ازهد في الدنيا يحبك الله

منذ 2023-11-30

الإنسان الذي يشتغل بالدنيا ويؤجل الأعمال الصالحة إلى أن يفرغ لا يمكن أبداً أن يفرغ؛ لأن آمال الدنيا لا تنتهي، ولا يقضي أحد وطره منها أبداً، فعليه أن يجعل الهموم هماً واحداً، وهو إرضاء الله عز وجل

روى أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما طلعت شمس قط إلا بجنبتيها ملكان يناديان يُسمعان مَن على الأرض غير الثقلين: أيها الناس! هلموا إلى ربكم، ما قل وكفى خير مما كثر وألهى» . (رواه أحمد وغيره، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح).

وفي هذا الحديث الدعوة إلى عدم الانشغال بالدنيا، والاكتفاء منها بالقليل، فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى.

إن الناظر لأحوالنا يجد الكثير منا قد جعل الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه، يعدو وراءها ويلهث في سبيل تحصليها، كلما نال منها شيئاً ازداد طلبه لها وجريه وراءها علّه ينال منها أشياء أخرى، كما قال الشاعر:                               

 فما قضى أحد منها مَنَالتَه   ولا انتهى أرب إلا إلى أرب


فالإنسان الذي يشتغل بالدنيا ويؤجل الأعمال الصالحة إلى أن يفرغ لا يمكن أبداً أن يفرغ؛ لأن آمال الدنيا لا تنتهي، ولا يقضي أحد وطره منها أبداً، فعليه أن يجعل الهموم هماً واحداً، وهو إرضاء الله عز وجل ، فيتولى الله سبحانه وتعالى أمره ويكفيه أمر آخرته ودنياه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جعل الهمومَ همًّا واحدًا همَّ المعادِ كفاه اللهُ همَّ دنياه، ومن تشعَّبتْ به الهمومُ أحوالَ الدُّنيا لم يُبالِ اللهُ عزَّ وجلَّ في أيِّ أوديَتِه هلَك» (رواه ابن ماجه).

والحقيقة التي لا مراء فيها أن القلب لا يتسع للدنيا والآخرة معاً، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى» (رواه أحمد).

ويبقى السؤال: هل معنى ذلك أن يترك العبد الدنيا فلا يتكسب ولا يسعى ولا يأخذ بالأسباب المشروعة؟

لا شك أن هذا المعنى ليس مقصودا أبدا، بل هو فهم خاطئ لقضية الزهد؛ فإن الزهد يعني عدم التعلق بالدنيا، وعدم تقديم الدنيا على الآخرة عند التعارض، أما الأخذ بالأسباب والسعي في الأرض والتكسب فذلك الذي أمر به الشرع، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15]، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز» (رواه مسلم). ولما سئل صلى الله عليه وسلم : أي الكسب أفضل؟ قال: «عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور» (رواه الطبراني). وقال: «لأَن يأخذَ أحدُكُم أحبُلَهُ فيأتيَ الجبلَ ، فيجيءَ بحزمةٍ من حَطبٍ على ظَهْرِهِ فيبيعَها ، فيستغنيَ بثمنِها ، خيرٌ لَهُ من أن يسألَ النَّاسَ أعطَوهُ أو منَعوه» (رواه أحمد وابن ماجه).

هذا هو الفهم الصحيح للزهد أن يسعى العبد في هذه الدنيا ويأخذ بالأسباب ويتكسب وفي نفس الوقت لا يتعلق قلبه بالدنيا ولا يضيع فرائض الله ولا ينتهك محارم الله بل يحرص على ما يقربه من رضوان ربه والجنة ويباعده عن سخطه تعالى والنار.

وقد عاب الشرع على من انشغل بالدنيا فصارت شغله الشاغل وغايته التي من أجلها يسعى، يفرح بزيادتها ويحزن لنقصانها وفوات شيء منها، لكنه لا يتأثر إذا ضيع فريضة أو ضعف الإيمان في قلبه.

قال صلى الله عليه وسلم: «تَعِسَ عبدُ الدِّينارِ، والدِّرْهَمِ، والقَطِيفَةِ، والخَمِيصَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وإنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ» (رواه البخاري).

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (فاطر: 5). وقال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20].

قال السعدي رحمه الله: ( يخبر تعالى عن حقيقة الدنيا وما هي عليه، ويبين غايتها وغاية أهلها، بأنها لعب ولهو، تلعب بها الأبدان، وتلهو بها القلوب، وهذا مصداقه ما هو موجود وواقع من أبناء الدنيا، فإنك تجدهم قد قطعوا أوقات أعمارهم بلهو القلوب، والغفلة عن ذكر الله وعما أمامهم من الوعد والوعيد، وتراهم قد اتخذوا دينهم لعبا ولهوا، بخلاف أهل اليقظة وعمال الآخرة، فإن قلوبهم معمورة بذكر الله، ومعرفته ومحبته، وقد أشغلوا أوقاتهم بالأعمال التي تقربهم إلى الله، من النفع القاصر والمتعدي.

وقوله: {وَزِينَةً} أي: تزين في اللباس والطعام والشراب، والمراكب والدور والقصور والجاه. وغير ذلك {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} أي: كل واحد من أهلها يريد مفاخرة الآخر، وأن يكون هو الغالب في أمورها، والذي له الشهرة في أحوالها، {وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} أي: كل يريد أن يكون هو الكاثر لغيره في المال والولد، وهذا مصداقه، وقوعه من محبي الدنيا والمطمئنين إليها.

بخلاف من عرف الدنيا وحقيقتها، فجعلها معبرا ولم يجعلها مستقرا، فنافس فيما يقربه إلى الله، واتخذ الوسائل التي توصله إلى الله وإذا رأى من يكاثره وينافسه بالأموال والأولاد، نافسه بالأعمال الصالحة.

ثم ضرب للدنيا مثلا بغيث نزل على الأرض، فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها، وأعجب نباته الكفار، الذين قصروا همهم ونظرهم إلى الدنيا جاءها من أمر الله ما أتلفها فهاجت ويبست، فعادت على حالها الأولى، كأنه لم ينبت فيها خضراء، ولا رؤي لها مرأى أنيق، كذلك الدنيا، بينما هي زاهية لصاحبها زاهرة، مهما أراد من مطالبها حصل، ومهما توجه لأمر من أمورها وجد أبوابه مفتحة، إذ أصابها القدر بما أذهبها من يده، وأزال تسلطه عليها، أو ذهب به عنها، فرحل منها صفر اليدين، لم يتزود منها سوى الكفن، فتبا لمن أضحت هي غاية أمنيته ولها عمله وسعيه.

وأما العمل للآخرة فهو الذي ينفع، ويدخر لصاحبه، ويصحب العبد على الأبد، ولهذا قال تعالى: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} أي: حال الآخرة، ما يخلو من هذين الأمرين: إما العذاب الشديد في نار جهنم، وأغلالها وسلاسلها وأهوالها لمن كانت الدنيا هي غايته ومنتهى مطلبه، فتجرأ على معاصي الله، وكذب بآيات الله، وكفر بأنعم الله.

وإما مغفرة من الله للسيئات، وإزالة للعقوبات، ورضوان من الله، يحل من أحله به دار الرضوان لمن عرف الدنيا، وسعى للآخرة سعيها.
فهذا كله مما يدعو إلى الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، ولهذا قال: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} أي: إلا متاع يتمتع به وينتفع به، ويستدفع به الحاجات، لا يغتر به ويطمئن إليه إلا أهل العقول الضعيفة الذين يغرهم بالله الغرور).

وعن سهل بن سعد السّاعديّ- رضي الله عنه- قال: أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم رجل فقال: يا رسول الله، دلّني على عمل، إذا أنا عملته، أحبّني الله، وأحبّني النّاس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ازهد في الدّنيا، يحبّك الله، وازهد فيما في أيدي النّاس، يحبّوك» (رواه الترمذي وابن ماجه).

وقد عاش صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا زاهدا فكان يدعو أن يجعل الله رزق آل محمد قوتا أو كفافا، وكان بيته يمر عليه الشهر لا يوقد فيه نار إنما طعامهم التمر والماء، وكان فراشه من جلد حشوه ليف، ونام رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على حَصِيرٍ فقام وقد أَثَّرَ في جَنْبِهِ فقال بعض الصحابة: يا رسولَ اللهِ لو اتَّخَذْنا لك وِطَاءً فقال: «ما لِي وللدنيا ، ما أنا في الدنيا إلا كراكِبٍ استَظَلَّ تحتَ شجرةٍ ، ثم راح وتَرَكَها» (رواه الترمذي).

أما أصحابه الذين رباهم على عينه فقد كانوا أزهد الناس في الدنيا بعده صلى الله عليه وسلم، هذا عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- يقول: (ارتحلت الدّنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكلّ واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدّنيا؛ فإنّ اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل).

وعنه- رضي الله عنه- أنّه قال: (طوبى للزّاهدين في الدّنيا، والرّاغبين في الآخرة، أولئك قوم اتّخذوا أرض الله بساطا، وترابها فراشا، وماءها طيبا، والكتاب شعارا، والدّعاء دثارا، ورفضوا الدّنيا رفضا).

وعن عروة بن الزّبير- رضي الله عنهما- قال: (ما كانت عائشة أمّ المؤمنين تستجدّ ثوبا حتّى ترقّع ثوبها وتنكّسه (تجعل ما كان ظاهرا باطنا وما كان باطنا ظاهرا). قال: ولقد جاءها يوما من عند معاوية ثمانون ألفا، فما أمسى عندها درهم، قالت لها جاريتها: فهلّا اشتريت لنا منه لحما بدرهم؟. قالت: لو ذكّرتني لفعلت).

وقال ابن مسعود- رضي الله عنه- (الدّنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا علم له).

وكتب أبو الدّرداء رضي الله عنه إلى بعض إخوانه: (أمّا بعد، فإنّي أوصيك بتقوى الله، والزّهد في الدّنيا، والرّغبة فيما عند الله، فإنّك إذا فعلت ذلك أحبّك الله لرغبتك فيما عنده، وأحبّك النّاس لتركك لهم دنياهم والسّلام).

وكان العلماء والصالحون يوصون بالزهد ويبينون حقيته، هذا سفيان الثّوريّ- رحمه الله- يقول: (الزّهد في الدّنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباءة).

عن محمّد بن كعب القرظيّ: قال: (إذا أراد الله بعبد خيرا أزهده في الدّنيا، وفقّهه في الدّين، وبصّره عيوبه، ومن أوتيهنّ فقد أوتي خيرا كثيرا في الدّنيا والآخرة).

وعن الرّبيع بن سليمان عن الشّافعيّ رحمه الله- قال: (يا ربيع عليك بالزّهد، فللزّهد على الزّاهد أحسن من الحليّ على المرأة النّاهد).
وعن محمّد بن كعب القرظيّ: قال: (إذا أراد الله بعبد خيرا أزهده في الدّنيا، وفقّهه في الدّين، وبصّره عيوبه، ومن أوتيهنّ فقد أوتي خيرا كثيرا في الدّنيا والآخرة).

‌‌مما يعين على الزهد:
مما يعين على الزّهد ويصححه ثلاثة أشياء:
أحدها: علم العبد أنّ الدّنيا ظلّ زائل، وخيال زائر، فهي كما قال تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً} [الحديد: 20] وسمّاها الله مَتاعُ الْغُرُورِ ونهى عن الاغترار بها، وأخبرنا عن سوء عاقبة المغترّين، وحذّرنا مثل مصارعهم، وذمّ من رضي بها، واطمأنّ إليها.

الثّاني: علمه أنّ وراءها دارا أعظم منها قدرا، وأجلّ خطرا، وهي دار البقاء، فالزّهد في الدنيا لكمال الرّغبة فيما هو أعظم منها.

والثّالث: معرفته وإيمانه الحقّ بأنّ زهده فيها لا يمنعه شيئا كتب له منها، وأنّ حرصه عليها لا يجلب له ما لم يُقض له منها، فمتى تيقّن ذلك ثلج له صدره، وعلم أنّ مضمونه منها سيأتيه.

فهذه الأمور الثّلاثة تسهّل على العبد الزّهد في الدّنيا وتثبّت قدمه في مقامه.

نسأل الله تعالى أن يرزقنا الزهد في الدنيا والرغبة الصادقة في الدار الآخرة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

  • 5
  • 0
  • 1,028

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً