المعصية بعد الطاعة (1-2)
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: أفلا تراه نبه العقول على قُبح المعصية بعد الطاعة, وضرب لقبحها هذا المثل.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد:
فإن توالي عمل الذنوب يشبه تناول السموم على جرعات, فإن أثرها لا يظهر سريعاً ولكنها تفتك ببطء, ومن يتأمل يجد أن الذنوب أضرت بالكثيرين معنوياً وحسياً.
وعقوبات الذنوب عاجلة وآجلة, في دور الإنسان الثلاثة, قال العلامة ابن القيم رحمه الله: قلوب أهل البدع, والمعرضين عن القرآن, وأهل الغفلة عن الله, وأهل المعاصي في جحيم قبل الجحيم الكبرى, وقلوب الأبرار في نعيم قبل النعيم الأكبر,{ إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم} [الانفطار:13-14] هذا في دورهم الثلاثة, ليس مختصاً بالدار الآخرة وإن كان تمامه وكماله وظهوره لهما هو في الدار الآخرة وفي البرزخ دون ذلك
الموفق من جاهد نفسه, فأطاع الله, وترك المعاصي, والناس في الطاعة والمعصية على أقسام:
القسم الأول: من يوفقه الله جل جلاله فينشأ على الطاعة منذ نعومة أظفاره, ويستمر على ذلك إلى أن يموت, فهذا يغبطه الكثيرون, وهو من السبعة الذين يظلهم الله جل جلاله يوم القيامة في ظله, نسأل الله من فضله.
القسم الثاني: من ينشأ على المعصية منذ صغره, ويستمر على ذلك إلى أن يأتيه الموت, نسأل الله السلامة من حاله.
القسم الثالث: من ينشأ على المعصية, ويستمر على ذلك حيناً من الدهر, ثم تدركه رحمة أرحم الراحمين فيتوب وينيب, وقد يكون ذلك قبل موته بزمن قليل, وهذا من فضل الله جل جلاله عليه, وإرادته به الخير, فعن أنس بن مالك رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( « إذا أراد الله بعبده خيراً استعمله ) فقيل: وكيف يستعمله ؟ قال: ( يوفقه لعمل صالح قبل الموت» ) [أخرجه الترمذي] قال أهل العلم: يُوفقه قبل موته للتوبة, وملازمة العمل الصالح, ويقبض على ذلك, فيعطى العطاء الجزيل على العمل القليل. نسأل الله من فضله وكرمه وجوده.
القسم الرابع: من ينشأ على الطاعة منذ نعومة أظفاره, لكنه لا يستمر على ذلك, فيرتع في الذنوب, ويترك الطاعات, وقريب من سابقه, من ينشأ على المعصية ثم يتوب وينيب, لكن تغويه شياطين الإنس والجن فينتكس على عقيبه.
فما أقبح معصيتهما, فبعد أن ذاقا حلاوة الطاعة يستبدلانها بالتي هي أدنى.
قال الله سبحانه وتعالى : { أيودُّ أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعنابٍ تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمراتِ وأصابهُ الكبرُ وله ذرية ضُعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون} [ [البقرة:266] قال الإمام البخاري رحمه الله في تفسير هذه الآية: قال عمر رضي الله عنه يوماً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فيم ترون هذه الآية نزلت : {أيودُّ أحدكم أن تكون له جنة } [قالوا: الله أعلمُ, فغضب عمر, فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم, فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين, قال عمر: يا ابن أخي! قل, ولا تحقر نفسك, قال ابن عباس: ضُربت مثلاً لعملٍ, قال عمر: أيُّ عمل, قال ابن عباس: لعملٍ, قال عمر: لرجل غني يعملُ بطاعة الله عز وجل, ثم بعث الله له الشيطان, فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية, وتبين ما فيها من المثل, يعمل من أحسن العمل أولاً, ثم بعد ذلك انعكس سيره فبدل الحسنات بالسيئات عياذاً بالله من ذلك, فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدم من الصالح
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: أفلا تراه نبه العقول على قُبح المعصية بعد الطاعة, وضرب لقبحها هذا المثل.
من رام أن يستمر في طريق الطاعة, ويجتنب طريق الانتكاس, فعليه بأمور:
منها: الدعاء الدائم المستمر غير المنقطع بالثبات على الدين والطاعة, فقد كان أفضل الخلق يكثر من الدعاء بالثبات على الدين, فعن أنس رضي الله عنه, قال: كان رسول صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: ( « يا مقلب القلوب, ثبت قلبي على دينك) فقلتُ: يا نبي, آمنا بك, وبما جئت به, فهل تخاف علينا؟ قال: ( نعم, إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله, يقلبها كيف يشاء» ) [أخرجه الترمذي] اللهم نسألك الثبات على الدين.
- التصنيف: