من ينهي الحكاية - مذكرات مرابطة (28)
سلسلة مقالات بقلم المناضلة الفلسطينية هنادي الحلواني، من مرابطات المسجد الأقصى، وقد أسمتها (مذكرات مرابطة).
يومٌ طويل:
منذ الرابعة فجراً، عادت السلاسل لتطوّق يديّ وقدميّ لأجَرّ إلى غرفة التحقيق مروراً ببوسطةٍ لا ترحم، وأنا لا زالت معدتي خاويةً إلا من اللقيمات التي استرقتها مع أبنائي أمس قبل حضوري.
كان التعب قد نال مني، وقلّة الطعام مع البكاء قد استنزفا من طاقتي الكثير، وبدأ الشوق لأبنائي يتعاظم في ذلك القلب الذي ما خبا اليقين في وهج خفقاته المتعبة.
دخلتُ لغرفة التحقيق لنعود لنفس سلسلة الاتهامات والترهات، والحديث عن تتظيم المرابطين المحظور الذي ما عهدتُّ السماع عنه سوى في حوانيت التحقيق هذه!
ثم عاد ليعرض لي الفيلم الذي كنتُ قد أعددتُ فيه طعام الإفطار مع أبنائي لمبعدات باب السلسلة، استرخيتُ في جلستي وأنا أتابعُ تفاصيل الفيلم وأراقبُ أبنائي فيه لأطفئ لهيب الشوق المتقد داخلي.
وكلّما سألني المحقق شيئاً تظاهرتُ بعدم التركيز ليعيد الفيديو من بدايته وأتابع أنا مراقبة أبنائي، وأحتفظ بصورهم في مقلتيّ وصوتهم في أذنيّ لأطول فترةٍ ممكنة.. وحين يسألني من هذا، من هذه، أجيبه: "لا أعرف" وعيناي تعانقان شاشة الحاسوب بلا ملل.
وحين يئس من أن يأخذ إجابةً منّي أو يلفت انتباهي قال: "فلانة" اعترفت عليكِ!
أعرفها هذه الفتاة، قابلتها مرّةً في الجامعة لقاءً عابراً لم يتكرر، لا أعرف ما الذي يمكن أن تعرفه عني لتعترف به.. ولا أؤمن بصدق هذا الضابط بكلّ الأحوال.
لم أعرف ما الذي اعترفت به، لكنني أوقن أنه لو كان بين أيديهم جرماً بإمكانهم مواجهتي به لما تردّدوا لحظة، إلا أنها نوعٌ من حربٍ نفسيةٍ يلقون أسلحتها علينا، ولن يفلحوا بإذن الله.
طال التحقيق ولا شيء جديد، صراخٌ وضربٌ على الطاولة، وأسئلةٌ لا داعي لها من سؤالي عن مؤتمراتٍ شاركت بها، وزياراتٍ للجامعة و.. و..
وأنا أستمرّ بالإنكار كي لا ندخل بدوّامةٍ جديدة من أسئلةٍ لا انتهاء لها.
وعدتُ بعدها للسجنِ لأقضي ليلتي الثانية حتى ينظروا في أمري صباح الغد.. ويا لها من ليلة!
تم تفتيشي تفتيشاً عارياً مع أني لم أسِر إلا مقيّدةً منذ التفتيش السابق، ثم أٌمرتُ أن أخلع خواتم الذهب من أصابعي.
حاولتُ نزعها فلم أستطع، فصاحت المجنّدةُ بي بلا يأسٍ أن أتبعها للمرحاض لتنزعها باستخدام الصابون، وما إن أنارت ضوءه حتى ولّت هاربةً وهي تصرخ بفزع، نظرتُ لأرى الشيء الذي أفزعها فرأيتُ صرصارين كبيرا الحجم يطلّان من حوض المغسلة!
يا له من سجنٍ عفن!
مشيتُ خلف المجنّدة وهي تشير لي أن ألحق بها، فمسكت يدي وبدأت تحاول نزع الخاتم بقوّةٍ مستخدمةً قطرةً من كريم لا تكاد تظهر، واستمرّت تحاول نزعه وأنا أتألم حتى تورّم اصبعي بين يديها وهي تحاول بلا رحمةٍ حتى نزعته.
اقتادتني برفقة مجنّدةٍ أخرى لزنزانةٍ انفرادية، أو بالأحرى لمرحاضٍ قذرٍ برائحةٍ عفنةٍ لأبات ليلتي فيه، يا إلهي! أيُّ حقدٍ ذاكَ الذي استوطنَ قلوبهم لتنتزع منها الرحمة والإنسانية لهذا الحد.
وقفتُ أقلّب بصري لأبحث عن مكانٍ يصلح للجلوس فيه لأسمع المجندة تصرخ بي من بعيد أن أقوم بنزع ملابسي!!
رفضتُ وأنا أقولُ لها أنه تمّ تفتيشي بلا جدوى، استمرّت بالصراخ والتهديد حتى خضعتُ للأمر الواقع بلا حيلة، والقهر يجثم على صدري كجبلٍ جليديّ، بينما وقفت كلاهما تراقبان لعدة دقائق وصوت ضحكاتهما الرقيعة يتردد في كلّ العنبر، ثم أغلقتا الزنزانة وابتعدتا!
ثم قاموا بقطع الكهرباء والماء عني!
حسناً، ليلةٌ أخرى بلا غذاءٍ ولا ماء، لا أعرف حتى متى سيستمرّ جسدي بمقاومة هذا كله، استلقيتُ لآخذ قسطاً من الراحة أتقوّى به على ما قد ألقاه في اليوم التالي.
لم يكد النوم يتسلل لأجفاني حتى صحوتُ فزعةً على صوتِ جنودٍ يقتحمون الغرفة بهراواتهم وهم يصرخون "تفتيش" وبدؤوا بضرب الجدران بهراواتهم وأنا أحاول فهم ذلك الشيء الذي يفتشون عنه في مرحاضٍ حُبست به امرأةٌ عزلاء.
واستمرّت جولاتُ التفتيش طوال الليلة، وأنا أحاول استراق لحظاتٍ من النوم بلا جدوى!
يا رب.. ثبّتني لأستطيع الصمود أكثر.. يا رب.
يتبع...