخور. وأحط من ذلك دموع التماسيح، وهي دموع المجرمين الذي يقتلون ضحاياهم، ويتظاهرون بالحزن والرحمة. وأقبح ما في ذلك ما يفعله كثير من الطغاة ممن يسومون شعوبهم القتل والتشريد، ثم يخرجون عبر وسائل الإعلام ودموعهم تتساقط من عيونهم منددين بتلك الأعمال، متبرئين من أهلها، ثم يجدون من يخلع عليهم صفات العدل والرحمة.
وأقتل داءٍ رؤية العين ظالماً *** يسيء ويتلى في المحافل حمدُه
- التصنيف:
- المصدر:
بكر عبد العزيز
منذ