زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة

منذ 2021-12-22

يولد الإنسان وهو جاهل بكل شيء، لا يعرف موتًا ولا حياة، ثم يتعلم الأشياء رويدًا رويدًا، حتى يتعلم الموت..

يولد الإنسان وهو جاهل بكل شيء، لا يعرف موتًا ولا حياة، ثم يتعلم الأشياء رويدًا رويدًا، حتى يتعلم الموت..

 

فيتساءل عنه: ما هو الموت؟

فيزوّر الكبار شكل الموت عما يعرفونه ليكون لطيفًا لا يُرعب الأطفال و" مناسبًا لعمرهم "، فيعرفه الطفل بشكل مختلف عمّا يعرفه الكبار؛ فهو "انتقال من حياة إلى أخرى هانئة"، و"مكان جميل يعبره الناس حين تنتهي حياتهم"، ولا ينتبه الطفل إلى شيء من متعلقات الموت سوى أنه سيذهب إلى مكان رائع، ونورٌ ساطع، وفرحة لا تنتهى، فيتمنى أن يموت، أو يموت أحباؤه، أو يقول بسذاجته: إنني سأكبر وأبي سيموت!

 

فالموت عنده هو نعيم لا ضير في ذكره مرارًا والحديث عنه.

 

ثم يكبر فيتعلّق بالدنيا وتكون له آمال عظيمة ورغبات متدافعة، يتعلّق بالملذات والشهوات، فيبصر الموت حينئذ وقد تغيّر طعمه، وأبان عن وجهٍ مختلف.

 

فهو يحل في الجسد فيسلبه متعته، ويُطفئ أنواره وبهجته، فلا أحلامه تتحقق، ولا ملذاته تنقضي.. فيكره الموت، وبقدر تعلقه بالدنيا يكره أن يموت.

 

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أكثروا من ذكر هادم اللذات»، وقال صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة»، فتذكرُ الدار الآخرة أعظم دافع للخير، وأعظم مانع عن الشر، فعندما يستحضر المسلم ما ينتظره في الدار الآخرة من لذة النظر إلى الله الذي هو أعظم ثواب يناله، والجنة ونعيمها الذي لا ينقطع، فتجده قد تحفّز للعمل الصالح واجتهد وتصبّر عن الحرام، وعندما يستحضر النار والكفرة حين يُحجبون عن رؤية الله تبارك وتعالى تجده قد امتنع عن كثير من المحرمات وكان دافعًا ليعمل حتى ينجو.

 

وتذكر الموت مرارًا ينغّص الحياة الدنيا، ويضعها في مكانها الحقيقي، ويحل كل ارتباط بها، والنفس ميّالة نحو الحياة والانغماس في ملذاتها حتى تسكر وتغفل وتضيع، والشيطان ينفخ، والشهوات متزيّنة، فكان لِزامًا على كل عاقل أن يزور القبر ويتفكر في مصيره، فلا أحد يأمن الموت ساعة، فالصغار والكبار قد طرقهم الموت، والأصحاء والمرضى، فما يزال المرء يتذكر ويستحضر الموت حتى يعيش العيش الأفضل، وهذا العيش هو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»، وكان ابن عمر يقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لسقمك ومن حياتك لموتك، فما تراه بعدُ إلا مبادرًا آخذًا بعنان حياته من أن تنفلت فيهلك، مذكرًا نفسه أن العيش عيش الآخرة، وبقول الله تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: ٤]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لموضعُ سوطِ أحدكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها»، ممتثلًا لأمر ربه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 18، 19]، والآيات والأحاديث والآثار في قصر الأمل وذم الدنيا كثيرة جدًّا.

 

حين تعلقنا بالدنيا وزخرفها أصبح ذكر الموت مدعاةً للهم الشديد والاكتئاب والسواد الذي لا يُبقي أي حياة، فكانت هناك "فوبيا" من الموت، وهناك إعراض شديد عن أي شيء يذكرنا به، فيقول أحدنا حين يُذكّر بالموت: كلنا سنمر على هذه الطريق فلماذا تنكدون علينا من الآن؟! اتركونا نعيش!، ويقول آخر: ابتعد فقد أحزنتَ نفسي وقتلتَ فرحتي بذكرك للموت.. وأصبح الموت قليلًا في كلامنا، قليلًا في أفكارنا، حتى إذا نزل بأحدنا تفاجأنا جدًّا، وربما قست القلوب فلا تهتز، فها هو يخطف صغارنا وكبارنا من حولنا ولا ينتبه له ويستعد إلا قليل، وها هو يقبض الأصحاء والضعفاء فلا يتفكر فيه إلا قليل، أصبحت القلوب كجبال الجليد، لا يؤثر فيها أي شُعلة.

 

وإنما أُوتينا من قبل "التعلق" بالدنيا، واذهب إلى أي خسارة في التاريخ مهما كانت، ستجد أن سببها التعلق، سمّه تعلّقًا أو حبًّا أو اتباع الشهوة والهوى، سمّه أي شيء، لا يغيّر هذا من حقيقته، ما سبب هزيمة الدول والأمم والأشخاص؟ إنه التعلق!، التعلق بالحياة وبزخرفها والقصور والنساء والشهوات والأموال والأولاد، التعلق بكل شيء دنيوي زائل.

 

انظر إلى الصحابة والتابعين الأوائل حين ملّكهم الله الدنيا ورقاب الطغاة الجبارين، فقد تركوا المال والأهل والولد والديار وما يعيش به ولأجله الإنسان، تركوا التعلق بكل شيء يُضعفهم، وكل شيء يتعلق بالحياة الدنيوية يُضعف بلا شك، فنالوا ما لم يخطر ببالهم، انظر إلى فترات القوة في التاريخ الإسلامي كيف ترك القادة والناس محبوباتهم لله وآثروا الحياة الأخرى على الدنيا فانتصروا وغلبوا ومُكّن لهم، ومن رسائل قادة جيوش المسلمين الأوائل إلى الكفرة: سأبعث إليكم قومًا يُحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة، فإن أبيتم فقد أتيتكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة.

 

وتأمل الدول والأمم التي سقطت بعد عز، كانت جيوشها تخاف منها أمم المشرق والمغرب، ولكن حين تعلقوا بالدنيا وانغمسوا بالملذات ضعفوا وأصبحوا كالطفل الذي يسحب سيفًا لا يستطيع حمله فضلًا عن المقاتلة به، وحين اجتهدوا في تجهيز الآلة وانشغلوا بها عن تجهيز حامل الآلة وتهيئة نفسه وقلبه وتطهيره من كل الدنس والتعلقات استحقوا أن يُداسوا بالأقدام.

 

ومما أوصى به عمر بن الخطاب قائده أبو عبيدة بن الجراح وهو في أمر صعب وخطر عظيم وهو في مواجهة جيوش تتلوها جيوش، وأعدادٍ كبيرة ترتجف منها القلوب، مذكّرًا له بما تكون عليه القوة الحقيقة، وكيف ينتصر عليهم:

إنك ستقدم على أمر شديد، فالصبر الصبر على ما أصابك ونابك، تجمع لك خشية الله، واعلم أن خشية الله تجتمع في أمرين: في طاعته، واجتناب معصيته، وإنما طاعة من أطاعه ببغض الدنيا وحب الآخرة، وإنما عصيان من عصاه بحب الدنيا وبغض الآخرة.

 

وكذلك مما أرسله إليه:

وقد أبلاك الله بي وأبلاني بك، فغض بصرك عن الدنيا، وأله قلبك عنها، وإياك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك، فقد رأيت مصارعهم.

 

والمرء يمر مع ذكر الموت بأربعة مراحل:

مرحلة التعرف الأولى وهي ساذجة، ثم مرحلة الصدمة والخوف وهي لا يتجاوزها الكثير، ثم تقبّله بشكل غير سوي فيكتئب أو يعيش كالمجنون وربما قتل نفسه، ثم تقبّله كمؤمنٍ يستعد له ويستحضره من غير أن يجعله هادمًا لحياته كلها، ولكنه هادمًا للتعلق بها، للانحراف عن سبب خلقه، يتذكره كل حين ليعتدل ويعمل، دافعه للإنجاز والفلاح في الدنيا والآخرة.

 

ومن ثمرات تذكر الموت والدار الآخرة عند المسلم:

"تحديد الهدف وتعديل المسار"

فمعرفة نهايات الطريق تجعلك تحدد مسارك وتوضح لك طريقك، وعواقب الأشياء هي حقيقتها، فلو عُرضت عليك وظيفتان أولهما راتبها متوسط وتتقاعد منها بعد الستين على ضعف الراتب، والثانية راتبها كبير وتتقاعد منها على الأربعين على سدس الراتب، لكان لزامًا على العاقل أن يختار من عاقبتها أسلم وأفضل، ولا يختار العاجل على الآجل فيهلك، ومعرفته لعاقبة طريقه تجعله يتصبّر على المنغصات، ولا يميل مع الناس حين يلوموه على تركه الأفضل في نظرهم، ويكون ثابتًا في طريقه، وهذا أمر حقير قليل لا يمكن أن يُقارن بالآخرة ونعيمها وعذابها، والدنيا ونعيمها وعذابها، والخُلد في الاخرة وانتهاء الوقت بالدنيا، فتذكرُ الموت إنما هو لتحدد مسارك جيدًا، تحدد مسارك العام في حياتك، إلى المسارات الفرعية والطارئة والمزيّنة، وليمدك بالصبر كلما تعبت.

 

وكذلك لكي لا تحقد ولا تحسد ولا تظلم ولا تحمل همًا ولا حزنًا، وتعطي للدنيا قدرها، فلا تزلزلك كما تزلزل الكفرة الذين لا يؤمنون بأي حياة غير الدنيا، بل ثابتًا صابرًا في الضراء، مستقيمًا في السراء، قال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس ٢٤]، وفيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء»، فهذا هو مقدار الدنيا عند الله، ولابد أن يكون مقدارها عندك كذلك.

 

ومن ثمرات الاستحضار الدائم للموت:

أن تكون الآخرة هي همّ العبد، فمن كان ذكورًا للموت كانت الدنيا لا تعدل عنده شيئًا، وكانت الآخرة حاضرة في ذهنه، ومن كانت الآخرة همّه فقد وعده الله بأمور هي خير من تعلقه بالدنيا وانشغاله بها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « «من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدّر له»، وقال صلى الله عليه وسلم: «من جعل الهموم همًّا واحدًا: همّ آخرته كفاه الله همّ دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يُبال الله في أي أوديتها هلك».

 

قال ابن القيم في كتابه "الفوائد":

إِذا أصبح العَبْد وَأمسى وَلَيْسَ همه إِلَّا الله وَحده تحمل الله سُبْحَانَهُ حَوَائِجه كلهَا، وَحمل عَنهُ كل مَا أهمه، وَفرّغ قلبه لمحبته، وَلسَانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وَإِن أصبح وَأمسى وَالدُّنْيَا همه حمّله الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكله إِلَى نَفسه، فشغل قلبه عَن محبته بمحبة الْخلق، وَلسَانه عَن ذكره بذكرهم، وجوارحه عَن طَاعَته بخدمتهم وأشغالهم، فَهُوَ يكدح كدح الْوَحْش فِي خدمَة غَيره كالكير ينْفخ بَطْنه ويعصر أضلاعه فِي نفع غَيره، وكل من أعرض عَن عبودية الله وطاعته ومحبته بُلي بعبوديةٍ لمخلوق ومحبته وخدمته، قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] اهـ.

 

فكثير من الناس يتساءل: كيف تكون الآخرة هي همي كله؟ أو تكون أعظم من همّي بالدنيا على الأقل؟، فاستحضار الموت أعظم ما يُحقق ذلك، فأي شيء يبقى للدنيا في قلبك وأنت ترى القبر وتتفكر في حالك هناك، وتتفكر في كل مرحلة في الآخرة، والناس في شغل عظيم عن أهاليهم وذراريهم، قد يظن المرء أنهم لا يرون أهاليهم، ولكنهم {يُبَصَّرُونَهُمْ ۚ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ} [المعارج: 11 - 14]، فأي شيء هذا الذي يُشغل عن الابن؟، فضلًا عن أن أفتدي به؟.

 

فتتصاغر الدنيا وهمومها، وتصبح الدنيا تفاهة فقاعة، وحين تنظر لأحوال يوم التغابن، وما يحصل لهم من غبن شديد، والندم الذي ينزل على المفرّط، وتنظر إلى الدرجات العليا في الجنة والنار وعذابها، وكيف كنت في سكرة وحلم، وتحدث نفسك أن لو رجعت لكنت أتقى رجل، لن تشغلك عن السعي للنعيم والنجاة من الجحيم أعمالك وزوجتك وولدك ومالك وسهراتك وأصدقائك، فضلًا عن معاصي كثر ونوايا سيئة وتنافس على الدنيا، وفجور كثير كنت تعيش فيه تظنه لذات فبان عذابًا تتجرّعه، بانت الدنيا كلها كأنها غبار نفضته لا قيمة له، حين تفكر في كل ذلك وتتدبره وتستحضره كلما قرأت القرآن، فتكون أحداث يوم القيامة بين عينيك كلما قرأت وردك، والموت وما بعده حاضرًا.

 

ومن ثمرات استحضار الموت: القناعة بما رُزقه العبد، ومن اقتنع برزقه فلا أسعد منه، وقالت العلماء: من قصر أمله هان عليه عيشه، قد استراح من الدنيا ومن طلب فضولها والسعي المهلك فيها، واستراح من القيل والقال والحسد والحقد والنظر الى أرزاق الناس والعداوت والبغضاء والخصام والمشاحنة والتنافس على الدنيا والاقتتال عليها.

 

فالدنيا جزء بسيط من حياة أكبر، وفيها العمل وفي غيرها النتيجة، ويعلم القنوع أن الخير الكبير لو أتاه ربما أهلكه، وأن الله الذي قسم وهو خبير بالعباد بصير بهم، فيرضى ويسلم، ومن رضي بالله وسلم أمره له قد أفلح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أفلح من أسلم ورُزق كفافًا وقنّعه الله بما آتاه»، وهذه القناعة رزق عزيز لا يناله كل أحد، فيصبح ويمسي وهو وصاحب الغنى سواء، سعيدًا وراضيًا، وهذا لا يعني أبدًا أنه سيظل فقيرًا كل عمره، بل يكفيه الله أمر الدنيا وهمومها ويصرف عنه ما يضره من الأدواء والمصاريف والديون والحوادث، فيكون مصرفه قليل وهمّه قليل، ويُبارك له في رزقه، وربما يعطيه الرزق الوفير والمال الكثير، فهي ليست مسألة أنه يرضى فيكون فقيرًا مدة عمره، فكم من رزق مرتبط بعمل صالح، كصلة الرحم والصلاة وغيرها، وكم من رزق محجوب بذنب، وكم من رزق يأتي على هيئة قلة المصاريف وسدها، فلا يمرض فيحتاج لمستشفى فيدفع، ولا يتعرض لغرامات ولا لحوادث، ويجد طريقه سهلًا مذللًا، فهو يقيس رزقه بكم يأتيه ولم ينظر إلى من كم يصرف، ويقارن بغيره، واذا حلت البركة فأقل القليل ينفع، وإذا محقت فأكثر الكثير لا يجدي.

 

ومن ثمرات استحضار الموت والدار الآخرة أن يجرّد العبد نيته لله، فالنية هي أشد ما عالجه مسلم، وقد تكلم فيها العلماء الأجلاء طويلًا جدًا، فمن انحرافات النية أن يعمل المسلم عملًا لله، فيعجبه ثناء الناس لعمله وما يزال يطرب له ويميل فيفعل بحضرتهم ما لا يفعله بغيابهم وما يزال يميل حتى يهلك نفسه، فيأتيه ذكر الموت مبينًا له حقيقة الناس وما يصرفه لهم من عبادة، فينفضه نفضًا، فحين يفكر في نفسه وحيدًا في قبره قد تركه الناس وعمله، ويوم العرض حين يُبعث الناس عرايا مجردين من كل شيء إلا العمل الصالح، وحين يفكر بفلان وعلان الأمراء والكبار والعمالقة الذين كانت تهتز الأرض لمجيئهم وحديثهم، يكونون يوم القيامة كأنهم ذباب عنده، بل لا يُفكر أبدًا في التزين لهم والحديث إليهم ومجاملتهم، بل هو في شغل عنهم، يكفيك أنهم يفر من أولاده وأهله، كيف يفر المرء منهم وينشغل عنهم؟!، والله إنه لأمر عظيم، فالإنسان معرّض لكل تلك الأدواء في نيته، فإن طالت عليه الغفلة انحرف قلبه ونيته، طلبًا للدنيا وللناس ولمقاصد سيئة، وربما مقاصد قد وضعها الإسلام تبعًا، ولكنه لا يفكر إلا بها ولا يقصد الله ولا الدار الآخرة قط، مثل أن يَصِلَ رحمه لأجل الرزق وطول العمر، ولم يرد وجه الله قط ولا الدار الآخرة، أو يستغفر للدنيا أو يحوقل لأمر دنيوي بحت بلا أي نية لله والدار الآخرة، فكلما تذكر الموت وأحداثه قرَعه على أُمُّ رأسه فأعاده إلى الجادة وأيقظه من غفلته، وبيّن له من يقصد ومن يعبد ولمن يتجمّل ويتزين، ومن سيفيده ومن لا يفيده.

 

قال تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} [الإسراء: ١٨ - ١٩].

 

وقال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيب} [الشورى: ٢٠].

 

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة، والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عملَ الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة من نصيب».

 

وهذا يزعم أنه يقرأ لله، وهو كذلك في بداية أمره ثم يسمع ثناءً وإعجابًا فتطرب نفسه الضعيفة، فيحسّن صوته زيادة لأجل الناس، ويزعم أنه لله لكي يؤثر فيهم ويخشعوا، ويمدّ مدًا ويتغنى كأنه يقرأ لآخر مرة، فتأتي عليه الأيام والأوقات وشيطانه يوسوس والناس يفتنون وهو غافل عن ذكر الله الذي يحييه وعن الدار الآخرة التي تُوقظه، فما يزال حتى يكون غالب نيته لهم لا لله والعياذ بالله، وآخر يؤذّن في المسجد لله، فكلما اجتمع له الناس يوم الجمعة لحّن وطوّل في الأذان الثاني، فجمع بين رياء وسمعة وبين لحن مخل وزائد، وهو يزعم أنه لله.

 

أخي وأختي.. تفكروا في الدنيا التي تعلقنا بها، في حقيقتها التي غابت عنا، في مئالها وعاقبتها، في الزوج والأولاد والبيت والسيارة والأموال، فالزوجة ستُنكح، والزوج سينكح مثنى وثلاث ورُباع!، والولد سيمضون في حياتهم يفعلون بها ما يشاءون، فضعهم في منزلتهم الحقيقية، ولا تُقدمهم على فرض أُمرت به، أو تفعل لأجهم محرمًا، وكذلك الأقرباء والأصدقاء بعد ليالٍ ستغدو حديثًا من أحاديثهم، وبعد سنين ستتلاشى ذكراك الباهتة منهم، بعد مئة سنة ستكون عدمًا في الدنيا، أعمالك التي قصدت بها ثناء الناس والسمعة ستعامل بنقيض قصدك، والجزاء من جنس العمل، فيذهب كل شيء وما لله يبقى، ستحل أمم أخرى وتكون لهم أعمالهم وأشياءهم، فتفنى ويفنى ما قدّمت إلا الخير، وتبقى أعمالك حجة عليك تتردى بها.

 

وقد أتى قوم جهّال جعلوا الأصل للدنيا والفضلة للآخرة، وقلّبوا الأمور ونظروا للأشياء بالعكس، فيقرأون: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]، فيجعلون جل عملهم للدنيا، ويستلذون بها ملذة من لا يؤمّل بعثًا ولا ينتظر حسابًا، ثم لم يبق للآخرة إلا نقرات يسيرة، فإذا حدّثه أحد وذكّره بالآخرة قال له: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}، وكلما رأى شيء من الدنيا قال: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}، ولعله لا يحفظ إلا هي من القرآن، جعلها شعاره في كل عمل دنيوي ينغمس فيه، كأنها بسملته التي يبتدئ بها، فنعوذ بالله من أن تكون الدنيا أكبر همنا.

 

ذكر الموت مزيل للغفلة، والغفلة كمثل الأوساخ في البدن والبيت ونحوها، لابد منها طالما هناك حياة، فمن انتظر حتى يمتلئ الشيء قذارة ثم يبادر إلى التنظيف ثقل عليه وربما اعتاده بعد طول مدة، ومن عالج أمره ونظّف كل يوم أو أكثر وأقل، وبادر قبل أن يمتلئ المكان بقي عليه نظيفًا، ولم يعتد إلا على النظافة والرائحة الجميلة، وفي أدنى قذارة يشعر بها، فكذلك النفس والقلب مع جاذبية الدنيا والغفلة الطبيعية عن الآخرة، ويزيد القلب أنه كلما طال أمد غفلته قسى، وازداد ظلمة، وصعب تنظيفه وتليينه وتحسينه، «فزوروا القبور فإنها تذكر بالآخرة».

 

وأخيرًا:

ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ   ***   وكل نعيمٍ لا محالةَ زائلُ 

  • 8
  • -3
  • 2,783

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً