عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة
والعذاب منه ما يكون في الدنيا, ومنه ما يكون في القبر, ومنه ما يكون في الآخرة, ومنه ما يكون فيها جميعاً
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد:
فقد خلق الله عز وجل العباد لعبادته, فمن أطاع سعد وفاز ونجا من عذاب الله, ومن عصى ولم يتب, استحق العذاب, فإن كان ذنبه دون الشرك بالله فهو داخل تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له, قال الله عز وجل: {إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفرُ ما دُون ذلك لمن يشاء} [النساء:48] فالله جل جلاله لا يغفر لمن أشرك به, ويغفر ما دون ذلك من الذنوب صغيرها وكبيرها لمن يشاء, فالعاصي غير المشرك بالله ليس مجزوماً بمغفرته ولا مجزوماً بالمؤاخذة وإنما هو تحت المشيئة فقد يغفر الله له وقد يعذبه.
والعذاب منه ما يكون في الدنيا, ومنه ما يكون في القبر, ومنه ما يكون في الآخرة, ومنه ما يكون فيها جميعاً, فينبغي للمسلم أن يجتنب ما يكون سبباً لعذاب الله له, فعذاب الله شديد, وليتفكر العبد المسلم في أشدِّ أنواع العذاب في الدنيا, الذي يؤدي إلى موت الإنسان عندما يُلقى في ماءٍ حارٍ يحرقه, ومع ذلك فهو أهون من عذاب الآخرة, فعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( «لما كانت الليلة التي أُسري بي فيها, وجدتُ رائحة طيبة, فقلتُ : ما هذه الرائحة الطيبة يا جبريل ؟ قال : هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون, وأولادها, قلتُ : ما شأنها ؟ قال : بينما هي تمشطُ ابنة فرعون إذ سقط المشط من يدها, فقالت: بسم الله, فقالت ابنة فرعون: أبي ؟ فقالت: لا. ولكن ربي وربكِ ورب أبيك الله. قالت : وإن لك ربا غير أبي ؟ قالت: نعم, قالت : فأُعلِمهُ ذلك ؟ قالت: :نعم, فأعلمتهُ, فدعا بها فقال: يا فلانة ألك رب غيري ؟ قالت : نعم, ربي وربك الله, فأمر بنقرة من نحاس فأحميت ثم أخذ أولادها يلقون فيها واحداً واحداً. فقالت: إن لي إليك حاجة قال: وما هي ؟ قالت: أُحبُّ أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوب واحد فتدفنها جميعاً, قال: لك ذلك علينا, فلم يزل أولادها يلقون في النقرة, حتى انتهى إلى ابن لها رضيع, فكأنها تقاعست من أجله, فقال لها: يا أمه اقتحمي فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة» [أخرجه ابن حبان, وأحمد في المسند]
وليتفكر العبد المسلم في أشدِّ أنواع العذاب في الدنيا, الذي يؤدي إلى موت الإنسان بأن يقتل رجماً بالحجارة مثل ما يفعل بالزاني المحصن, فهو موت بطيء يتألم منه من وقع عليه قبل أن يموت, ومع ذلك فهو أهون من عذاب الآخرة, فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : أن فلان بن فلان أتى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال : يا رسول الله لو أن أحدنا رأى امرأته على فاحشة كيف يصنع ؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم, وإن سكت سكت على أمر عظيم, فسكت النبي صلى الله عليه وسلم, فلم يجبه فلما كان بعد ذلك أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به فأنزل الله هذه الآيات التي في سورة النور {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شُهداء إلا أنفسهم { [النور/6-10] حتى ختم الآيات, فدعا الرجل فتلا الآيات عليه وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فقال : لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها, ثم ثنى بالمرأة فوعظها وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة...[الحديث متفق عليه]
وليتفكر العبد المسلم في عذاب الدنيا, فمهما كانت شدته ومدته, فعذاب الآخرة أشدّ منه وأكبر وأبقى, قال الله عز وجل: {لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذابُ الآخرة أشقُّ وما لهم من واقٍ} [الرعد/34] وقال الله جل وعلا : } كذلك نجزى من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشدُّ وأبقى { [طه/127] وقال الله عز وجل {فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذابُ الآخرة أكبرُ لو كانوا يعلمون} [الزمر/26]
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه, قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( «إن أهون أهل النار عذاباً لرجل توضع في أخمص قدميه جمرة يغلي منهما دماغه» ) [متفق عليه] وعند مسلم ( ما يرى أنَّ أحداً أشدُّ منه عذاباً, وإنّهُ لأهونُهُم عذاباً ) أسأل الله لي ولجميع المسلمين السلامة والنجاة من عذاب النار, ومن أعظم أسباب ذلك تقوى الله وطاعته, قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: إن الله خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه ويخشوه ويخافوه, ونصب لهم الأدلة على عظمته وكبريائه ليهابوه ويخافوه خوف الإجلال, ووصف لهم شدة عذابه ودار عقابه التي أعدها لمن عصاه ليتقوه بصالح الأعمال, ولهذا كرر سبحانه وتعالى في كتابه ذكر النار وما أعده فيها لأعدائه من العذاب والنكال, وما احتوت عليه من الزقوم والضريع والحميم والسلاسل والأغلال, إلى غير ذلك مما فيها من العظائم والأهوال, ودعا عباده بذلك إلى خشيته وتقواه, والمسارعة إلى امتثال ما يأمر به ويحبه ويرضاه, واجتناب ما ينهي عنه ويكرهه يأباه.
أسال الله الكريم أن يوقظ قلوبنا, وأن يبصرنا بعيوبنا, وأن يوفقنا لطاعته, وأن يحول بيننا وبين معصيته, إنه جواد كريم.
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
- التصنيف: