قلب المؤمن عند الشدائد

منذ 2023-02-09

الناس يتفاوتون عند الشدائد بحسب إيمانهم وارتباطهم بخالقهم ومولاهم سبحانه، فقلوب المؤمنين دائما متعلقة بالله تعلم أن للكون ربا يدبره، وأنه يحوط المؤمنين برعايته وعنايته، وأن ما يدبره الله لعبده هو الخير

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فقد جعل الله سبحانه من سننه في خلقه أن الحياة لا تصفو من كدر:
{وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]. أي: نختبركم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، ونجازيكم بأعمالكم.

وكلما كان العبد في إيمانه أقوى كلما كان ابتلاؤه أشد واختباره أصعب. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أشدُّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ، ثم الأمثلُ فالأمثلُ، يُبتلى الرجلُ على حسَبِ دينِه، فإنَّ كان في دينِه صُلْبًا، اشْتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينِه رقةٌ ابْتُليَ على قدْرِ دينِه، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتى يتركَه يمشي على الأرضِ وما عليه خطيئةٌ» (أخرجه أحمد الترمذي).

وكم ابتلي الأنبياء والمرسلون، وكم تحملوا من المشاق في سبيل الله تعالى، وكذلك أتباعهم من المؤمنين ابتلوا وتعرضوا للشدائد: {الم.أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ.وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت1-3]. وكما قال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]. وكما قال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].

والناس يتفاوتون عند الشدائد بحسب إيمانهم وارتباطهم بخالقهم ومولاهم سبحانه، فقلوب المؤمنين دائما متعلقة بالله تعلم أن للكون ربا يدبره، وأنه يحوط المؤمنين برعايته وعنايته، وأن ما يدبره الله لعبده هو الخير:
{وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
إن قلب المؤمن عند الشدائد متعلق بالله يرجو ثوابه، كيف لا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
«إنَّ عِظمَ الجزاءِ مع عِظمِ البلاءِ، وإنَّ اللهَ إذا أحبَّ قومًا ابتَلاهم، فمَن رَضي فله الرِّضَى، ومَن سخِط فله السَّخطُ» (رواه الترمذي). إنه يرجو ثواب الصابرين وما بشرهم الله تبارك وتعالى به حين قال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155-157].

وَكُنْ صَبُوْرًا عَلى الْأيَامِ مُحْتَسِبـاً .. جَلْداً قَوِيًا عِنْدَ الْحَادِثِ الْجَلَـــــــلِ
فَالدّهْرُ مَهَمَا قَسا تَمْضِي شَدَائِدُهُ.. فَكَابِدْ مَصَائِبَهُ بِالصّبْرِ وَالْأَمَــــــــلِ
مُتَوَكِلاً رَاجِيًا أفْضَالَ خَالِقِنَـــــــا.. فَهُوَ الْكَرِيمُ وَإنْ قَصَّرْتَ فِي الْعَمَلِ


والمؤمن عندما يرجو ثواب الله فإنه أيضا ينتظر من الله تعالى الفرج وهو موقن أنه لن يغلب عسر يسرين: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا.إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5-6]. فيدعو ربه ويتضرع إليه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو عند الكرب: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» (رواه البخاري).


وعن أسماء بنت عُميس رضي الله عنها قالت: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ أَوْ فِي الْكَرْبِ؟ اللَّهُ اللَّهُ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» (رواه ابن ماجه).

وعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» (رواه أبو داوود). وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ» (رواه أحمد).

وإذا تأملت هذه الأدعية النبوية عند الشدائد والكربات لوجدت التوحيد والإيمان أساسها ومبناها، قال ابن القيم رحمه الله: (التوحيد مفزع أعدائه وأوليائه، فأمَّا أعداؤه فينجيهم من كرب الدنيا وشدائدها: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65]، وأما أولياؤه فينجيهم من كربات الدنيا والآخرة وشدائدها؛ ولذلك فزع إليه يونس، فنجَّاه الله من تلك الظلمات، وفزع إليه أتباع الرسل فنجوا به مما عُذِّب به المشركون في الدنيا وما أعِدَّ لهم في الآخرة.

ولما فزع إليه فرعون، عند معاينة الهلاك وإدراك الغرق، لم ينفعه؛ لأن الإيمان عند المعاينة لا يقبل، هذه سنة الله في عباده، فما دُفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد، ولذلك كان دعاء الكرب بالتوحيد، ودعوة ذي النون التي ما دعا بها مكروب إلا فرَّج الله كربه بالتوحيد، فلا يُلقي في الكُرَب العظام إلا الشرك ، ولا ينجِّي منها إلا التوحيد، فهو مفزَع الخليقة وملجؤها وحصنها وغياثها. وبالله التوفيق).

إن هذا الارتباط الوثيق بالله تعالى والإيمان به يهون على صاحبه كل شدة، وتكون عاقبة أمره خيرا:
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ. إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 173-175].


وإن ما يلقاه المؤمنون من شدة وعناء وآلام ومشقة يدخره الله لهم حسنات يفرحون بها يوم يلقونه، أو يكفر الله بها عنهم من سيئاتهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِن مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أذًى، مَرَضٌ فَما سِوَاهُ، إلَّا حَطَّ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ، كما تَحُطُّ الشَّجَرَةُ ورَقَهَا» (رواه البخاري).


إن ثبات المؤمن على إيمانه ومبادئه حتى مع الشدائد التي تصيبه تجعل منه أسوة وقدوة يقتدى بها، وتجعل مبادئه وقيمه تسود وتنتشر في الأرض ببركة صدقه وصبره وثباته: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]. قال بعض العلماء: بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين.


إن دعاء المؤمنين ورجاءهم لن يذهب سدى، ولن يضيع هباء، فإن الله يسمعه، ويستجيبه، لكنه سبحانه يختار لعباده المؤمنين أفضل إجابة، بأفضل حال، فربما أخر لهم ذلك رفعا لدرجاتهم، وربما دفع عنهم بدعائهم شرا أكبر قد يحصل لهم في دينهم، وربما قربهم إليه بذلك الدعاء فنالوا بدعائهم أغلى وأعلى ما يتمناه عبد مؤمن من محبة الله سبحانه والقرب منه.
 

إننا بحاجة مع الصبر ورجاء الأجر إلى حسن الظن بالله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي» (رواه البخاري).


نسأل الله تعالى أن يحفظ عباده المؤمنين بحفظه وأن يكلأهم برعايته وأن يصرف عنهم كل مكروه وسوء، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
 

  • 4
  • 0
  • 1,421

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً