مات الراوي وبقيت الذكريات

منذ 2017-06-04

كان كثير الربط للقرآن بواقع المسلمين، حسن الاستخراج للمعاني من الآيات، وكان لطريقة تلاوته وقوة استحضاره أثر بالغ في نفوس مستمعيه، ولصوته نبرة حزينة تزيد الدرس جلالاً وجمالاً. بعد أن عرفته في ميدان التدريس اشتريت كتابه " حديث القرآن عن القرآن " وهو من أجود ما كتب في موضوعه، وطبع له بعد ذلك كتاب " كان خلقه القرآن ".

مات شيخنا الحبيب الدكتور محمد الراوي صباح اليوم الجمعة السابع من رمضان 1438هـ يقال عن عمر يناهز الثامنة والثمانين قضاها مع القرآن والدعوة إلى الله.

 

عرفته من خلال برنامجه الإذاعي " حديث القرآن عن القرآن " ورأيته أول مرة عبر شاشة القناة الأولى السعودية في بعض الحلقات القرآنية، ثم رأيته في قاعة الدرس في مرحلة الماجستير عام 1415- 1416هـ بكلية أصول الدين بالرياض، فقد درسنا مقرر التفسير التحليلي في مرحلة الماجستير تفسير سورة فصلت، ولا زلت أتذكر كلامه وتفاصيله كلما قرأت سورة فصلت، وهو من الشيوخ الذين تجد لكلامهم صدى في نفسك، ولصوته عذوبة في روحك، كثيراً ما تخنقه العبرة مع قراءة الآيات، ولعل هذا من صدقه وإخلاصه رحمه الله، وادخل الآن إلى اليوتيوب فابحث باسمه " محمد الراوي " وستجد من دروسه ولقاءاته مصداق ما أقول.

 

وقد كان رئيساً لقسم القرآن وعلومه بالكلية لما يقارب عشرين سنة تقريباً، ومعظم مشايخ القسم الكبار من تلاميذه، وهو من المتقنين لحفظ القرآن لكثرة مراجعته وتدبره له.

 

سألني أول محاضراته لنا عن اسمي فقلت: عبد الرحمن، فقال: على اسم والدي رحمه الله. فعرفت أن اسمه محمد بن عبد الرحمن الراوي.

 

كان كثير الربط للقرآن بواقع المسلمين، حسن الاستخراج للمعاني من الآيات، وكان لطريقة تلاوته وقوة استحضاره أثر بالغ في نفوس مستمعيه، ولصوته نبرة حزينة تزيد الدرس جلالاً وجمالاً. بعد أن عرفته في ميدان التدريس اشتريت كتابه " حديث القرآن عن القرآن " وهو من أجود ما كتب في موضوعه، وطبع له بعد ذلك كتاب " كان خلقه القرآن ".

 

وكان شديد الحرقة على حال الأمة الإسلامية، ننتقل في محاضراته إلى أجواء قرآنية مختلفة عن محاضرات غيره لما يحسنه من إيقاظ اهتمام الطلاب بهموم أمتهم وشؤونها.

 

لا أنسى موقفاً طريفاً حدث لي معه ذات يوم من أيام الصيف الحارة جدا في الرياض، لقيته عند باب قسم القرآن وعلومه، وكنت أراجع في معاملة تخصني، وكنت طالباً في آخر السنة التمهيدية للماجستير، ومعي سيارة كورولا قديمة مكيفها لا يعمل ولم أستطع إصلاحه، والزجاج الذي عند السائق عطلان ولا يمكن فتحه فهو مغلق أبداً، ولكنني متعايش معها لعدم وجود خيارات أخرى.

 

فقال لي رحمه الله: هل عندك سيارة يا عبد الرحمن، فقلت: نعم يا شيخنا. قال: لو تكرمت توصلني معك للمنزل، قلت: أبشر يا شيخنا، وكان يرتدي قلنسوته الجميلة التي تشبه المشلح، وقد تكون أسمك قليلاً، ونزلنا معاً إلى مواقف كلية أصول الدين متجهين للسيارة، وأنا في غاية الخجل من الشيخ، ماذا سأقول له في هذا الحر الشديد قُبيل صلاة الظهر، ولكنني سكت وركبنا السيارة، وانطلقتُ به لمنزله القريب من الجامع الكبير في وسط الرياض، والجامعة في شمال الرياض والمشوار طويل.

 

 ولما ركبنا ومشينا قليلاً، قال: مفيش مكيف يا ابني؟ فنظرت إليه مبتسماً وقلت: المكيف عطلان يا مولانا فاصبر واحتسب. فضحك رحمه الله ضحكاً طويلاً، وفتح النافذة التي عنده ليبرد قليلاً والجو في الخارج حار جداً، وقال افتح النافذة التي عندك ليكون هناك تيار هواء يخف علينا شويه، فقلت: الزجاج عندي مصمت لا يفتح، فضحك أكثر، وقال: أمال أنت بتقول عندك عربية ليه؟ دي مش عربية، وضحك وضحكت.

 

فقلت له: والله يا شيخ من حبي لك ورغبتي في خدمتك قلت لك عندي سيارة، واستحيت منك أن أخبرك بعيوبها فتتراجع عن مرافقتي، فسكت عنك والحمد لله الذي يسر لي خدمتك.

 

فضحك رحمه الله وقال: يا ابني عبد الرحمن، صبر طالب العلم على صعوبة الحياة وقسوتها تكون لها عاقبة حميدة، ومن لم تكن له بداية محرقة كسيارتك هذه لم تكن له نهاية مشرقة، وكل حياتنا بشدتها ورخائها ستمر وتصبح من الذكريات، والحمد لله الحر محتمل، وهو أخف من نار جهنم، وغيرنا لا يجد شيئاً يتنقل به، فالحمد لله على نعمه علينا وستره لنا، وكانت متعة حديثه مخففة لحر ذلك المشوار، الذي زادت فيه حراراتي عن المعتاد خجلاً من الشيخ، وإلا فإنني أتنقل بهذه السيارة دون شعور بالحر من قبل وكأنني تحت مكيف ميتسوبيشي!

 

ولما أوصلته لمنزله شكرني ودعا لي وفارقته وأنا أتصبب من العرق خجلاً من هذا الموقف، الذي أردت منه خدمة الشيخ في حدود إمكانياتي المتواضعة، ولم يزل الشيخ بعد ذلك يذكرني بهذا الموقف مازحاً.

 

وعندما قابلته بعد عام أثناء بحث الماجستير سألني كيف حالك؟ والعربية عاملة إيه، قلت: تسلم عليك، وفي أبها لا أحتاج المكيف فالأمور على ما يرام.

 

رحم الله شيخنا محمد بن عبد الرحمن الراوي فقد كان نعم العالم القرآني المربي المتواضع الصادق، لم يزل داعياً إلى الله بعلمه وأخلاقه حتى لقي ربه غير مغير ولا مبدل.

 

اللهم تقبله عندك في الصالحين، وارفع درجته في المهديين يا رب العالمين،

تلميذه: عبد الرحمن بن معاضة الشهري

عصر الجمعة 7 رمضان 1438هـ.

عبد الرحمن بن معاضة الشهري

الشيخ عبد الرحمن بن معاضة الشهري المدير العام لمركز تفسير للدراسات القرآنية https://tafsir.net/ دكتوراه في القرآن وعلومه من كلية أصول الدين بالرياض عام 1425هـ

  • 6
  • 4
  • 6,603

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً