العدل في عطية الأولاد
اعتنى الإسلام بالأولاد، وحرص على أن ينشؤوا نشأةً صالحةً سليمةً من الانحراف الظاهر والباطن؛ فاعتنى بعلاقتهم بربهم، وبعلاقتهم بغيرهم من المخلوقين، لا سيَّما الأب والأم، فمنع كل ما يكِّدر هذه العلاقة المبنيَّة على إجلال الأبوَيْن وتقديرهما وبِرِّهما
اعتنى الإسلام بالأولاد، وحرص على أن ينشؤوا نشأةً صالحةً سليمةً من الانحراف الظاهر والباطن؛ فاعتنى بعلاقتهم بربهم، وبعلاقتهم بغيرهم من المخلوقين، لا سيَّما الأب والأم، فمنع كل ما يكِّدر هذه العلاقة المبنيَّة على إجلال الأبوَيْن وتقديرهما وبِرِّهما؛ فمنع كلَّ ما قد يُوغِر صدورَ الأولاد على أبوَيْهم وعلى بعضهم البعض، ومن ذلك: تخصيص أحدهم بعطيةٍ في الحياة أو بعد الممات دون بقية الأولاد.
فعن النعمان بن بشير، أنَّ أمَّه بنت رواحة سألت أباه بعض الموهبة من ماله لابنها، فالتوى بها سنةً، ثم بدا له، فقالت: لا أرضى حتى تُشْهِدَ رسول الله - صلى اللهم عليه وسلم - على ما وهبتَ لابني. فأخذ أبي بيدي - وأنا يومئذٍ غلامٌ - فأتى رسول الله - صلى اللهم عليه وسلم – فقال: يا رسول الله، إن أمَّ هذا - بنت رواحة - أعجبها أن أُشْهِدَكَ على الذي وهبتُ لابنها. فقال رسول الله - صلى اللهم عليه وسلم -: «يا بشير، أَلَكَ ولدٌ سوى هذا»؟. قال: نعم. فقال: «أَكُلُّهم وَهَبْتَ له مثل هذا»؟. قال: لا. قال: «فلا تُشهدني إذًا؛ فإني لا أشهد على جَوْرٍ» (رواه البخاري (2587)، ومسلم (1623)، واللفظ له. وفي روايةٍ لمسلم قال: «أَيَسُرُّكَ أن يكونوا إليكَ في البرِّ سواءً»؟. قال: بلى. قال: «فلا إذًا».
والحديث واردٌ في الأب، وذلك الأم؛ فهي أحد الوالدَيْن، فهي داخلةٌ في عموم الحديث، والمَفْسَدَة المتوقَّعة بتفضيل الأب متوقَّعةٌ بتفضيل الأم.
فالأصل حُرْمَةُ تفضيل بعض الأولاد، لكن يجوز تفضيل بعض الأولاد على بعضٍ في حالَيْن:
الأولى: إذا رضيَ بقية الأولاد بتفضيل أحدهم؛ لأنَّ النهي لأجلهم، فلهم إسقاط حقِّهم.
الثانية: إذا كان التفضيل لمعنًى في المفضَّل؛ لصلاح المفضَّل، أو كونه في عون أبوَيْه، أو ضعفه، أو غير ذلك من الأوصاف؛ لأنَّ هذا هو العدل، والمساواة مع ميزةٍ لأحدهم ليس من العدل؛ فعن عائشة – رضي الله عنها - إنَّها قالت: "إنَّ أبا بكر الصديق – رضي الله عنه - كان نَحَلَها جادَّ عشرين وَسْقًا من ماله بالغابة، فلما حَضَرَتْهُ الوفاة قال: والله يا بنيَّة، ما من الناس أحدٌ أحبُّ إليَّ غنًى بعدي منكِ، ولا أعزَّ علي فقرًا بعدي منكِ، وإنَّي كنت نَحَلْتُكِ جادَّ عشرين وَسْقًا، فلو كنت جَدَدْتِيهِ واحْتَزْتيه؛ كان لكِ، وإنَّما هو اليوم مال وارثٍ، وإنَّما هما أخواكِ وأختاكِ؛ فاقتسموه على كتاب الله"؛ رواه الإمام مالك (2/752) بإسنادٍ صحيح.
ففضَّل الصديق ابنته الصدِّيقة بعشرين وَسْقًا من التَّمر من بين أولاده، وأقرَّته عائشة على ذلك.
وعن القاسم بن عبدالرحمن الأنصاري: أنَّه انطلق هو وابن عمر حتى أتوا رجلاً من الأنصار، فساوموه بأرضٍ له، فاشتراها منه، فأتاه رجلٌ فقال: إنَّي رأيتُ أنَّك اشتريت أرضًا وتصدَّقت بها. قال ابن عمر: "فإنَّ هذه الأرض لابني واقِد؛ فإنَّه مسكينٌ"؛ نَحَلَهُ إيَّاها دون ولده. رواه البيهقي (6/178) بإسنادٍ حسن، وهذا القول رواية في مذهب الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام.
قال شيخ الإسلام - كما في (الاختيارات ص: 185): "أن ينفرد أحدهما بحاجةٍ غير معتادةٍ، مثل أن يقضيَ عن أحدهما دَيْنًا وَجَبَ عليه من أَرْشِ جنايةٍ، أو يعطيَ عنه المَهْرَ، أو يعطيَه نفقةَ الزَّوجة، ونحو ذلك؛ ففي وجوب إعطاء الآخَر مثل ذلك نظرٌ". أهـ.
فعلى هذا يجوز أن يرفد الأبوان أحد أبنائهما لفقره، أو لعدم وجود عملٍ له، أو لاصلاح سيارته، أو تسديد ما عليه من حقوقٍ للآخَرين، وغير ذلك، ولايلزمهما إعطاء بقية الأولاد.
وكذلك يجوز أن تخصَّ بعض البنات المتزوِّجات بعطيَّةٍ؛ لأجل حاجة زوجها، أو لكَوْنه لا يعطيها حوائجها وحوائج أولادها.
وأما في النَّفَقَة؛ فالواجب أن يعطيَ كلُّ وَلَدٍ حاجَته من مَطْعَمٍ و مَشْرَبٍ و مَلْبَسٍ ومَنْكَحٍ ونَفَقَة.
ونَفَقَة الصغير ليست كنَفَقَة الكبير، ونفقة الأنثى وكسوتها ليست كنَفَقَة الذَّكَر؛ فمثلاً: ما يعطيه الأب لأولاده لشراء فسحة في المدرسة، لا يلزم فيها التسوية بين أولاده الذُّكور والإناث، فمن يدرس في المرحلة الثانوية يُعطَى أضعافَ ما يُعطَى مَنْ يدرس في المرحلة الابتدائية، وكذلك كل ما يتعلَّق بالحاجات؛ فالمَقْصِد: سَدُّ الحاجة، وحاجة الكبير ليست كحاجة الصغير، وحاجة الذَّكَر ليست كحاجة الأنثى.
ومن الحوائج: النِّكاح، فإذا كان الأب موسِرًا، والابن محتاجًا؛ زوَّجه أبوه، وتحمَّل الأبُ نفقات النِّكاح، وفعل ذلك ببقية أولاده الذُّكور كذلك، فمَنْ بَلَغَ النِّكاح وكان محتاجًا أَنْكَحَهُ، ومَنْ لم يبلغ لا يُوصَى له أن يَنْكِحَ من التَّرِكة بعد وفاة والِده؛ لأن النِّكاح من الحوائج، والحوائج العدل فيها قضاؤها في الحياة حين وجودها.
ويحرم على الأب أو الأم تفضيل بعض الأولاد لغير سببٍ، ولتصحيح الخطأ؛ فالأبوان لهما أحدُ أمرَيْن: إما استرداد العطيَّة والرجوع فيما وهباه، والأصل حرمة استرداد العطيَّة، لكنَّ الأبوَيْن مستثنيان من ذلك؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم -: «لا يَحِلُّ للرَّجل أن يعطيَ العَطِيَّة ثم يرجع فيها؛ إلا الوالد فيما يعطي وَلَدَه» رواه الإمام أحمد وغيره بإسنادٍ صحيح.
أو إعطاء بقية الأولاد، للذَّكر مثل حظِّ الأُنْثَيَيْن؛ اقتداءً بقسمة الله، فلا أعدل من الله - عزَّ وجلَّ - ولأنَّ هذا المال لو بقيَ حتى الوفاة؛ لاستحقُّوه عل هذه الصفة، إضافةً إلى أنَّ حاجة الذَّكر أكثر من حاجة الأنثى؛ فنفقتها تجب على غيرها، بخلاف الذَّكر، تجب نفقته ونفقة مَنْ تحته عليه.
كما يَحْرُم أن يخصَّ الأبوَان بعض الأولاد في العطيَّة وهم أحياء؛ فكذلك يَحْرُم عليهما أن يوصِيَا لبعضهم بعد الوفاة، كما لو أوصى الأب بسيارته لولده فلان؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصيَّة لوارثٍ» رواه جمعٌ من الصحابة، وهو ثابتٌ بمجموعه، لكن لو كان ذلك برضاء الوَرَثَة؛ جاز، فالنَّهي لأجلهم، فإذا أسقطوا حقَّهم سقط، أو أجازوه بعد الوفاة نَفَذَ.
لكن لو قدَّم الموصي في وصيَّته المحتاجَ من ورثته، أو جعلها في أبواب البِرِّ، أو للمحتاجين؛ فيدخل فيها المحتاج من الوَرَثة؛ فهم أوْلى بإحسان مُورِثِهِم من غيرهم، و عليه عمل الناس عندنا.
معاشر الأبناء:
يجوز للأب أن يأخذ أو أن يتملك من مال ولده، صغيرًا أو كبيرًا، ذكرًا أو أنثى، مع حاجة الأب وعدمها، ما شاء من المال، نقودًا أو طعامًا أو ثيابًا أو سيارةً أو غير ذلك من الأموال؛ فعن جابر – رضي الله عنه - أنَّ رجلاً قال: يارسول الله، إنَّ لي مالاً ووَلَدًا، وإنَّ أبي يريد أن يجتاح مالي. فقال: «أنت ومالُكَ لأبيكَ»؛ رواه ابن ماجه (2291) بإسنادٍ صحيح. بشرط ألاَّ يتضرَّر الوَلَد بأخذه، لكونه مضطرًا أو محتاجًا له، كأخذه طعامه وآلة حرفته، ولا مال عنده؛ لأنَّ حاجة الشخص مقدَّمةٌ على غيره، وألاَّ يعطيه لولدٍ آخَر، فإذا كان يحرم على الأب أن يفضل أحد أولاده بعطية على الآخَر من ماله الخاص؛ فمَنْعُه أن يفضله من مال أخيه من باب أولى.
لكن لو كان الأب لا يجد النفقة، وأعطى وَلَدَه من مال أخيه من باب النفقة؛ جاز؛ لأنَّ هذا واجبٌ على الأب، وليس من باب التفضيل في العطيَّة.
وكذلك حكم الأم: يجوز لها أن تتملَّك من مال وَلَدِها على ما تقدَّم؛ لقوله - صلى الله عليه و سلم -: «وأَطِعْ والدَيْكَ، وإن أَمَرَاكَ أن تخرج من دنياكَ فاخرج لهما»؛ حديثٌ حسنٌ، جاء عن جمعٍ من الصحابة.
إخواني:
النهي ورد عن تفضيل بعض الأولاد على بعض، فيجوز أن يَفْضُلَ الشخص في حياته بعض أقاربه في الهبة، الوارث منهم وغير الوارث، فالأصل جواز تصرُّف الإنسان في ماله، والنصُّ ورد في الأولاد وغيرهم، لا يساويهم، فلا يُقاس عليهم، والنبي – صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بشير بن سعد الأنصاري – رضي الله عنه - أن يعطي زوجته شيئًا حينما أمره بالتسوية بين أولاده.
_______________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان