التفكر في عجائب خلق الله جل جلاله 1-2
قال أبو سليمان الدارني رحمه الله : إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عليَّ فيه نعمة, ولي فيه عبرة
التفكر في عجائب خلق الله جل جلاله
الحمد لله الذي بهرت العقول حكمته, ودلت مخلوقاته على عظمته وقدرته, وعلمه وحكمته, ورحمته, وأنه أحسن كلَّ شيءٍ خلقه, وأتقن كلَّ شيءٍ صنعه, وأنه العليم الحكيم, الذي خلق فسوى, وقدَّر فهدى.
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد الذي كان إذا قام من الليل للتهجد نظر إلى السماء وقرأ الآيات العشر من آخر سورة آل عمران : } إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأُولي الألباب ~ الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار { الآيات.
أما بعد : فهذه كلمات يسيرة, عن عبادة جليلة, يغفل عنها الكثيرون, ألا وهي : التفكر في عجائب خلق الله عز وجل, أسأل الله الكريم أن ينفع بها, ويبارك فيها.
حث العباد على التفكر
قال العلامة السعدي رحمه الله : يخبر تعالى : {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأُولي الألباب} وفي ضمن ذلك حث العباد على التفكر فيها, والتبصر بآياتها, وتدبر خلقها.
أهمية التفكر في حياة المسلم
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : «قال الحسن عن عامر بن عبد قيس قال : سمعتُ غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون : إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان : التفكر» .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما, قال : ركعتان مقتصدتان في تفكر, خير من قيام ليلة والقلب ساه.
وقال وهب بن منبه رحمه الله : ما طالت فكرة امرئ قط إلا فهم, ولا فهم امرؤ قط إلا علم, ولا علم امرؤ قط إلا عمل.
وقال الإمام سفيان بن عينيه رحمه الله :
إذا المرء كانت له فكرة ففي كل شيء له عبرة
وقال أبو سليمان الدارني رحمه الله : إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عليَّ فيه نعمة, ولي فيه عبرة, وقال بعض الحكماء : من نظر إلى الدنيا بغير العبرة انطمس من بصر قلبه بقدر تلك الغفلة.
التفكر عبادة يُثاب عليها العبد
وقال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله : الفكرة في نعم الله أفضل العبادة.
وقال العلامة السعدي رحمه الله : التفكر عبادة, من صفات أولياء الله العارفين.
معنى التفكر
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : التفكر إعمال الفكر, وذلك بأن يفكر في خلق السموات والأرض, لأي شيء خلقت ؟ وكيف خلقت ؟ وكيف رفعت السماء ؟ وكيف سطحت الأرض ؟ وما أشبه ذلك, فهم يعملون أفكارهم.
التفكر من أفضل ما أنفقت فيه الأوقات
قال العلامة ابن القيم رحمه الله عنها : فأحسن ما أُنفقت فيه الأنفاسُ التفكر في آيات الله وعجائب صُنعه.
أنواع التفكر
التفكر نوعان
النوع الأول :تفكر غير نافع لأصحابه, وهو تفكر بعض الكفار في مخلوقات الله الكونية, فهم وإن تفكروا في عظيم مخلوقات الله جل جلاله, فتفكرهم تفكر مادي, الغاية منه ما يفيد في الدنيا, فلا يقودهم تفكرهم إلى ما ينفعهم في الآخرة, فكل ملحد أو شاك فلن ينفعه تفكره إن وجد منه, يقول الله عز وجل : } وفي الأرض آيات للموقنين { قال العلامة العثيمين رحمه الله : } للموقنين { أي: لمن أيقن بوجود الله عز وجل وعظمته وجلاله, أما من شك- والعياذ بالله – فإنه لن ينتفع بهذه الآيات
النوع الثاني : التفكر النافع وهو التفكر الذي يؤدي بصاحبه إلى اليقين بأمور منها:
معرفة عظمة الله عز وجل
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: سرنا على طريق خبير فرأيت من الجبال الهائلة والطرق العجيبة ما أذهلني وزادت عظمة الخالق عز وجل في صدري فصار يعرض لي عند ذكر تلك الطرق نوع تعظيم لا أجده عند ذكر غيرها فصحت بالنفس: ويحكِ اعبري إلى البحر وانظري إليه وإلى عجائبه بعين الفكر تشاهدي أهوالاً هي أعظم من هذه, قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : في خلق السموات والأرض آيات..والذي يطلع على ما صوره العلماء من هذه الآيات العظيمة يتبين له عظمة الله عز وجل في هذا الخلق.
وهذه المعرفة بعظمة الله عز وجل تجعله يجاهد نفسه في عدم عصيانه, قال بشر بن الحارث الحافي رحمه الله : لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه.
ومنها: أن هناك دار ثانية غير هذه الدار, فيها حساب وجزاء وفيها نعيم وعقاب ولهذا يقول أصحاب هذا التفكر: {ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار . ربنا وأتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد} [ [آل عمران :193-194]
ومنها : أن الله عز وجل لم يخلق هذا الكون باطلاً
ولهذا يقول أصحاب هذا التفكر: ] ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك [ فينزهون الله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بجلاله وأنه خلق هذه المخلوقات باطلاً, فهذا ظن الكفار, قال الله سبحانه وتعالى : {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار } [ص:27]
وهذا التفكر يقوم به أصحاب العقول الذين يذكرون الله عز وجل على كل حال
قال الله سبحانه وتعالى : {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأُولي الألباب . الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار} [آل عمران/190-191] فهم ينظرون إلى صنع الله بعقولهم لا بأبصارهم
قال العلامة محمد العثيمين رحمه الله : من لا عقل له فإنه لا ينتفع بهذه الآيات, ولا يعتبر بها وتمرُّ عليه وكأنها مظاهر طبيعية لا علاقة بفعل الله تعالى بها, وهذا – والعياذ بالله – من الطمس على القلوب وعمى الأبصار..وكلما كان الإنسان أعقل كان بالله وآياته أعلم, لقوله تعالى : ] لآيات لأُولي الألباب [ والحكم المعلق على وصف يثبت لثبوته ويعدم بعدمه, فإذا كان أصحاب العقول هم الذين ينتفعون بهذه المخلوقات ويستدلون بها على الخالق عز وجل, وعلى ما له من صفات الكمال, فإن من عقله عقل بهيمي لا ينتفع بهذه الآيات, لأنه ليس من ذوي الألباب.
من عجائب خلق الله جل جلاله
الشمس
قال العلامة ابن القيم رحمه الله : كلُّ موضع لا تقع عليه الشمس لا يعيشُ فيه حيوان ولا نبات, لفرط برده ويُبسه, وكل موضع لا تفارقه كذلك, لفرط حرِّه ويُبسه, والمواضع التي يعيش فيها الحيوان والنبات هي التي تطلعُ عليها الشمس وتغيب.
الشمس تبعد عن الأرض مسافات طويلة, ولو كانت أقرب إلى الأرض مما هي عليه الآن لأحرقت كل شيءٍ عليها لشدة حرارتها, فيتفكر المسلم أن هذه الشمس ستدني يوم القيامة حتى تكون على بعد ميل من رؤوس الخلائق, فعن المقداد بن الأسود رضي الله عليه, قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( «تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق, حتى تكون منه كمقدار ميل, فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق, فمنهم من يكون إلى كعبيه, ومنهم من يكون إلى ركبتيه, ومنهم من يكون إلى حقويه, ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً» ) قال : وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه) [أخرجه مسلم] قال الإمام القرطبي رحمه الله : وهذا العرق لشدة الضغط, وحرِّ الشمس التي على الرؤوس بحيث تغلي منها الهام, وحرارة الأنفاس, وحرارة النار المحدقة بأرض المحشر.
يتفكر المسلم في هذا الموقف العصيب, فيجتهد في الطاعة والعبادة, لعلمه أنه على قدر عمله يكون العرق منه, فإذا أكثر العمل وأحسن فيه, خفَّ عنه حرّ ذلك اليوم, وإذا كثر وساء عمله كثر عرقه, أسال الله الرحيم الجواد الكريم أن يرحمنا وأن لا يكلنا لأنفسنا إنه سميع قريب مجيب.
- التصنيف: