آفة البحث عن المفقود وعدم شكر نعمة الموجود
الرضا هو القدرة على الاستمتاع بالحياة مهما فقد المرء من النعم.
فى إحدى الدورات التربوية التي حضرناها لفتت المحاضرة انتباهنا إلى خطأ متكرر يقع منا نحن الآباء والأمهات عندما يحضر الابن شهادته ونجده متفوقًا فى كل المواد إلا مادة واحدة وبدلًا من التغاضي عن أمر هذه المادة وتقدير جهد الابن على المواد الآخرى نسلط الضوء على تلك المادة التي لم يتفوق فيها ونضعها تحت المجهر. وهكذا نتعامل مع نعم الله والفرق بين المثالين شاسع، فعندما يمن الله على الإنسان بنعم لاحصر لها ثم يحرمه بعضها فهو ليس لتقصير أو عجز حاشا لله وإنما لحكمة يعلمها، وهي بالتأكيد لمصلحة العبد ولا يدرك ذلك إلا من يحسن الظن بالله ويعلم أنما اختار الله له الخير.
فإذا كان غير المسلمين الذين قد لا يؤمنون بالآخرة ولا بالنعيم المقيم يحاولون الاستمتاع بحياتهم والرضا بحظهم منها مهما قل بل ويدعون إلى النظر إلى النصف الممتلئ من الكوب؛ فماذا عن المسلم الذي يوقن أنه ما من شئ قد حرم منه في الدنيا أن الله سيهبه نعيمًا أبديًا فى الآخرة عوضًا عن النعيم الزائل المنقوص الذي قد يهبه لغيره في الدنيا فقد وعد الله تعالى الفقراء بأنهم أكثر أهل الجنة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نظرتُ في الجنَّةِ، فإذا أكثرُ أهلِها من الفقراءِ» الراوي: عمران بن الحصين و عبدالله بن عباس (الحلية الأولياء رقم [2/349]).
و من حُرم إحدى الحواس قد وعده الله بالخير الكثير، ففي الحديث: «إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتَيهِ فصبَرَ، عوَّضتُه منهُما الجنَّةَ. يريدُ: عينيهِ». الراوي: أنس بن مالك(صحيح البخاري؛ رقم[ 5653] ).
والله تعالى هو الذي قال: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] .
فللحرمان حساب وللعطاء حساب والإنسان الفطن هو الذي ينشد أعظم نعمة فى الوجود وهي الرضا ليس لأنه سيكون صاحب حظ وافر من رضا ربه فحسب كما فى الحديث «إنَّ عِظمَ الجزاءِ معَ عظمِ البلاءِ و إنّ اللَّه إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم فمن رضِيَ فله الرِّضا و من سخِطَ فلَهُ السُّخطُ» الراوي: أنس بن مالك (السلسلة الصحيحة؛ رقم [ 146])
ولكن كذلك لأنه سيحظى بالراحة والسكينة ما دامت الحياة تنبض فيه.
وقد كانت المقولة السائدة عند الناس أن غاية مبتغاهم الصحة والستر؛ إلى أن من الله علينا برؤية أناس قد حُرموا كل مقومات الصحة ولكنهم لم يحُرموا الإيمان ولم يحُرموا الرضا ولم يحُرموا الابتسامة التي لا تفارق الوجه رضًا بقضاء الله وأملًا فى النجاة يوم الهول العظيم.
فأدركنا أن الرضا هو نعمة النعم، فبدون الرضا يصاب الإنسان بهم التطلع إلى ما فى أيدى الآخرين ولا يشعر بالشبع أبدًا، وكلما بلغ مبلغًا من حظوظ الدنيا تطلع لمن هو فوقه، وقد صادفنا فى حياتنا من أعطاهم الله من كل شئ ولكن الشعور بعدم الرضا أفسد عليهم الاستمتاع بأى شئ، والأخطر من ذلك أنه يفسد علاقة العبد بالرب وبالتالي فحظه من الآخرة في خطر ما لم يحاول إصلاح قلبه فالسخط من أشد أمراض القلوب وأبشعها لأنه ينم عن سوء تقدير للعليم الحكيم الذي وزع الأرزاق بحكمته وعدله وهو الذي يهب الدنيا لمن يحب ومن لا يحب، لكن لا يهب الآخرة إلا لمن يحب، فالمنع أحيانًا يكون عين الاصطفاء، واذكر كفيفًا كان مستضافًا على إحدى القنوات التلفزيونية وقد أقسم بالله أنه عُرض عليه إجراء جراحة لعينيه ليصبح مبصرًا فرفض متعللًا أن الله قد عافاه من آفات النظر فلِمَ يحرم نفسه الفرصة التي قد تكون سببًا لدخوله الجنة وأنه قد اعتاد الاستمتاع بحياته بدون النظر.
فالرضا هو القدرة على الاستمتاع بالحياة مهما فقد المرء من النعم.
وقد شاهدت ذات يوم برنامجًا يتحدث عمن دخلوا في الإسلام فذكر أحدهم أن من أسباب دخوله الإسلام مروره على أحد الأحياء شديدة الفقر بالقاهرة ورؤيته الابتسامة التي تعلو وجوه أهل هذا الحي والتى لا تفارقها بالرغم من كل هذا الفقر فعلم أن قلب المسلم قلب متحرر من الهموم ويحمل من الرضا ما يقهر به أى هم.
- التصنيف: