سيجعل الله بعد عسر يسرا
وأخيراً ليكن الإنسان متفائلاً, فشدة الظلام تعني قرب بزوغ الفجر, والأمور إذا اشتدت فهذا يعني أن الفرج بفضل الله قريب
بسم الله الرحمن الرحيم
{سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا }
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين....أما بعد: فيحصل للإنسان أوقات تتعسر عليه الأمور, وتتكالب عليه الشدائد, وتكثر عليه المصائب, حتى تضيق عليه نفسه, وتضيق عليه الأرض بما رحبت, قال الله عز وجل: ( { حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم} ) [التوبة:118]
ويختلف الناس في كيفية التعامل مع هذه الكروب والمصائب:
فطائفة ممن ضعف الإيمان في قلوبهم, يقدمون على قتل أنفسهم والانتحار, لأن الشيطان يُزين لهم إن في ذلك خلاصاً وراحة من تلك الكروب والمصائب, وما علموا أنهم ينتقلون من كروبهم إلى ما هو أشد منها, فقاتل نفسه متوعد بالنار, فصار حالهم كالمستجير من الرمضاء بالنار, قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: الموت لا تنحلُّ به المشاكل؛ بل ربما تزداد به المصائب، فكم من إنسان مات وهو مُصاب بالمشكلات والأذى، ولكنه كان مسرفا على نفسه لم يُستعتب من ذنبه، ولم يتب إلى الله عز وجل، فكان في موته إسراع لعقوبته، ولو أنه بقي على الحياة، ووفقه الله تعالى للتوبة والاستغفار والصبر، وتحمل المشاق، وانتظار الفرج - لكان في ذلك خير كثير له.
وطائفة تنجو من هذه الكروب وهي الطائفة التي ملأ الإيمان قلوب أفرادها, فغطت حلاوة الإيمان في قلوبهم مرارة تلك الكروب, قال الإمام النووي رحمه الله: حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات وتحمل المشاق في الدين وإيثار ذلك على أعراض الدنيا."
وطائفة من الناس يتلاعب بهم الشيطان فيوقعهم في دائرة الأحزان الطويلة, والهموم المستمرة, فتصيبهم الأمراض النفسية التي تتعبهم بدنياً ونفسياً, وهؤلاء زادوا كروبهم كروباً, فالعاقل لا يعالج الداء بداء يزيده, بل يستخدم معه ما يزيله أو ما يخففه, ومما يعين العبد على تحمل تلك الكروب, إيمانه ويقينه الجازم أن تلك الأمور العسيرة سيعقبها يسر وتيسير من الله الكريم, قال الله سبحانه وتعالى: {سيجعل الله بعد عسر يسرا } [الطلاق:7] قال الإمام الطبري رحمه الله: (بعد عسر يسرا ) يقول: من بعد شدةٍ رخاءً, ومن بعد ضيقٍ سعةً, ومن بعد فقرٍ غنى
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وقوله تعالى: ( سيجعل الله بعد عسر يسرا ) وعد منه تعالى, ووعده حق لا يخلفه, وهذه كقوله تعالى: ( {فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا } ) [الشرح:5-6]
وقال العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله: وقوله: ( {فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا} ) بشارة عظيمة, أنه كلما وجد عسر وصعوبة, فإن اليسر يقارنه ويصاحبه, حتى لو دخل العسر جحر ضب لدخل عليه اليسر فأخرجه,...وتعريف "العسر" في الآيتين يدلُّ على أنه واحد, وتنكير "اليسر" يدل على تكراره, فلن يغلب عسر يسرين, وفي تعريفه بالألف واللام الدال على الاستغراق والشمول دلالة على أن كل عسر وإن بلغ من الصعوبة ما بلغ, فإنه في آخره التيسير ملازم له.
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: هذا بشارة من الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم ولسائر الأمة,...هذا الكلام خبر من الله عز وجل, وخبره جل وعلا أكمل الأخبار صدقاً, ووعده لا يخلف, فكلما تعسر عليك الأمر فانتظر التيسير.
و المقصود بالتيسير: التيسير الحسي, أو التيسير المعنوي, يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله: والتيسير قد يكون أمراً ظاهراً حسياً, مثل: أن يكون الإنسان فقيراً فتضيق عليه الأمور فييسر الله له الغنى, مثال آخر: إنسان مريض يتعب, يشق عليه المرض فيشفيه الله عز وجل, هذا أيضاً تيسير حسي, وهناك تيسير معنوي, وهو معونة الله الإنسان على الصبر, هذا تيسير, فإذا أعانك الله على الصبر تيسر لك العسير, وصار هذا الأمر العسير الذي لو نزل على الجبال لدكها, صار بما أعانك الله عليه من الصبر أمراً يسيراً.
إن من الأسباب التي تعين على تيسير الأمور, ما يلي:
* التوكل على الله عز وجل:
يقول العلامة ابن رجب رحمه الله: ومن لطائف أسرار اقتران الفرج بالكرب, واليسر بالعسر, أن الكرب إذا أشتد وعظُم وتناهى, حصل للعبد الإياسُ من كشفه من جهة المخلوقين, وتعلق قلبُه بالله وحده, وهذا هو حقيقة التوكل على الله, وهو من أعظم تُطلب بها الحوائج, فإن الله يكفي من توكل عليه, كما قال: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [الطلاق:3]
*تقوى الله عز وجل:
قال تعالى: ( {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا} ) [الطلاق:4] قال الإمام البغوي رحمه الله: أي يسهل عليه أمر الدنيا والآخرة.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: أي: يسهل له أمره, وييسره عليه, ويجعل له فرجاً قريباً, ومخرجاً عاجلاً.
* الصبر الجميل:
قال الله جل جلاله: ( {فاصبر صبرا جميلا} ) [المعارج:5] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الصبر الجميل صبر بلا شكوى.
وقال العلامة السعدي رحمه الله: الصبر الجميل, الذي لا يصحبه تسخط, ولا جزع, ولا شكوى للخلق.
وقد صبر نبي الله يعقوب عليه السلام الصبر الجميل, قال عز وجل: ( {قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا} )[يوسف:83]
وكانت نتيجة هذا الصبر أن فرج الله كربه, وجمع بينه وبين يوسف وأخيه عليهم الصلاة والسلام, بعد سنين طويلة من الفرقة والشتات.
وإن مما يعين المسلم على هذا الصير أمور, قال العلامة ابن القيم رحمه الله: هذه ثلاثة أشياء تبعث على الصبر على البلاء:
أحدها: ملاحظة حسن الجزاء, وعلى حسب ملاحظته والوثوق به ومطالعته يخفُّ حملُ البلاء لشهود العوض.
الثاني: انتظار روح الفرج, يعني راحته ونسيمه ولذته, فإن انتظاره ومطالعته وترقُّبه يخفف حمل المشقة, ولا سيما عند قوة الرجاء والقطع بالفرج.
الثالث: تهوين البلية بأمرين:
أحدهما: أن يعدَّ نعم الله عليه وأياديه عنده, فإن عجز عن عدِّها وأيس من حصرها, هان عليه ما هو فيه من البلاء, ورآه بالنسبة إلى أيادي الله ونعمه كقطرةٍ من بحر.
الثاني: أن يذكر سوالف النِّعم التي أنعم الله بها عليه, فهذا يتعلق بالماضي, وتعداد أيادي المنن يتعلق بالحال.
ومن صبر ينتظر الفرج فهو في عبادة, قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: الصبر مع انتظار الفرج يُعتبرُ من أعظم العبادات, لأنك إذا كنت تنتظر الفرج فأنت تنتظرُ الفرج من الله عز وجل, وهذه عبادة, وقد قال النبي علية الصلاة والسلام: ( واعلم أن النصر مع الصبر, وأن الفرج مع الكرب) فكلما اكتربت الأمور فإن الفرج أقرب إليك, ( وإن مع العسر يُسراً )
*الدعاء بتضرع وانكسار نفس:
قال العلامة ابن رجب رحمه الله: المؤمن إذا استبطأ الفرج, وأيس منه بعد كثرة دعائه, وتضرعه, ولم يظهر عليه أثر الإجابة يرجع إلى نفسه باللائمة, وقال لها: إنما أُتيتُ من قبلك, ولو كان فيك خير لأُجبتُ, وهذا اللوم أحبُّ إلى الله من كثير من الطاعات, فإنه يُوجبُ انكسار العبد لمولاه واعترافه بأنه أهل لما نزل به من البلاء, وأنه ليس بأهل لإجابة الدعاء, فلذلك تُسرعُ إليه حينئذ إجابةُ الدعاء وتفريج الكرب, فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله.
وقال العلامة السعدي رحمه الله: الله تعالى قدر من ألطافه وعوائده الجميلة أن الفرج مع الكرب, وأن اليُسر مع العسر, وأن الضرورة لا تدوم فإن حصل مع ذلك قوة التجاء وشدّة طمع بفضل الله ورجاء وتضرع كثير ودعاء, فتح الله عليهم من خزائن جوده ما لا يخطر بالبال.
* كثرة ذكر الله عز وجل:
قال العلامة ابن القيم رحمه :ذكر الله يُسهل الصعب ويُيسر العسير ويُخفف المشاق, فما ذكر الله عز وجل على صعب إلا هان وعلى عسير إلا تيسر ولا مشقة إلا خفت ولا شدة إلا زالت, ولا كربة إلا انفرجت, فذكر الله تعالى هو الفرج....بعد الغم والهم
وأخيراً ليكن الإنسان متفائلاً, فشدة الظلام تعني قرب بزوغ الفجر, والأمور إذا اشتدت فهذا يعني أن الفرج بفضل الله قريب, فالنصر مع الصبر, والفرج مع الكرب, واليسر مع العسر, قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ليعلم أن هذه المصائب من الأمراض وغيرها لن تدوم؛ فإن دوام الحال من المحال، بل ستزول إن عاجلًا أو آجلًا، لكن كل ما امتدَّت ازداد الأجر والثواب، وينبغي في هذه الحال أن نتذكَّر قول الله تبارك وتعالى: ( {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } ) [الشرح: 5، 6]، وأن يتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( «واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسرِ يسرًا» )
وقال رحمه الله: الإنسان كلما مضى عليه ساعة رأى أنه أقرب إلى الفرج وزوال هذه المصائب؛ فيكون في ذلك منشطًا نفسه حتى ينسى ما حلَّ به، ولا شك أن الإنسان الذي ينسى ما حلَّ به أو يتناساه، لا يُحسُّ به فإن هذا أمر مشاهد إذا غفل الإنسان عمَّا في نفسه من مرض أو جرح أو غيره، يجد نفسه نشيطًا وينسى، ولا يحسُّ الألم، بخلاف ما إذا ركز شعوره على هذا المرض أو على هذا الألم، فإنه سوف يزداد"
اللهم فرج كروب المكروبين, ونفس همومهم, ويسر أمورهم.
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
- التصنيف: