منزلة اليقظة, الفكرة, البصيرة, القصد, العزم, المحاسبة, التوبة

منذ 2022-02-18

من رغب عن إنفاق ماله لله وفي طاعته, ابتُلي بإنفاقه لغير الله وهو راغم, وكذلك من رغب عن التعب لله ابتُلي بالتعب في خدمة الخلق

                                   بسم الله الرحمن الرحيم

فوائد مختصرة من مدارج السالكين للعلامة ابن القيم:

منزلة اليقظة, الفكرة, البصيرة, القصد, العزم, المحاسبة, التوبة.

منزلة اليقظة

* أول منازل العبودية: اليقظة. وهي انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين. والله ما أنفع هذه الروعة ! وما أعظم قدرها وخطرها! وما أشدَّ إعانتها على السلوك! فمن أحسَّ بها فقد أحسَّ والله بالفلاح, وإلا فهو في سكرات الغفلة.

* النظر إلى أهل البلاء, وهم أهل الغفلة عن الله والابتداع في دين الله, فهذان الصنفان هم أهل البلاء حقاً, فإذا رآهم وعلِمَ ما هم عليه عظمَت نعمةُ الله عليه في قلبه, وصفت له, وعرف قدرها, فالضد يُظهرُ حسنه الضِّدُّ.

* من عرف قدر نفسه وحقيقتها وفقرها الذاتي إلى مولاها الحقِّ في كلِّ لحظةٍ ونفسٍ, عظمت عنده جنايةُ المخالفة لمن هو شديد الضرورة إليه في كلِّ لحظةٍ ونفسٍ. وإذا عرف حقارتها مع عِظَمِ قدرِ من خالفه عظُمت الجنايةُ عنده فشمرَّ في التخلُّص منها

* ما على العبد أضرُّ من ملك العادات له, وما عارض الكفار الرُّسل إلا بالعادات المستمرة المورثة لهم عن الأسلاف فمن لم يوطن نفسه على مفارقتها والخروج عنها والاستعداد للمطلوب منه فهو مقطوع, وعن فلاحه...ممنوع.

منزلة الفكرة

* إذا استيقظ أوجبت له اليقظة " الفكرة" وهي تحديق الفكر نحو المطلوب الذي قد استعد له مجملاً, ولما يهتد إلى تفصيله وطريق الوصول إليه.

*  كل من أعرض عن شيء من الحقِّ وجحده وقع في باطل مقابل ما أعرض عنه من الحق وجحده, ولا بد.

* من رغب عن العمل لوجه الله وحده ابتلاه الله بالعمل لوجوه الخلق, فرغب عن العمل لمن ضرُّه ونفعُه وموتُه وحياتُه ونشورُه وسعادتُه بيده, فابتلي بالعمل لمن لا يملك له شيئاً من ذلك.

* من رغب عن إنفاق ماله لله وفي طاعته, ابتُلي بإنفاقه لغير الله وهو راغم, وكذلك من رغب عن التعب لله ابتُلي بالتعب في خدمة الخلق, ولا بد, وكذلك من رغب عن الهدى بالوحي ابتُلي بكُناسة الآراء وزُبالة الأذهان, ووسخ الأفكار.   

منزلة البصيرة

* إذا صحت فكرته أوجبت له "البصيرة" وهي نور في القلب يُبصر به الوعد والوعيد, والجنة والنار, وما أعدَّ الله في هذه لأوليائه, وفي هذه لأعدائه.

* البصيرة: نور يقذفه الله في القلب, يرى به حقيقة ما أخبرت به الرسل, كأنه شاهد رأي عين, فيتحقق مع ذلك انتفاعه بما دعت إليه الرسل, وتضرره بمخالفتهم

*البصيرة تنبت في أرض القلب الفراسة الصادقة. وهي نور يقذفه الله في القلب يفرِّق به بين الحق والباطل والصادق والكاذب. قال تعالى ﴿ {إن في ذلك لآيات للمتوسمين} [الحجر75]قال مجاهد للمتفرسين وعلى حسب قوة البصيرة وضعفها تكون الفراسة

منزلة القصد

* إذا انتبه وأبصر أخذ في القصد وصدق الإرادة, وأجمع القصد والنية على سفر الهجرة إلى الله, وعلم وتيقن أنه لابد له منه, فأخذ في أهبة السفر وتعبئة الزاد, والتجرد عن عوائق السفر, وقطع العلائق التي تمنعه من الخروج

منزلة العزم

* إذا استحكم قصده صار عزماً جازماً مستلزماً للشروع في السفر مقروناً بالتوكل على الله قال تعالى: ﴿ {فإذا عزمت فتوكل على الله} ﴾ [آل عمران:159] والعقد الجازم على المسير, ومفارقة كل قاطع ومعوق, ومرافقة كلِّ معين ومُوصل.

منزلة المحاسبة

* المقيمَ في وطنه لا يتأتى منه السفر حتى يستيقظ من غفلته عن السفر, ثم يتبصر في أمر سفره وخطره وما فيه من المنفعة والمصلحة, ثم يفكِّر في أهبة السفر والتزود وإعداد عدته, ثم يعزم عليه, فإذا عزم عليه وأجمع قصده انتقل إلى منزلة المحاسبة.  

* قايس بين ما منَ الله وما منك فحينئذ يظهر لك التفاوتُ وتعلمُ أنه ليس إلا عفوه ورحمتهُ, أو الهلاك والعطب, وفي هذه المقايسة تعلم أنَّ الربَّ رب والعبد عبد, ويتبين لك حقيقة النفس وصفاتها, وعظمة جلال الربوبية, وتفرد الرب بالكمال والإفضال.

* أنت قبل هذه المقايسة جاهل بحقيقة نفسك وبربوبية فاطرها وخالقها, فإذا قايست ظهر لك أنها منبع كلِّ شرٍّ,...وأنه لولا فضلُ الله ورحمته بتزكيته سبحانه ما زكت أبداً, ولولا هداه ما اهتدت, ولولا إرشاده وتوفيقه لما كان لها وصول إلى الخير البتة.

* سوء الظن بالنفس, إنما احتاج إليه لأن حسن الظن بالنفس يمنع من كمال التفتيش ويُلبس عليه, فيرى المساوئ محاسن, والعيوب كمالاً,...ولا يسيءُ الظن بنفسه إلا من عرفها, ومن أحسن ظنه بها فهو من أجهل الناس بنفسه!

* كلُّ علمٍ صحبه عمل يرضيه سبحانه فهو منة, وإلا فهو حجة.

* كلُّ قوةٍ ظاهرة أو باطنةٍ صحبها تنفيذ لمرضاته وأوامره فهي منة, وإلا فهي حجة.

* كلُّ حال صحبه تأثير في نصرة دينه والدعوة إليه فهو منة, وإلا فهو حجة.

* كلُّ مالٍ اقترن به إنفاق في سبيل الله وطاعته, لا لطلب الجزاء ولا للشكور, فهو منة من الله عليه, وإلا فهو حجة.

* كلُّ فراغٍ اقترن به اشتغال بما يريد الرب من عبده فهو منة عليه, وإلا فهو حجة.

* كلُّ قبولٍ في الناس وتعظيم ومحبة, اتصل به خضوع للرب وذل وانكسار, ومعرفة بعيب النفس, والعمل وبذل النصيحة للخلق فهو منة, وإلا فهو حجة.

* كلُّ بصيرةٍ وموعظة وتذكير وتعريفٍ من تعريفات الحق سبحانه إلى العبد, اتصل به عبرة ومزيد في العقل والمعرفة والإيمان فهي منة, وإلا فهي حجة.

* فليتأمل العبد هذا الموضع العظيم الخطير, ويميّز بين مواقع المنة ومواقع الحجة, فما أكثر ما يلتبس ذلك على خواص الناس وأرباب السلوك, والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم.

* تعيرك لأخيك بذنبه أعظم إثماً من ذنبه وأشدُّ من معصيته, لما فيه من صولة الطاعة, وتزكية النفس وشكرها, والمناداة عليها بالبراءة من الذنب.

* رضا العبد بطاعته دليل على حسن ظنه بنفسه, وجهله بحقوق العبودية, وعدم علمه بما يستحقُّه الربُّ جلَّ جلالُه ويليق أن يعامل به.

* الرضا بالطاعة من رعونات النفس وحماقتها...وأرباب العزائم والبصائر أشدُ ما يكونون استغفاراً عقيب الطاعات لشهودهم تقصيرهم فيها وترك القيام بها كما يليق بجلاله وكبريائه.

* كم من مستدرج بالنعم وهو لا يشعر, مفتون بثناء الجهال عليه, مغرورٍ بقضاء الله حوائجه وستره عليه! وأكثرُ الخلق عندهم أن هذه الثلاثة علامةُ السعادة والنجاح. ﴿ {ذلك مبلغهم من العلم} [النجم:30]

* ذنب تذلُّ به لديه أحبُّ إليه من طاعة تُدلُّ بها عليه, وأنينُ المذنبين أحبُّ إليه من زجل المسبِّحين المُدلِّين! ولعل الله أسقاه بهذا الذنب دواءً استخرج به داء قاتلاً هو فيك ولا تشعر.

* فلله في أهل طاعته ومعصيته أسرار لا يعلمها إلا هو, ولا يطالعها إلا أهل البصائر, ولا يأمن كرَّات القدر وسطواته إلا أهل الجهل بالله, وقد قال تعالى لأعلم الخلق, وأقربهم إليه وسيلةً: ﴿ {ولولا أن ثبتناك لقد كدتَّ تركن إليهم شيئاً قليلاً}

منزلة التوبة

* منزلة التوبة أول المنازل وأوسطها وآخرها, فلا يفارقه العبد, ولا يزال فيه إلى الممات, وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به, ونزل به, فالتوبة هي بداية العبد ونهايته, وحاجته إليها في النهاية ضرورية, كما حاجته إليها في البداية كذلك.

* الفرحُ بالمعصية دليلُ شدة الرغبة فيها, والجهل بقدر من عصاه, والجهل بسوء عاقبتها وعظم خطرها, ففرحه بها غطى عليه ذلك كله, وفرحه بها أشدُّ ضرراً عليه من مواقعتها.

* المؤمن لا تتم لذته بمعصيته أبداً ولا يكمل بها فرحه بل لا يباشرها إلا والحزن مخالط لقلبه...ومتى خلا قلبه من هذا الحزن واشتدت غبطته وسروره فليتهم إيمانه, وليبكِ على موت قلبه, فإنه لو كان حياً لأحزنه ارتكابه للذنب, وغاظه, وصعب عليه.

* وأشدُّ من هذا كله: المجاهرة بالذنب مع تيقن نظر الرب جل جلاله من فوق عرشه إليه, فإن آمن بنظره إليه وأقدم على المجاهرة فعظيم, وإن لم يؤمن بنظره إليه واطلاعه عليه فكفر وانسلاخ من الإسلام بالكلية.

* قد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء, وعدم المبالاة, وترك الخوف, والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر, بل يجعلها في أعلى رتبها.

* النفاق الداء العضال, الذي يكون الرجل ممتلئاً منه, وهو لا يشعر, فإنه أمر يخفى على الناس, وكثيراً ما يخفى على من تلبس به, فيزعم أنه مصلح وهو مفسد.  

* تالله لقد قطع حوفُ النفاق قلوب السابقين الأولين, ولعلمهم بدِقّة وجلّه وتفاصيله وجُمله ساءت ظنونهم بأنفسهم حتى خشوا أن يكونوا من جملة المنافقين.

* التوبة المقبولة الصحيحة لها علامات: منها : أنه لا يزال الخوف مصاحباً له, لا يأمن طرفة عين, فخوفه مستمر إلى أن يسمع قول الرسل لقبض روحه: ﴿ {ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كُنتم تُوعدون } [فصلت:30] فهناك يزول الخوف.

*التوبة المقبولة الصحيحة لها علامات: منها: أن يكون بعد التوبة خيراً مما كان قبل التوبة

* من موجبات التوبة الصحيحة كسرة خاصة تحصل للقلب لا يشبهها شيء, ولا تكون لغير التائب, تكسر القلب بين يدي ربه كسرةً تامة قد أحاطت به من جميع جهاته, وألقته بين يدي ربه طريحاً ذليلاً خاشعاً.

* ما أصعب التوبة الصحيحة بالحقيقة ! وما أسهلها باللسان والدعوى ! وما عالج الصادقُ شيئاً أشقَّ عليه من التوبة الصادقة الخالصة, فلا حول ولا قوة إلا بالله.   

* من لم يتقطع قلبه في الدنيا على ما فرط حسرةً وخوفاً, تقطع في الآخرة إذا حقَّت الحقائق, وعاين ثواب المطيعين, وعقاب العاصين, فلا بدَّ من تقطُّع القلب إمّا في الدنيا وإمّا في الآخرة.

*العبد في الذنب له نظر إلى محل الجناية ومصدرها وهو النفس الأمارةُ بالسوء ويفيده نظره إليها أموراً منها أنها جاهلة ظالمة فيوجب له ذلك بذل الجهد في العلم النافع الذي يُخرجها به عن وصف الجهل والعمل الصالح الذي يُخرجها به عن وصف الظلم.

* العبد في الذنب له نظر إلى...الآمر له بالمعصية, المزين له فعلها, الحاضِّ له عليها وهو شيطانه الموكل به, فيفيده النظر إليه وملاحظته اتخاذه عدواً, وكمال الاحتراز منه والتحفظ واليقظة والانتباه لما يريده منه عدوه وهو لا يشعر

* أولياؤه المتقون إذا شاهدوا أحوال أعدائه ومقته لهم, وغضبه عليهم, وخذلانه لهم, ازدادوا له خضوعاً وذُلاً وافتقاراً وانكساراً وبه استعانةً, وإليه إنابةً, وعليه توكلاً, وفيه رغبةً ومنه رهبةً وعلموا أنه لا ملجأ لهم منه إلا إليه, وأنه لا يعيذهم من بأسه إلا هو.

*العبد إذا تيقن أن الضر والنفع والهدى والضلال كل ذلك بيد الله لا بيد غيره, وأنه الذي يقلب القلوب ويصرفها كيف يشاء وأنه لا موفق إلا من وفقه الله وأعانه اتخذه وحده إلها ومعبودا فكان أحب إليه من كل ما سواه وأخوف عنده من كل ما سواه.

* من أعرض عن ذكره الذي أنزله فله من ضيق الصدر ونكد العيش وكثرة الخوف وشدة الحرص والتعب على الدنيا والتحسر على فواتها قبل حصولها وبعد حصولها والآلام التي في خلال ذلك ما لا يشعر به القلب لسكرته وانغماسه في السكر.   

* قلوب أهل البدع, والمعرضين عن القرآن, وأهل الغفلة عن الله, وأهل المعاصي في جحيم قبل الجحيم الكبرى, وقلوب الأبرار في نعيم قبل النعيم الأكبر, ﴿ {إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم} [الانفطار:13-14] هذا في دورهم الثلاثة.

* لأهل الذنوب ثلاثة أنهار عظام يتطهرون بها في الدنيا, فإن لم تفِ بطهرهم طُهروا في نهر الجحيم يوم القيامة: نهر التوبة النصوح, ونهر الحسنات المستغرقة للأوزار المحيطة بها, ونهر المصائب العظيمة المكفرة.

* جعل الله تعالى للحسنات والطاعات آثاراً محبوبة لذيذة طيبة, لذتها فوق لذة المعصية بأضعاف مضاعفة, لا نسبة لها إليها, وجعل للسيئات والمعاصي آلاماً وآثاراً مكروهة وحزازات تُربى على لذة تناولها بأضعاف مضاعفة.

* آثار الحسنات والسيئات في القلوب والأبدان والأموال أمر مشهود في العالم, لا ينكره ذو عقل سليم...وشهود العبد هذا في نفسه وفي غيره وتأمله ومطالعته مما يقوى إيمانه بما جاءت به الرسل, وبالثواب والعقاب.

كلما طالع العبد منته سبحانه قبل الذنب وفي حال مواقعة الذنب وبعد الذنب, وبره به وحلمه عنه وإحسانه إليه, هاجت من قلبه لواعج محبته والشوق على لقائه.

القلوب مجبولة على حبِّ من أحسن إليها, وأي إحسان أعظم من إحسان من يبرزه العبد بالمعاصي وهو يمدُّه بنعمه, ويعامله بألطافه, ويسبل عليه ستره, ويحفظه من خطفات أعدائه المترقبين له أدنى عثرة ينالون منه بها بغيتهم...ويحول بينهم وبينه؟

        كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ  

  • 6
  • 1
  • 4,612

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً