أسباب التفكك الاجتماعي وضعف المسلمين :المقال الأول
{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]. والله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
التفكك الاجتماعي والضعف الحاصل في أوضاع المسلمين وأسباب ذلك
مرت على المسلمين أحداثا ومؤامرات وفتن بعضها تلو البعض الآخر فرقت بينهم وجعلتهم أحزابا بتخطيط بارع من قبل أعدائهم، ولم يعد لقول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران:103]مدلولا خاصا في نفوسهم، أو رادعا قويا عن التفرق والتحزب، واستحكم الهوى في النفوس، وأعجب كل ذي رأي برأيه، واختلفت الولاءات، فبدلا أن تكون الموالاة بين المؤمنين ضد أعدائهم أصبح كل فريق من المسلمين يوالي جهة من أعداء الإسلام، ويستعين بعضهم على بعض بأعداء دينهم، وأصبح بأسهم بينهم شديدا، وقلوبهم شتى، وتمكن أعداؤهم منهم فضربوا بعضهم ببعض وأحكموا بينهم الخلافات، وكانوا هم الحكم بين المسلمين على بعضهم بعضا،وهم الممولون للجميع بالسلاح ليضربوا عصفورين بحجر واحد، يجربون أسلحتهم عليهم ويبيعونها منهم، وهذا الواقع المرير الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم من الذل والهوان والتمزق والانكسار أمام أعداء الإسلام ما هو إلا نتيجة للتفكك المقيت الذي حل بالمسلمين نتيجة عدم قبضهم على دينهم بجد وإخلاص، وليس هذا فحسب بل قد ظهر هذا التفكك في جوانب مختلفة في حياة المسلمين، وهي كثيرة يصعب حصرها هنا، من اجتماعية واقتصادية وسياسية، وسنشير فيما يأتي إلى أهم الأسباب التي تظهر أنها مؤثرة جدا على مجرى الحياة العامة بين المسلمين.
أما بالنسبة للضعف العام في المسلمين :
فإنه أمر مشاهد لا يحتاج إلى عبقري يبينه، والأدلة على ذلك تتوارد من كل جانب، ذلك أن المسلمين كلمتهم غير مسموعة، وآراؤهم غير منفذة، وأعداؤهم قائمون على رؤوسهم، وأصبحوا لا يملكون إلا الشكوى للأمم المتحدة – اليهودية المنشأ والهدف – ولراعيي السلام، وللدول الأوروبية.. الخ.
وقد قيل إن من أكبر المصائب على الشخص ألا يجد من يحتكم إليه إلا عدوه.
ولك فيما يفعله اليهود في فلسطين، وما يفعله الشيوعيون في الشيشان، وفي بورما، وما يفعله الهندوس في كشمير، والهند، وما يفعله النصارى في الفلبين، وإندونيسيا، والبوسنة والهرسك، وبلاد أخرى كثيرة. لك فيها أقوى دليل على ضعف الأمة الإسلامية وتكالب أعدائها عليهم. وحينما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن أمته بأنه سيتكالب الأعداء عليهم ويتداعون عليها كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قال له الصحابة رضوان الله عليهم: (( «أمن قلة بنا يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قيل: وما الوهن يا رسول الله ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت» )) [صححه الألباني] .
ولك أن تقارن بين مفهوم هذا الحديث وبين ما يتشدق به بعض المسلمين، وأنهم من المحيط إلى الخليج، وقولهم بأننا أمة لن تقهر، وأننا نستطيع ونستطيع.. في جعجعة لا ترى فيها طحنا، وغرور كاذب سواء كان على مستوى الزعماء أو الأفراد.
فلا كثير من زعماء المسلمين فيهم نخوة المعتصم، ولا الأفراد فيهم حماس أسلافهم ولا بأيديهم من أسباب القوة التي يمتلكها أعداء الإسلام في الشرق أوفي الغرب ما يخيفون به أعداءهم، بل ليس له إلا ما جادت به نفوس الأعداء من أسلحة متأخرة وشروط مجحفة كما قال أحد الشعراء:
وعدة الخصم صاروخ وطائرة
ونحن عدتنا الكبرى قرارات
ومع ذلك نجد الكثير من الزعماء من يشمخ بأنفه إلى عنان السماء ويتحدى الشرق والغرب ويصول ويجول، وهو في مكانه يلهب المشاعر بالخطب الرنانة والتهديدات الجوفاء.
فليت لي بهم قوما إذا ركبوا
شنوا الإغارة فرسانا وركبانا
تراخي قبضة المسلمين على دينهم:
وهذا هو السبب الأكبر - في اعتقادي – الذي أدى بالمسلمين إلى الضعف العام وهوان المسلمين، ذلك أن المسلمين من ناحية العدد كثير، ومن ناحية العدة فإنهم يملكون عدة كثيرة جدا بغض النظر عن مساواتها بما عند أعدائهم، ولو قارنت عدد المسلمين وعدتهم اليوم، وعددهم وعدتهم في صدر الإسلام وزمن الفتوحات لتحيرت أشد الحيرة، ولتساءلت كما تساءل الكثير ممن لم يلتفت إلى هذا الجانب الهام من حياة المسلمين، فإنه ما دام العدد موجود والعدة موجودة، فما الذي ينقصنا إذا، أليس أعداء الإسلام يألمون مثلما نألم، ونرجو من الله ما لا يرجون؟ وهو فارق كبير جدا.
ولكن يأتي الجواب الصحيح الذي غاب عن أذهان كثير من المسلمين أن السبب في ضعف المسلمين وهزائمهم هو تراخيهم في قبضتهم على دينهم، وليس العدة ولا العتاد.
هو غفلتهم عن السر في سبب النصر على الأعداء، وغفلتهم عن معنى قول الله تعالى: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249].
هو تحاكمهم إلى أعداء الإسلام وتوجههم إليهم لأخذ القوانين الجاهلية بدلا عن الشريعة الإسلامية.
هو تلك التيارات الجارفة والبحور المتلاطم أمواجها وسباحتهم فيها من اشتراكية وشيوعية وشيعية ورأسمالية وعلمانية و.. إلى آخر تلك المذاهب التي مسخت شخصيات المسلمين.
هو الذل الذي أصاب المسلمين والذي أعاد للأذهان حال المسلمين وذلهم أمام هولاكو وجنوده.
هو هذا العري والتبجح بالمعاصي وانتشار الرذائل دون نكير كاف.
هو أشياء كثيرة تجمعها عبارة " تراخي المسلمين في قبضتهم على دينهم، وحبهم العافية، وجمع الأموال الربوية، والتفاخر في البنيان... وغيرها، وعدم تمثلهم هذا البيت من الشعر الذي تمثل به الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه حينما سمع جماعة كل واحد منهم يفتخر بحسبه ونسبه، فقال:
أبي الإسلام لا أب لي سواهإذا افتخروا بقيس أو تميم
وأي عذر ونصر سيكون لشخص حكمه بغير ما أنزل الله، وعمله خبط عشوائي دون الاهتداء بالكتاب والسنة، وليس في قرارة نفسه أن النصر هو من عند الله تعالى.
وقف أحد الصحابة الكرام يوم فتحت إحدى القلاع الحصينة للكفار، وقف يبكي فسئل عن ذلك وأنه يوم فرح وسرور فما الذي يبكيه، فأخبرهم رضي الله عنه بأن الذي جعل المسلمين يصلون إلى هذا الخير والنصر إنما هو تمسكهم بدينهم، فلو تركوه لتركهم الله تعالى كما ترك أولئك الكفار، وأنه لا ينبغي لمسلم أن يأمن مكر الله تعالى.
وتذكر كذلك عدم اعتزاز كثير من المسلمين بدينهم.
وتذكر أخي القارئ الكريم ما أجاب به الخليفة المؤمن هارون الرشيد ملك الروم حين كتب إليه ملك الروم يتهدده ويقول له إن الملكة "إيرني" التي كانت قبلي كانت امرأة ضعيفة، فإذا جاءك كتابي فادفع الجزية، فاستشاط الخليفة غضبا وكتب إليه فورا على ظهر الكتاب: " من أمير المؤمنين هارون الرشيد إلى كلب الروم "نقفور"، الجواب "ما ترى لا ما تسمع"، ثم نادى في المسلمين لجهاد الروم، فخرجوا كالجراد المنتشر حتى مرغوا أنوف الروم في الوحل واستعد "نقفور" بدفع الجزية للمسلمين بكل إخلاص لقاء أن يرفعوا عنه وعن بلاده سيوفهم.
وتذكر كذلك حينما كان يصاب أحد المسلمين في القتال بسهم أو رمح قاتل فيقول: "فزت ورب الكعبة"، كيف جعل القتل فوزا.
وتذكر حينما رمى عمرو بن الجموح التمرات التي كانت في يده وقال: " لئن بقيت حتى أتمهن إنه لعمر طويل "، ثم خاض المعركة حتى قتل.
وتذكر حينما كتب أحد المسلمين إلى زعيم كافر يقول له: "سآتيك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة".
وتذكر حينما كان أولئك النجباء من صبيان الصحابة كيف يتطاولون أمام النبي ليثبتوا له أنهم كبار ليسمح لهم بدخول المعركة وهو يمنعهم لصغر سنهم.
وتذكر ابني عفراء الصغيرين وقد دخلا المعركة وانقضا على أبي جهل ومزقاه بسيفيهما.
وتذكر أحوالا ومشاهد ومواقف لا تكاد تحصر " تكاد لحسنها تتكلم "، تذكر تلك الأمور ثم انظر حال شباب المسلمين اليوم وقد غرقوا في الموضات وفي تقليد أعداء الإسلام في كل شيء من مأكل وملبس ونعومة وتكسر وميوعة، وانظر كيف يتزاحمون بالمناكب على محلات الحلاقين لعمل موضة وقصات "الأسد" وغيرها وحاشا الأسد منها.
وانظر إلى ابن العشرين اليوم وهو يتدلل كما يتدلل ابن الخمس سنوات، قديما، انظر لحركته وملبسه وشخصيته، هل تجده كفؤا لقيادة الجيش الذي قاده محمد بن القاسم وعمره سبعة عشر عاما لفتح السند والهند.
قاد الجيوش لسبع عشرة حجة يا قرب ذلك سؤددا من مولد
واستمع للصحابي الذي قال لرستم، وقد تواقف الجيشان: "ليس لكم عندنا إلا ثلاث: إما الإسلام، وإما أن تدفعوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما القتل".
واستمع لبعض زعماء اليوم حينما يزور الكفار – الذين سفكوا دماء المسلمين – كيف يثني عليهم ويتودد إليهم، ثم يضع الزهور على تمثال الجندي المجهول – أي الجندي الذي قتل المسلمين ولم يعرف اسمه.
واقرأ ما يكتبه كثير من السفهاء والسفيهات في الاستهزاء بالدين وبتعاليمه، خصوصا في قضية الحجاب والعقوبات في الجنايات، واقرأ مدحهم وإعجابهم بما عند الكفار من أنظمة جاهلية يسمونها متطورة، اقرأ واسمع وتذكر ما سبق ذكره وغيره حتى ترى بنفسك مدى تمسك كثير من المسلمين بدينهم في هذه العصور – عصور الفتن والشرور – واسألهم ما بال القومية والوطنية والشعوبية والقبلية وغيرها من النعرات الجاهلية قد أحلوها محل العقيدة الإسلامية وأخوة الدين.
وما الذي يحملهم على تقديس المجرم الذي قال:
بلادك قدسها على كل ملة ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم
سلام على كفر يوحد بيننا وأهلا وسهلا بعده بجهنم
وكيف طبقوا هذا الكلام الفاجر بحيث قدس كل أهل بلد بلدهم وسموه بلدة كذا وكذا المقدسة. من أين لهم هذا التقديس؟ وما هو دليلهم على أنها مقدسة؟ ! !
ثم اسألهم أي كفر سيوحد بينهم؟ أليس الكفر هو الذي يفرق الناس ويطغى بعضهم على بعض؟
وكيف جاز لهذا المجرم أن يستهين بجهنم إلى هذا الحد فيرحب بها في تحد صارخ وعنجهية حمقاء؟!!!
أخي القارئ.. أليس كل ما تقدم ينذر بشر مستطير وتفلت تام؟ أليس هو تراخي عن العقيدة التي أعز الله بها أسلافنا، ولن تقوم لنا قائمة إلا بالتمسك بها؟
{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].
والله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
هو عدم الوحدة والتفكك السياسي:
لا أحد يذكر أوضاع المسلمين اليوم إلا ويتبادر إلى ذهنه هذه الأبيات إن كان قد سمع بها لشاعر أندلسي يرثي الأندلس وأهلها ويمقت ما هم فيه من كثرة الممالك والزعماء وأنها شر وغرور فارغ.
مما يزهدني في أرض أندلس
أسماء معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالمهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
وحينما كانت الدولة الإسلامية دولة واحدة كانت قوية يحسب لها ألف حساب، ولكن حينما أصبحت دولا وزعماء كثيرون جاءها الأفرنج فإذا هي كهشيم المحتضر، وعرفوا أن التفرق خذلان، ولكن ولات حين ندم.
لقد كان المسلمون دولة واحدة وتحت حاكم واحد قلوبهم كقلب رجل واحد، هدفهم واحد، وكلمتهم واحدة، أشرقت بهم وبعدلهم الأرض، وقوي المسلمون وانتشر نور الإسلام في بقاع الأرض ودخل الناس في دين الله أفواجا، ولا زالت آثارهم شاهدة بأمجادهم إلى يومنا الحاضر.
ثم خلف من بعدهم خلف نجح فيهم تخطيط أعدائهم وتمت المؤامرات عليهم بدقة، وزاد الطين بلة حينما وطئت أقدام المستعمرين بلادهم حيث كانت الوطأة شديدة عليهم فقسموا بلاد المسلمين وجعلوهم دويلات يحكمونهم مباشرة أو بواسطة عملاء من أهل كل بلد هم أشد على قومهم من المستعمرين، وظل المسلمون قرونا وهم تحت جبروت وطغيان الإفرنج.
حتى إذا تنبهت الشعوب للغبن الواقع عليهم من استعمار أعدائهم لهم وتحكمهم في كل مواردهم وحربهم لدينهم وإقصاء الحكم بالشريعة الإسلامية وطمس اللغة العربية وإثارة الفتن والعداوة بين المسلمين على طريقة "فرق تسد".
حينما تنبهت الشعوب هبت لمحاربة المستعمرين وإخراجهم من أراضيهم بالقوة وسالت الدماء وانتهكت الأعراض وتم في ظاهر الأمر النصر لهم، فهل خرج المستعمرون فعلا من ديار المسلمين وانتهت آثارهم النجسة؟
الواقع أن المستعمرين كانوا في غاية الذكاء والترتيب والمكر:
قسموا البلاد تقسيما تعسفيا ظالما بحيث يبقى أهل البلاد في حزازات وشجار دائم على الحدود، وهو ما عانته الدول الإسلامية إلى اليوم إذ أصبحت كل دولة تطالب بجزء من أراضيها تحت الدولة الأخرى المجاورة، وكثيرا ما تقوم الحروب بينهم ليحتكموا في النهاية إلى ذلك العدو الذي سبب هذا الحال.
قبل أن يخرجوا رتبوا لهم عملاء هم أشد على أبناء جنسهم من أولئك المستعمرين، فضمنوا بقاءهم في صورة أخرى هي أشد من الأولى، ولا زالت مفاهيمهم ومناهجهم سارية على أغلب تلك الشعوب التي تدعي التحرر وتتشدق به في الوقت الذي كانوا فيه عالة على المستعمر في كل شؤون الحياة – حتى في التشريع والتعليم.
وما دام الحال هكذا فلابد أن تأتي النتيجة الحتمية التي أرادها المستعمرون أثناء حكمهم لدويلات المسلمين وهو وجود التفكك السياسي وما يتبعه من العداوة والصراعات المشتعلة، ونسوا أنه :
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت آحادا
وحال المسلمين اليوم من إحدى العجائب إذ يتمنون الوحدة الإسلامية والجرائد تكتب والإذاعات تصيح والزعماء يصرحون ويلمحون، ولكن هذا الوضع شيء والواقع شيء آخر، وكأنما طلب الوحدة واللهفة لتحقيقها معناه العكس تماما، وكأنها معلقة بالثريا.
- التصنيف:
- المصدر: