المنتقى من روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان (4-4)
الواجب على العاقل لزوم الرفق في الأمور كلها, وترك العجلة والخفة فيها.
توطين النفس على لزوم العفو عن الناس
الواجب على العاقل توطين النفس على لزوم العفو عن الناس كافة...إذ لا سبب لتسكين الإساءة أحسن من الإحسان, و لا سبب لنماء الإساءة وتهيجها أشد من الاستعمال بمثلها.
والواجب على العاقل لزوم الصفح عند ورد الإساءة عليه من العالم بأسرهم, رجاء عفو الله جل وعلا عن جناياته التي ارتكبها في سالف أيامه, لأن صاحب الصفح إنما يتكلف الصفح بإيثاره الجزاء, وصاحب الانتقام وإن انتقم كان إلى الندم أقرب.
ولو لم يكن في الصفح وترك الإساءة خصلة تحمد إلا راحة النفس ووداع القلب لكان الواجب على العاقل أن لا يكدر وقته بالدخول في أخلاق البهائم, بالمجازاة على الإساءة إساءة.
الإغضاء عما ينقل الوشاة
النميمة...تهتك الأستار, وتفشي الأسرار, وتورث الضغائن, وترفع المودة, وتجدد العداوة, وتبدد الجماعة, وتهيج الحقد, وتزيد الصد.
والواجب على العاقل لزوم الإغضاء عما ينقل الوشاة, وصرف جميعها إلى الإحسان, وترك الخروج إلى ما لا يليق بأهل العقل.
كتم السِّر
من استودع حديثاً فليستر, ولا يكن مهتاكاً ولا مشياعاً, لأن السر إنما سمى سراً لأنه لا يفشى...ومن كتم سره كانت الخيرة في يده, ومن أنبأ الناس بأسراره هان عليهم وأذاعوها, ومن لم يكتم السر استحق الندم, ومن استحق الندم صار ناقص العقل, ومن دام على هذا رجع إلى الجهل.
الاعتذار عن الخطأ
الاعتذار يذهب الهموم, ويجلي الأحزان, ويدفع الحقد, ويذهب الصد...فلو لم يكن في اعتذار المرء إلى أخيه خصلة تحمد إلا نفي العجب عن النفس في الحال لكان الواجب على العاقل أن لا يفارقه الاعتذار عند كل زلة
قبول عذر المعتذر
الواجب على العاقل إذا اعتذر إليه أخوه لجرم مضى أو لتقصير سبق أن يقبل عذره, ويجعله كمن لم يذنب. ..ومن اعترف بالزلة استحق الصفح عنها, لأن ذل الاعتذار عن الزلة يوجب تسكين الغضب عنها.
المشورة
الواجب على العاقل السالك سبيل ذوي الحجى أن يعلم أن المشاورة تفشي الأسرار, فلا يستشير إلا اللبيب الناصح الودود الفاضل في دينه.
ومن اُستشير فليشر بالنصيحة, وليجتهد بالرأي, وليلزم الحق وقصد السبيل, وليجعل المستشير كنفسه, بترك الخيانة, وبذل النصيحة
والواجب على العاقل إذا استشير قوم هو فيهم أن يكون آخر من بشير, لأنه أمكن من الفكر, وأبعد من الزلل, وأقرب إلى الحزم, وأسلم من السقط.
النصيحة للمسلمين
الواجب على العاقل لزوم النصيحة للمسلمين كافة, وترك الخيانة لهم بالإضمار والقول والفعل معاً...وعلامة الناصح إذا أراد زينة المنصوح له أن ينصحه سراً, وعلامة من أراد شينه أن ينصحه علانية, فليحذر العاقل نصحه الأعداء في السر والعلانية.
الحلم
الواجب على العاقل إذا غضب واحتد أن يذكر كثرة حلم الله عنه, مع تواتر انتهاكه محارمه, وتعديه حرماته, ثم يحلم, ولا يخرجه غيظه إلى الدخول في أسباب المعاصي.....والحليم عظيم الشن, رفيع المكان, محمود الأمر, مرضى الفعل.
والحلم اسم يقع على زمِّ النفس عن الخروج عند الورود عليها ضد ما تحب إلى ما نهي عنه, والحلم أجمل ما يكون من المقتدر على الانتقام.
الرفق
الواجب على العاقل لزوم الرفق في الأمور كلها, وترك العجلة والخفة فيها.
والرافق لا يكاد يُسبق, كما أن العجل لا يكاد يلحق, وكما أن من سكت لا يكاد يندم كذلك من نطق لا يكاد يسلم.
والعجل يقول قبل أن يعلم, ويجيب قبل أن يفهم, ويحمد قبل أن يُجرب, ويذم بعد ما يحمد, ويعزم قبل أن يفكر, ويمضي قبل أن يعزم.
العجلة موكل بها الندم, وما عجل أحد إلا اكتسب ندامة واستفاد مذمة, لأن الزلل مع العجل, والإقدام على العمل بعد التأني فيه أحزم من الإمساك عنه بعد الإقدام عليه, ولا يكون العجول محمود أبداً.
أداء الحقوق في المال والسخاء به
الواجب على العاقل إذا أمكنه الله تعالى من حطام هذه الدنيا الفانية, وعلم زوالها عنه, وانقلابها إلى غيره, وأنه لا ينفعه في الآخرة إلا ما قدم من الأعمال الصالحة : أن يبلغ مجهوده في أداء الحقوق في ماله, والقيام بالواجب في أسبابه, مبتغياً بذلك الثواب في العقبى والذكر الجميل في الدنيا, إذا السخاء محبة ومحمدة, ومن جاد ساد.
عدم الاغترار بالدنيا وزهرتها
الواجب على العاقل أن لا يغتر بالدنيا وزهرتها وحسنها وبهجتها, فيشتغل بها عن الآخرة الباقية والنعم الدائمة, بل ينزلها حيث أنزلها الله , لأن عاقبتها لا محالة تصير إلى فناء, يخرب عمرانها, ويموت سكانها, وتذهب بهجتها, وتبيد خضرتها, فلا يبقى رئيس متكبر مؤمر, ولا فقير مسكين محتقر إلا ويجري عليهم كأس المنايا, ثم يصيرون إلى التراب...فالعاقل لا يركن إلى هذا نعتها, ولا يطمئن إلى دنيا هذه صفتها, وقد ادخر له ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر, فيضن بترك هذا القليل, ويرضي بفوت ذلك الكثير.
لزوم ذكر الموت على الأوقات كلها
الواجب على العاقل أن يضم إلى رعاية ما ذكرنا من شعب العقل في كتابنا هذا لزوم ذكر الموت على الأوقات كلها, وترك الاغترار بالدنيا في الأسباب كلها, إذ الموت رحى دوارة بين الخلق, وكأس يُدار بها عليهم, لا بد لكل ذي روح أن يشربها, ويذوق طعمها, وهو هاذم اللذات, ومنغص الشهوات, ومكدر الأوقات.
العاقل لا ينسي ذكر شيء هو مترقب له, ومنتظر وقوعه, من قدم إلى قدم, فكم من مُكرم في أهله, مُعظم في قومه, مُبجل في جيرته, لا يخاف الضيق في المعيشة ولا الضنك في المصيبة, إذ ورد عليه مذلل الملوك, وقاهر الجبابرة, وقاصم الطغاة, فألقاه صريعاً بين الأحبة, مفارقاً لأهل بيته وإخوانه, لا يملكون له نفعاً, ولا يستطيعون له دفعاً...فالعاقل لا يغتر بحالة نهايتها تؤدى إلى ما قلنا, ولا يركن إلى عيش مغبته ما ذكرنا, ولا ينسى حالة لا محالة هو مواقعها, وما لا شك يأتيه, إذ الموت طالب لا يعجزه المقيم, ولا ينفلت منه الهارب.
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
- التصنيف: