هلم إلى الظل
السور نفسه لا تحتمل حرارته، والعرق يصب صبا، وقد جف الحلق -اشتاق لرشفة ماء بارد تطفئ ذلك اللهيب.
في ظهيرة يوم قائظ الشمس حارقة، والهواء تلفح حرارته الوجوه، وبالكاد تجد مكانا ظليلا، فلابد أن تلتصق بالسور؛ لتنعم بشيء من الظل ولكن السور نفسه لا تحتمل حرارته، والعرق يصب صبا، وقد جف الحلق -اشتاق لرشفة ماء بارد تطفئ ذلك اللهيب-، وباليد صحيفة أضعها فوق الرأس تارة، واستخدمها كمروحة تلطف الجو تارة أخرى، وكل هذا لا يجدي نفعا.
تذكرت يوم الحشر، والشمس تدنو من الرؤوس، والناس في تدافعهم وقد اختلطت أقدامهم، وفي عرقهم غرقوا إلا من رحمهم الله فألجأهم إلى ظله، تذكرت ذلك المشهد المهيب وتخيلت نفسي وأنا في حيرة أبحث عن الستر من هجير الشمس لا سور ألتصق به ولا صحيفة أتقي بها الشمس لا شيء إلا عرش الرحمن، هناك أناس يفرون إليه ليخصهم الله بظلة كيف السبيل إليه؟
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « »[1].
من هؤلاء الذين يخصهم الله بكنفه؟! ويقيهم هول ذلك اليوم؟! هم عباد لله اكتسبوا صفة أو صفات مثالية لا تنال إلا بجهد وجهاد:
1- إمام عدل في نفسه يعدل بين العباد
2- شاب نشأ في عبادة الله
3- رجل قلبه معلق في المساجد
4- رجلان تحابا في الله
5- رجل يعف نفسه خوفا من الله
6- رجل يتصدق في السر
7- رجل يذكر الله فتدمع عيناه حبا وشوقا لمولاه
هؤلاء رباهم الإسلام وأُشربوا إيمانا فكانوا يوم الحشر عنوانا لكل خير يُكرمهم الله على رؤوس الخلق فيشرفهم بحماه.وتساءلت هل أنا منهم؟ كيف أُحشر معهم؟
امنحيني يا رياض الهمم*** زهرة يشفي شذاها سقمي
ضوِّعي مسك العلا في أضلعي *** انشري عرف التُّقى في قلمي[2].
يا أيها القلب الغافل تذكر يوم القيامة واذرف الدمع وأطل البكاء ندما على ما كان وخوفا من الرحمن، قال عمر بن ذر "أعليَّ تحملون جمود أعينكم وقسوة قلوبكم؟ أحملوا العيَّ عليَّ إن لم أسمِعُكم واعظا من كتاب الله تعالى: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ . لِيَوْمٍ عَظِيمٍ . يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4-5-6]، قال تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:27]، قال تعالى: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:10]، قال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4]، قال تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل:17]، قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87]، وقالوا: يا رسولَ اللهِ! قد شِبْتَ؟! قال: « »[3].
فيا طول حزننا وغمنا، ويا طول جهدنا وكمدنا؛ إن كان الله قد قطع ما بينه وبيننا، ولم لا تذوب أبدان العباد والزهاد والخدام فزعا والقيامة أمامهم، وفي العرصات مقامهم، وعلى الصراط جوازهم، ولهم في يوم ما قد عملوا؟! فمن لنا في ذلك الموقف؟! فوا طول وقفتاه! وا تحيراه! وا ثقل ظهراه! من حمل الذنوب والمظالم والخطايا، وأوساخ العيوب، أواه من حملها! أواه من ذكرها! أواه من ثقلها! أواه من إقراري بها!
قال ابن مسعود: "إن هاهنا رجلا ود لو أنها قامت ألا يبعث"، يعني القيامة، وسفيان الثوري كان إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم[4]، وعلى بن الفضيل يموت من آية {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27][5].
أخي الحبيب إن غفل قلبك فهجير شمس الدنيا يذكرك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « »[6].
أخي الحبيب أحدنا يؤثر الظل على الشمس في دار الدنيا، فكيف لا نؤثر عرش الرحمن؟! كيف إذا آواك الودود إلى ظله فوالله لو مات إنسان من شدة الفرح لمت حين ترجو هذا وأنت في دار الدنيا، فكيف إذا آتاك اليقين يوم القيامة بأنك ممن يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله؟ إذا آتاك اليقين أنك من الذين شملتهم العناية والرعاية فلا يحزنهم الفزع {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل:89] حتى يقضي بين الخلائق، ولا يعتريهم حزن ولا ينتابهم خوف {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان:11]، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] والحمد لله أن هؤلاء الذين يظلهم الله زادوا على السبعة كثيرا فاحرص أن تلحق بركبهم فتفوز بفوزهم.
أنت القتيل بكل من أحببته *** فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي[7].
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار آمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (البخاري، الموسوعة الشاملة [2] [111]).
(2) (الشاعر: محمد عبد الحكيم القاضي، من كتاب (ترطيب الأفواه بمن يظلهم الله ص[33]).
(3) وفي روايةٍ: « ».
(الألباني، تخريج مشكاة المصابيح [5283]).
(4) (السير 7/ 242).
(5) (ترطيب الأفواه بمن يظلهم الله ص[43]).
(6) (االألباني، صحيح الجامع: [777]).
(7) ترطيب الأفواه بمن يظلهم الله ص[45]).
- التصنيف: