إياك ولحم الإنسان

منذ 2016-04-01

إن الواجب عليك إذا سمعت من يغتاب إخوانك من المسلمين أن تمنعه وتذب عن أعراض إخوانك؛ ألست لو رأيت أحدًا قائماً على جنازة رجل من المسلمين يأكل لحمه، ألست تقوم عليه وتنكر عليه؟! إن الغِيبة كذلك تماماً.

الحمد لله جعل المؤمنين إخوةً يتعاونون بينهم على البر والتقوى ويحترم كل واحد منهم الآخر في نفسه وماله وعرضه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسماء، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل البر والوفاء وعلى التابعين لهم بإحسان ما تتابع القطر والندى، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: [1].

يتورع الكثير من المسلمين عن اللحوم المستوردة لا سيما المعلبة منها ويتوقَّوْن في ذلك أشد التوقِّي مخافة أن تكون من اللحوم المحرمة، أو أن تكون قد ذبحت على خلاف الطريقة الشرعية، وهذا سعي مشكور.

ولكنْ هناك لحوم لطُفت حتى خفيت على المتورعين، ولم تدركها رقابة المتوقِّين؛ والسر في هذا أن اللحوم التي رغب عنها المتورعون لحومٌ حسيَّة مشاهَدة، فلا تخفى على الرقابة؛ لأن الذي يتناولها يعالج أكلها، بينما الأخرى لا يحتاج إلى ذلك آكلها، وكلاهما يُسمى أكلاً، قال تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات من الآية:12].

إنها الوقوع في عرض المسلم بالكلام والغيبة.. وتكاثرت الأدلة على تحريمها وبيان خطرها وقبح التلبس بها، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَوَقَعَ فِيهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْدِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَخَلَّلْ»، قَالَ: وَمَا أَتَخَلَّلُ يَا رَسُولَ اللهِ، أَكَلْتُ لَحْمًا؟ قَالَ: «إِنَّكَ أَكَلْتَ لَحْمَ أَخِيكَ»[2].

إخوتاه:

لقد انغمر الناس في هذه المعصية؛ ولا أدل على ذلك من واقع الناس، فترى أن الغيور على محارم الله أن تُنتهك عندما ينكر عليهم هذه الموبقة يُقابَل بإجابةٍ تواترت عليها الألسنة وألفتها: ألا تريدنا أن نتكلم، فسبحان الله كأنّ الكلام كلّه منحصر فيما حرّم الله على عباده.

إن من يتأمل هذه المقولة تبين له مدى تمزيق الجسد الواحد نفسه بدلاً من أن يشدّ بعضه بعضاً، وكأننا لم نسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»[3].

هذا هو جواب تلك المقولة؛ إذ ليس من الخير أن تقارف تلك الكبيرة، فالزم الصمت إن لم تقل خيراً فإن من صمت نجا.

ولعلك تتساءل معي -أخي المسلم- كيف يقع الصالحون على وجه أخص في هذه الموبقة على الرغم من أنهم أوْلى الناس بالبعد عنها؟

فالجواب هو أن هناك أسباباً أوقعتهم في ذلك يشترك معهم بقية الناس فيها، ومنها:

1 - موافقة الأقران ومجاملة الرفقاء؛ حيث يرى أنه لو أنكر عليهم استثقلوه فيما بينهم في ذلك.

2 - التشفي فكلما غضب من أحدٍ شفى قلبه بغيبته.

3 - إرادة رفع نفسه بتنقيص غيره والحط من قدره.

4 - اللعب والهزل؛ فربما أراد أن يُضحك الناس بمحاكاة فلان وفلان في قوله وفعله.

5 - الحسد؛ فإذا تكلم الناس بمدح لرجل قال: إن فيه وفيه، وأنا أخبر به منكم، فلا سبيل لديه للنيل من المحسود إلا القدح فيه.

6 - كثرة الفراغ والشعور بالملل؛ فلا يجد شغلاً إلا بذكر عيوب الناس؛ وذلك لأنه لم يستغل وقته بطاعة الله؛ فالواجبات أكثر من الأوقات، والسلف كانوا يقولون: النفس إن لم تشغلها شغلتك.

7 - طلب موافقة الرئيس والمدير ومجاراته في تنقُّص من لا يحب من مرؤوسيه لنيل الحظوة لديه، فتأمل ذلك يا أخي.

إنك تعاشر أقواماً لا يُحْصَوْن كثرةً، منهم القريب، ومنهم الصديق الحبيب، ومنهم الأستاذ، ومنهم الجار؛ فاحذر غداً أن تراهم ماثلين أمامك بين يدي الله، ترى أحبابك وخلاَّنك يطلبون رد مظلمة أعراضهم منك[4]!

أيها المسلم:

إن الواجب عليك إذا سمعت من يغتاب إخوانك من المسلمين أن تمنعه وتذب عن أعراض إخوانك؛ ألست لو رأيت أحدًا قائماً على جنازة رجل من المسلمين يأكل لحمه، ألست تقوم عليه وتنكر عليه؟! إن الغِيبة كذلك تماماً؛ كما قال الله تعالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [لحجرات من الآية:12].

واعلموا -رحمكم الله- أنه لا يبعد أن يعاقَب من يغتاب إخوانه يوم القيامة بما ورد أنهم يقربون إليه بصورة أموات ويرغم على الأكل منهم؛ كما ورد في الأثر، بل قد جاء في حديث أَنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليْهِ وسلم: «لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ»[5][6].

نسأل الله أن يعافينا من هذه الآفات، وأن يوفقنا لاستغلال أعمارنا بكثرة ذكره وحسن الطاعات، وأن يجنبنا مساوئ الأخلاق والرذائل وجميع السيئات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين.

_______________

[1]- الضياء اللامع من الخطب الجوامع لابن عثيمين.

[2]- رواه الطبراني؛ برقم [10092] في المعجم الكبير، وصححه الألباني برقم؛ [428] في (غاية المرام).

[3]- صحيح البخاري برقم؛ [6475]، وصحيح مسلم؛ برقم: [47].

[4]- مستفاد من مجلة البيان؛ العدد: [153]، ص: [138]، جمادى الأولى 1421هـ.

[5]- سنن أبي داود؛ برقم: [4878]، ومسند أحمد؛ برقم: [13544]، وصححه الألباني في تحقيق سنن أبي داود برقم: [4878].

[6] الضياء اللامع من الخطب الجوامع لابن عثيمين.

  • 1
  • 0
  • 3,907

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً