من ينهي الحكاية - مذكرات مرابطة (27)
سلسلة مقالات بقلم المناضلة الفلسطينية هنادي الحلواني، من مرابطات المسجد الأقصى، وقد أسمتها (مذكرات مرابطة).
ليلة في سجن الرملة:
كبّلني ذلك الضابط الدرزي بالحديد لأدخل في سلسلة التنقلات والإجراءات الطويلة حتى أصل للغرفة التي سأباتُ ليلتي فيها، فُتشتُ تفتيشاً عارياً دقيقاً ككلّ مرة ثم أخذتني المجندة لعنبر في السجن لأبات ليلتي في زنزانةٍ يصحبني فيها يهوديّتان محكومتان بأحكامٍ جنائية!
لم أتخيّل ولا لحظة كيف بإمكاني قضاء هذه الليلة، وكيف يمكن أن يتم استقبالي في هذه الغرفة لهذه الليلة، صحوت من أفكاري حين وصلت الزنزانة على صوت السجانة تزعق وهي تأمرني أن أخلع جلبابي وحجابي.
حدّقت فيها لأميز هل تتكلّم بجديةٍ أم تهزأ بي فوجدت الشر يطفح في مقلتيها وهي تمدّ يدها منتظرةً أن أناولها ما طلبت، هل تحلُم؟!
يا حمقاء! نجوم السماء أقرب لكِ من أن أنفّذ لكِ ما طلبتِ، هذا جنون، هل تطلبين مني أن أناولكِ ستري وهويتي في يدكِ البالية؟
علت أصواتنا ونحن نتجادلُ وأنا أضمّ قبضة يدي كي لا أضربها، وتجمهرت سجينات العنبر على أبواب الزنازين يراقبنَ المشهد يترقبن نهايته، وأنا أصيحُ فيها متمنّعةً عما طلبته مني وأشدّ إلي حجابي وهي تحاول نزعه وتضربني وتصرخ: معك نساء بالسجن وين المشكلة؟
أشرتُ لكاميرات المراقبة داخل الزنزانة وأنا أقول لها: "والكاميرات كم واحد بشوفها؟ وأنا ما بكشف شعري قدام يهوديات."
علت أصواتنا أكثر، في حين بدأت السجينات بالصراخ عليها وهنّ يأمرنها أن تتركني وشأني، نظرتُ إليهن فوجدتهن مزيجاً من نساءٍ عربيات ويهوديات، والجميع بلا حجاب ولا حتى لبسٍ محتشم للأسف، إلا أنّ الكل يصرخ فيها مدافعاً عني.
ولكم أن تتخيلوا الغلّ الذي نجم في قلبها حين رأت وسمعت صراخهنّ، لتدفعني بهذا الغلّ لداخل الزنزانة وهي تشدّ حجابي عن رأسي وتبتعد به، تلفّت حولي بذعرٍ وأنا أسحب منشفةً كانت موضوعة على رفٍّ بالغرفة فأغطي شعري به وأنا أجهش ببكاءٍ مرٍّ شديد.
اقتربت نزيلتا الزنزانة مني يحاولنَ مواساتي وهن يتحدثن العبرية، وأنا أحاول حبس دموعي بلا جدوى، مدّت إحداهما لي قليلاً من الطعام الملفوف بعنايةٍ بمنديلٍ ورقي، وهالني أن أرى الصراصير تتسابق على المنديل فتمنّعتُ عن الطعام وابتعدتُ لسريرٍ في الغرفة أجلس عليه ودموعي لم تجف.
وما هي إلا لحظات قليلة حتى سمعتُ صراخاً في السجن قبل أن يفتح السجان بوابة الزنزانة وهو ينادي: هنادي مكاوي، حجابك!
اختطفتُ الحجاب من يده وأنا ألفه باكية واتجهت للقبلة لأقضي ليلتي بين صلاةٍ تمدني بالقوة، واستغفارٍ يسربلني بالسكينة والأمان، ودعاءٍ أستعين به على نوائب الزنزانة ومكر العدوّ.
بينما كانت نزيلتا الغرفة تطاردا الصراصير التي تنبعث من كلّ مكانٍ في محاولة لاصطيادها وقتلها.
وقبيل الفجر، زارتنا في الغرفة نزيلة جديدة لم أعرف تهمتها، اقتربت مني وهي تطلب مني أن أصعد للسرير الذي بالأعلى لأن سنّها لن يساعدها على صعود سلّمه، ابتسمتُ لها وأنا ألبي لها طلبها، بينما جلست هي تتحدث العبرية بطلاقة تتجاذب أطراف الحديث مع النزيلتان اليهوديتان.
نادتني بعد قليلٍ وهي تسألني: بحكولك شو تهمتك؟
التفتُّ إليهما لأرى الترقب في عينيهما وأجبتُ قائلة: لا شيء، إلا أني أحب الأقصى.
ترجمت لهما ما قلته لترتفع أيديهما للسماء في دعواتٍ لي أن ينتهي هذا الكابوس الذي وُضعتُ فيه، ثمّ تحدثن إليها وهنّ يُشرن إليّ وينظرنَ لي.
فتحدثت إليّ تخبرني أنهما يتمنيان لي أن أخرج من هذه المحنة سالمةً وألا يطول عذابي فيها، رغم أنهما شعرتا بالأمان من اللحظة التي دخلتُ الغرفة عليهما بها، وبصلاتي وأذكاري واستغفاري.
ابتسمتُ لهما وأنا أشعرُ كم هي رحمة الله واسعةٌ تتغشانا حتى في أصعب الأوقات، وكم هي كلمةٌ صغيرة نشعر أننا قدّمنا لإسلامنا شيئاً من خلالها قد تزيل عن صدورنا هماً يجثم بلا رحمةٍ عليها.
يتبع...