عاشا سويا وماتا سويا

منذ 2016-12-25

وربما لأول مرة يفتقد المسجد في صلاة الجمعة الرجل الذي تولى فتحه منذ أقيمت به أول صلاة؛ وسيفتقده من بعده؛ وسيفتقده كل من عرفوه وأنا أولهم.

عرفته منذ أحد عشر عاما تقريبا؛ لا أتذكر أنني رأيته يوما إلا في طاعة؛ لا أظن أني دخلت المسجد يوما إلا وهو بداخله ينافس ثباته ومداومته أعمدة بيت الله.

لا تكاد تراه في غير وقت الصلاة إلا والمصحف بين يديه وكتاب التفسير عن يمينه يتلو آيات ربه ويتدارسها أو يجمع صبية الحي من حوله يعلمهم ويحفظهم ويتحفهم بهداياه التشجيعية والحلوى التي يحرص على شرائها لهم ليحببهم في بيت ربهم وكلماته.

ورغم تقدمه في السن وتجاوزه السبعين إلا أنه خلال هذه السنوات التي قام بها على أمر المسجد أكاد أجزم أنه لم يغب عن صلاة صبح فضلا عن باقي الصلوات إلا لمرض أو سفر.

كان دوما الأسبق إلى المسجد وإلى المصحف وإلى الصيام والقيام وإلى نفع الناس بكل ما يستطيع؛ المسجد بالنسبة له كان كالابن الذي يحرص على رعايته في كل تفصيلة ودقيقة.

أدهشني دوما تفانيه التطوعي في زمن يصعب فيه جدا أن تجد هذا التفاني وتلك المداومة حتى لدى من يتقاضون أجرا نظير خدماتهم بينما كان هو على تطوعه بخدمة المسجد والقيام بشؤونه كاملة غير منقوصة؛ ينفق أحيانا من خاصة ماله ليتمم المهمة التي أخذها على عاتقه؛ ولقد أحسن أخذها والله حسيبه..

كان من أسباب انتقالي للسكنى بجوار هذا المسجد تلك البيئة الطيبة التي نجح الحج سيد في إقامتها بذلك المكان والتي شرفني أن أتحمل معه مسؤوليتها.

اليوم غادرنا الرجل الطيب.. رحل هو وزوجه التي لم تكن تقل عنه طيبة وحنانا وتفانيا ومودة؛ رحلا عن عالمنا سويا كما عاشا دوما مترابطين.

كانت علاقتهما الفريدة دائما موضع غبطتي وغبطة كل من عرفهما؛ كان إذا تحدث عنها أو تحدثت عنه أو قابلتهما معا تشعر أنك تتعامل مع عروسين في أول أيام زواجهما وليس مع زوجين عاشا سويا عشرات السنين!

لا أظنه كان يتركها إلا حين يسارع إلى المسجد ليؤذن ويقيم الصلاة؛ وإن كان ثمة إفطار في المسجد أو سحور في ليلة رمضانية استأذننا في أدب ف (الحاجة) وحدها ولا تأكل من دونه.

بل لا أعتقد أنهما كانا يفعلان شيئا إلا متشاركين؛ حتى حينما كانت تؤلمه أسنانه ويزور عيادتي لأحشو له ضرسا أو أصنع له تركيبة ما كان يأتي وحده؛ كانت دوما معه.

اليوم خرجا من بيتهما سويا خروجا أخيرا؛ صلى صبح الجمعة كعادته ثم عاد ليعد لهما شيئا من الطعام على ما يبدو لكن النوم قد غلبه؛ والأجل قد حان.. يبدو أن غليان الماء قد أطفأ نيران الموقد فاستمر الغاز في الخروج و...
وقضي الأمر.

وربما لأول مرة يفتقد المسجد في صلاة الجمعة الرجل الذي تولى فتحه منذ أقيمت به أول صلاة؛ وسيفتقده من بعده؛ وسيفتقده كل من عرفوه وأنا أولهم؛ سيفتقده من تعلموا منه وأنا أولهم؛ تعليما عمليا بغير كثير كلام فلم يكن رحمه الله ممن يجيدون نظم الكلمات وتنميق الأحرف والألفاظ؛ لكنه كان يجيد العمل.

وكان على بساطته نموذجا آخر ينضم مع نموذج جدتي رحمها الله ليشكلا تلك الصورة السهلة السلسة لنمط من التدين الجميل؛ نمط يسميه البعض دين العجائز؛ وأسميه أنا دين الفطرة؛ دين نقي بسيط بعيد عن التكلف يشغله العمل عن الشقشقات والفلسفات والتعقيدات والسفسطة والتعالي وادعاءات النقاوة المتكلفة.

تعلمت ذلك من جدتي طيب الله قبرها؛ وتعلمته من هذا الرجل الفاضل وزوجه الودود المحبة.

رحم الله الحج سيد وزوجه وأفسح لهما في قبريهما مد أبصارهما وجعل مثواهما جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

فضلا لا أمرا؛ لا تنسوهما من دعوة صالحة.

  • 1
  • 0
  • 1,421

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً