المنتقى من كتاب " إحياء علوم الدين " للإمام الغزالي - الأوراد وقيام الليل
فالغافل في غير طاعة تقرّبه إلى الله زلفى, متعرض في يوم التغابن لغبينة, وحسرة ما لها منتهى
الله تعالى جعل الأرض ذلولاً لعباده لا ليستقروا في مناكبها, بل ليتخذوها منزلاً فيتزودوا منها زاداً يحملهم في سفرهم إلى أوطانهم, ويكتنزون منها تحفاً لنفوسهم عملاً وفضلاً, محترزين من مصايدها ومعاطبها, ويتحققون أن العمر يسير بهم سير السفينة براكبها. فالناس في هذا العالم سفر, وأول منازله المهد, وآخرها اللحد, والوطن هو الجنة والنار. والعمر مسافة السفر, فسنوه مراحله, وشهوره فراسخه, وأيامه أمياله, وأنفاسه خطواته, وطاعته بضاعته, وأوقاته رءوس أمواله, وشهواته وأغراضه قطاع طريقه, وربحه الفوز بلقاء الله تعالى في دار السلام, مع الملك الكبير, والنعيم المقيم, وخسرانه البعد من الله تعالى مع الأنكال والأغلال والعذاب الأليم في دركات الجحيم
فالغافل في غير طاعة تقرّبه إلى الله زلفى, متعرض في يوم التغابن لغبينة, وحسرة ما لها منتهى, ولهذا الخطر العظيم, والخطب الهائل, شمر الموفقون عن ساق الجدّ, وودعوا بملاذ النفس, واغتنموا بقايا العمر, حرصاً في طلب القرب من الملك الجبار, والسعي إلى دار القرار.
واعلم...أنه لا نجاة إلا في لقاء الله تعالى, وأنه لا سبيل إلى اللقاء إلا بأن يموت العبد محباً لله تعالى, وعارفاً بالله سبحانه. وأن المحبة والأنس لا تحصل إلا من دوام الذكر والمواظبة عليه....فمن أراد....أن تترجح كفة حسناته, وتثقل موازين خيراته فليستوعب في الطاعة أكثر أوقاته, فإن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فأمره مخطر, ولكن الرجا غير منقطع, والعفو من كرم الله منتظر, فعسى الله تعالى أن يغفر له بجوده وكرمه.
فضيلة قيام الليل:
أما الآيات: فقوله تعالى: {( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل)} [المزمل:20] وقوله سبحانه وتعالى: ( {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} ) [السجدة:16] وقوله تعالى: ( {استعينوا بالصبر والصلاة } ) [البقرة:153]
ومن الأخبار: قوله صلى الله عليه وسلم: «( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد, يضرب مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد, فإن استيقظ وذكر الله تعالى انحلت عقدة, فإن توضأ انحلت عقدة, فإن صلى انحلت عقدة, فأصبح نشيطاً طيب النفس, وإلا أصبح خبيث النفس كسلان )» وفي الخبر أنه ذكر عنده رجل ينام كل الليل حتى يصبح فقال: «( ذاك رجل بال الشيطان في أذنه ) »
وفي الصحيح عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن من الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى خيراً إلا أعطاه الله إياه»
وقال صلى الله عليه وسلم: «( من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين, كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات ) »
وقال علية الصلاة والسلام : «( أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل ) »
قال المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تفطرت قدماه, فقيل له: أما قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً.
ومن الآثار: كان ابن مسعود رضي الله عنه, إذا هدأت العيون قام فيسمع له دوي كدوي النحل. قيل للحسن: ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوها ؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره.
الأسباب الميسرة لقيام الليل:
الأول: أن لا يكثر الأكل, فيكثر الشرب, فيغلبه النوم, ويثقل عليه القيام.
الثاني: أن لا يتعب نفسه بالنهار في الأعمال التي تعيا بها الجوارح, وتضعف بها الأعصاب, فإن ذلك أيضاً مجلبة للنوم.
الثالث: أن لا يترك القيلولة بالنهار, فإنها سنة للاستعانة على قيام الليل.
الرابع: أن لا يحتقب الأوزار بالنهار, فإن ذلك مما يقسي القلب, ويحول بينه وبين أسباب الرحمة. قال رجل للحسن: يا أبا سعيد, إني أبيت معافي, وأحب قيام الليل, وأعدّ طهوري, فما لي لا أقوم ؟ قال: ذنوبك قيدتك.
فالذنوب كلها تورث قساوة القلب, وتمنع من قيام الليل, وأخصها بالتأثير تناول الحرام. قال بعضهم: كم من أكلة منعت من قيام الليل.
وكما أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر, فكذلك الفحشاء تنهى عن الصلاة وسائر الخيرات.
الخامس: سلامة القلب من الحقد على المسلمين, وعن البدع, وعن فضول هموم الدنيا, فالمستغرق الهم بتدبير الدنيا لا يتيسر له القيام.
السادس: خوف يلزم القلب, مع قصر الأمل, فإنه إذا تفكر في أهوال الآخرة, ودركات جهنم طار نومه, وعظم حذره.
السابع: أن يعرف فضل قيام الليل بسماع الآيات والأخبار والآثار حتى يستحكم به رجاؤه وشوقه إلى ثوابه, فيهيجه الشوق لطلب المزيد والرغبة في درجات الجنان.
الثامن: وهو أشرف البواعث الحب لله...فإذا أحب الله تعالى أحب لا محالة...التلذذ بالمناجاة, فتحمله لذة المناجاة...على طول القيام.
كتبه/ فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
- التصنيف: