من درر العلامة ابن القيم عن البلاء

منذ 2025-01-27

فالبلاء من المواضيع التي تكلم عليها العلامة ابن القيم, رحمه الله في عدد من كتبه وقد جمعتُ بفضل من الله وكرمه بعضًا مما ذكره

 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين, أما بعد: فالبلاء من المواضيع التي تكلم عليها العلامة ابن القيم, رحمه الله في عدد من كتبه وقد جمعتُ بفضل من الله وكرمه بعضًا مما ذكره,

                      [ عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين ]

  • البلاء اختبار:

الغنى والفقر والبلاء والعافية فتنة وابتلاء من الله لعبده يمتحن بها صبره وشكره

  • العاقل لا يجعل المصيبة مصيبتين:

الكريم ينظر إلى المصيبة, فإن رأى الجزع يردُّها ويدفعها فهذا قد ينفعه الجزع, وإن كان الجزع لا ينفعه فإنه يجعل المصيبة مصيبتين.   

                          [ كتاب: الكلام على مسألة السماع ]

  • لا يرفع البلاء إلا بتوبة:

قوله تعالى: {﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ ﴾} [الرعد:11] فدلالة لفظها أنه لا يغير نعمه التي أنعم بها على عباده حتى يُغيروا طاعته بمعصيته, كما قال في الآية الأخرى: { ﴿ ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمۡ يَكُ مُغَيِّرٗا نِّعۡمَةً أَنۡعَمَهَا عَلَىٰ قَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِم ﴾} [الأنفال:53] وإشارتها أنه إذا عاقب قوماً وابتلاهم, لم يغير ما بهم من العقوبة والبلاء حتى يغيروا ما بأنفسهم من المعصية إلى الطاعة, كما قال العباس عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نزل بلاء إلا بذنب, ولا رُفع إلا بتوبة

                    [ كتاب: مدارج السالكين في منازل السائرين ]

  • النظر إلى أهل البلاء:

أهل الغفلة عن الله والابتداع في دين الله, فهذان الصنفان هم أهل البلاء حقاً, فإذا رآهم وعلِمَ ما هم عليه عظمَت نعمةُ الله عليه في قلبه, وصفت له, وعرف قدرها.

  • طمأنينة المبتلى إلى ثواب الله

المبتلى إذا قويت مشاهدته للمثوبة سكن قلبه واطمأنَّ بمشاهدة العوض حتى يستلذ بالبلاء ويراه نعمه, ولا يستبعد هذا فكثير من العقلاء إذا تحقق نفع الدواء الكريه فإنه يكاد يلتذَّ به, وملاحظته لنفعه تغنيه عن تألمه بمذاقه.

  • ثلاثة أشياء تبعث على الصبر على البلاء: 

ثلاثة أشياء تبعث على الصبر على البلاء أحدها ملاحظة حسن الجزاء وعلى حسب ملاحظته والوثوق به ومطالعته يخفُّ حملُ البلاء لشهود العوض.الثاني: انتظار روح الفرج يعني راحته ونسيمه ولذته, فإن انتظاره ومطالعته وترقُّبه يخفف حمل المشقة, ولا سيما عند قوة الرجاء والقطع بالفرج الثالث: تهوين البلية بأمرين أحدهما: أن يعدَّ نعم الله عليه وأياديه عنده, فإن عجز عن عدِّها وأيس من حصرها, هان عليه ما هو فيه من البلاء, ورآه بالنسبة إلى أيادي الله ونعمه كقطرةٍ من بحر.الثاني: أن يذكر سوالف النِّعم التي أنعم الله بها عليه, فهذا يتعلق بالماضي, وتعداد أيادي المنن يتعلق بالحال.

  • لذة المحبة تُنسي المصائب:

المحب يجد في لذة المحبة ما يُنسيه المصائب, ولا يجد من مسها ما يجد غيره, حتى كأنه قد اكتسى طبيعة ثانية ليست بطبيعة الخلق, بل يقوى سلطانُ المحبة, حتى يلتذّ بكثير من المصائب أعظم من التذاذ الخَلِي بحظوظه وشهواته. 

  • من أوجه استواء النعمة والبلية في الرضا بهما:

وإنما تستوي النعمة والبلية عنده في الرضا بهما لوجوهٍ:

أحدها: أنه جازم بأنه لا تبديل لكلمات الله ولا راد لحكمه, وأنه ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن, فهو يعلم أن كلاًّ من البلية والنعمة بقضاءٍ سابقٍ وقدرٍ حتم.

الثاني: أنه محب, والمحب الصادق من رضي بما يعامله به حبيبه.

الثالث: أنه جاهل بعواقب الأمور, وسيده أعلم بمصلحته وما ينفعه.

                      [ كتاب: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان ]

  • ما يصيب العبد من مصائب فبسبب ذنوبه:

إذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله أو بإداله عدُوه عليه, فإنما هي بذنوبه, إما بترك واجبٍ, أو فعل محرمٍ, وهو من نقص إيمانه.

وبهذا يزول الإشكال الذي يورده كثير من الناس على قوله تعالى: {﴿ وَلَن يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لِلۡكَٰفِرِينَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ سَبِيلًا﴾}{ [النساء:141]فالتحقيق أن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل, فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم, فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوه من طاعة الله تعالى.

فالمؤمن عزيز عالٍ مُؤيد منصور مكفي مدفوع عنه بالذات أين كان, ولو اجتمع عليه من بأقطارها, إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته, ظاهراً, وباطناً.

  • من رحمة أرحم الراحمين تسليط أنواع البلاء على العبد:

من إتمام رحمة أرحم الراحمين: تسليط أنواع البلاء على العبد, فإنه أعلم بمصلحته, فابتلاؤه له وامتحانه, ومنعه من كثير من أعراضه وشهواته: من رحمته به, ولكن العبد لجهله وظُلمه يتهم ربه, ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه.

  • من حِكَم ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم عليهم:

إن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم وقهرهم وكسرهم لهم أحياناً, فيه حِكَم عظيمة, لا يعلمها على التفصيل إلا الله عز وجل.

فمنها: استخراج عبوديتهم, وذُلهم لله, وانكسارهم له, وافتقارهم إليه, وسؤالهم نصرهم على أعدائهم, ولو كانوا دائماً منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا, ولو كانوا دائماً مقهورين مغلوبين منصوراً عليهم عدوهم لما قامت للدين قائمة, ولا كانت للحق دولة, فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرفهم بين غلبتهم تارة, وكونهم مغلوبين تارةً, فإذا غُلبوا تضرعوا إلى ربهم, وأنابوا إليه, وخضعوا له, وانكسروا له, وتابوا إليه, وإذا غَلَبوا أقاموا دينه وشعائره, وأمروا بالمعروف, ونهوا عن المنكر, وجاهدوا عدوه, ونصروا أولياءه.

ومن رحمته: أن نغّص عليهم الدنيا وكدَّرها, لئلا يسكنوا إليها, ولا يطمئنوا إليها, ويرغبوا في النعيم المقيم في دار جواره, فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان, فمنعهم ليُعطيهُم, وابتلاهم ليُعافهُم, وأماتهم ليُحييهم.

                            [ كتاب: الروح ]

  • سهام البلاء: 

وقد جعل الله سبحانه نفوس المطمئنين إلى سواه أغراضاً لسهام البلاء, ليعلم عباده وأولياءه أن المتعلق بغيره مقطوع, والمطمئن إلى سواه عن مصالحه ومقاصده مصدود وممنوع.

                    [ كتاب: طريق الهجرتين وباب السعادتين ]                          

إذا ابتلى الله عبده بشيء من أنواع البلايا والمحن فإن رده ذلك الابتلاء والامتحان إلى ربه, وجمعه عليه, وطرحه ببابه, فهو علامة سعادته وإرادة الخير به, والشدة بتراء لا دوام لها وإن طالت, فتقلع عنه حين تقلع, وقد عُوِّض منها أجلَّ عوض وأفضله, وهو رجوعه إلى الله بعد أن كان شارداً عنه, وإقباله عليه بعد أن كان نائياً عنه, وانطراحه على بابه وقد كان عنه معرضاً, وللوقوف على أبواب غيره متعرضاً.

وكانت البلية في حق هذا عين النعمة, وإن ساءته, وكرهها طبعه, ونفرت منها نفسه.

فربما كان مكروه النفوس إلى       محبوبها سبباً ما مثله  سبـب

وقوله تعالى في ذلك هو الشفاء والعصمة: {﴿ عَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡـٔٗا وَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيۡـٔٗا وَهُوَ شَرّٞ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ﴾} {} [البقرة:216]

وإن لم يرده ذلك البلاء إليه, بل شرد قلبه عنه, ورده إلى الخلق, وأنساه ذكر ربه, والضراعة إليه, والضراعة إليه, والتذلل بين يديه, والتوبة والرجوع إليه, فهو علامة شقاوته وإرادة الشرّ به, فهذا إذا أقلع عنه البلاء رده إلى حكم طبيعته, وسلطان شهواته, ومرحه وفرحه, فجاءت طبيعتهُ عند القدرة بأنواع الأشر والبطر والإعراض عن شكر المنعم عليه بالسراء, كما أعرض عن ذكره والتضرع إليه في الضراء, فبليةُ هذا وبال عليه وعقوبة ونقص في حقه, وبلية الأول تطهير له ورحمة وتكميل. وبالله التوفيق.

أسباب الصبر على البلاء

والصبر على البلاء ينشأ من أسباب عديدة:

أحدها: شهود جزائها وثوابها.

الثاني: شهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها.

الثالث: شهود القدر السابق الجاري بها, وأنها مقدرة في أم الكتاب قبل أن تخلق, فلا بد منها, فجزعه لا يزيده إلا بلاء.

الرابع: شهوده حق الله عليه في تلك البلوى, وواجبه فيها, وهو الصبر بلا خلاف بين الأمة...فهو مأمور بأداء حق الله وعبوديته عليه في تلك البلوى, فلا بد له منه, وإلا تضاعفت عليه.

الخامس: شهود ترتبها عليه بذنبه, كما قال تعالى:  {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } [ [الشورى:30] وهذا عام في كل مصيبة دقيقة وجليلة, فيشغله شهود هذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في رفع تلك المصيبة.

السادس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسمها, وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه

السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواء نافع ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته الرحيم به, فليصبر على تجرعه, ولا يتقيأه بتسخطه وشكواه, فيذهب نفعه باطلاً.

الثامن: أن يعلم أن في عقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم ما لا يحصل بدونه, فإذا طالعت نفسه كراهية هذا الدواء ومرارته فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره, قال الله تعالى: {﴿ عَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡـٔٗا وَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيۡـٔٗا وَهُوَ شَرّٞ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ﴾} [البقرة:216]

التاسع: أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله, وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه, فيتبين حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا ؟ فإن ثبت اصطفاه واجتباه...وجعل أولياه وحزبه خدماً له وعوناً له, وإن انقلب على وجهه ونكص على عقبيه طُرِدَ...وتضاعفت عليه المصيبة, وهو لا يشعر في الحال بتضاعفها وزيادتها, ولكن سيعلم بعد ذلك بأن المصيبة في حقه صارت مصائب, كما يعلم الصابر أن المصيبة في حقه صارت نعماً عديدة, وما بين هاتين المنزلتين المتباينتين إلا صبر ساعة, وتشجيع القلب في تلك الساعة

العاشر: أن يعلم أن سبحانه يربى عبده على السراء والضراء, والنعمة والبلاء, فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال, فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال, وأما عبد السراء والعافية الذي يعبد الله على حرف, فإن أصابه خير اطمأن به, وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه, فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته.

فلو علم العبد أن نعمه الله عليه في البلاء ليست بدون نعمته عليه في العافية لشغل قلبه بشكره ولسانه بقوله: ( اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ) وكيف لا يشكر من قيض له ما يستخرج به خبثه ونحاسه, ويُصيره تبراً خالصاً يصلح لمجاورته والنظر إليه في داره ؟

فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبر على البلاء, فإن قويت أثمرت الرضا والشكر, فنسأل الله أن يسترنا بعافيته, ولا يفضحنا بابتلائه بمنه وكرمه.

                          [ كتاب: مفتاح دار السعادة ]

  • من رحمة الله وبره بعباده كسرهم بأنواع المصائب والمحن لينالوا رضاءه ومحبته:

ومن تدبر حكمته سبحانه, ولطفه وبرَّه بعباده وأحبابه, في كسره لهم ثم جبره بعد الانكسار, كما يكسر العبد بالذنب ويُذلُّه به ثم يجبرُه بتوبته عليه ومغفرته له, وكما يكسره بأنواع المصائب والمحن ثم يجبره بالعافية والنعمة انفتح له باب عظيم من أبواب معرفته ومحبته, وعَلِمَ أنه أرحمُ بعباده من الوالدة بولدها, وأن ذلك الكسر هو نفس رحمته به وبره ولطفه, وهو أعلم بمصلحة عبده منه, ولكن العبد لضعف بصيرته ومعرفته بأسماء ربه وصفاته لا يكاد يشعر بذلك, ولا يُنالُ رضا المحبوب وقربه والابتهاج والفرح بالدنو منه والزلفى لديه إلا على جسر من الذل والمسكنة, وعلى هذا قام أمرُ المحبة, فلا سبيل إلى الوصول إلى المحبوب إلا بذلك.

  • على جسر المحنة والابتلاء يصل العبد إلى الغايات المحمودة

لله سبحانه من الحِكم في ابتلائه أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين ما تتقاصر عقولُ العالمين عن معرفته, وهل وصل من وصل إلى الغايات المحمودة والنهايات الفاضلة إلا على جسر المحنة والابتلاء.

  • أهل الابتلاء على الحقيقة:

من خلى الله بينه وبين معاصيه فقد سقط من عينه وهان عليه, وأن ذلك ليس من كرامته على ربه, وإن وسع الله عليه في الدنيا ومدَّ له من أسبابها, فإنهم أهلُ الابتلاء على الحقيقة.

قيل: إذا استكمل العبدُ حقيقة اليقين صار البلاءُ عنده نعمه, والمحنةً منحة.

                      [كتاب: زاد المعاد في هدى خير العباد]

  • علاج حرِّ المصيبة وحُزنها:

قال تعالى {  وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [ وفي المسند عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «(( ما من أحد تصيبه مُصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا أجاره الله في مصيبته, وأخلف له خيراً منها ))» وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب, وأنفعه له في عاجلته وأجلته فإنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلَّى عن مصيبته

أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك له عز وجل حقيقية, وقد جعله عند العبد عارية, فإذا أخذه منه, فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير, وأيضاً فإنه محفوف بعدمين: عدم قبله, وعدمٍ بعده, وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير, وأيضاً فإنه ليس الذي أوجده عن عدمه, حتى يكون ملكه حقيقةً, ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده, ولا يُبقي عليه وجوده, فليس له فيه تأثير, ولا ملك حقيقي.

والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق, ولا بد أن يُخلِّف الدنيا وراءَ ظهره, ويجيء ربه فرداً كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولا عشيرة, ولكن بالحسنات والسيئات, فكيف يفرح بموجود, أو يأسى على مفقود, ففكره في مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء.

ومن علاجه: أن ينظر إلى ما أصيب به, فيجد ربه قد أبقي عليه مثله, أو أفضل منه, وادخر له – إن صبر ورضي – ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعافٍ مُضاعفة, وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي.

ومن علاجها: أن يعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه, وما أخطأه لم يكن ليصيبه.قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّـهِ يَسِيرٌ * لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّـهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور }  [الحديد:22-23]

ومن علاجه: أن يُطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب, وليعلم أنه في كل وادٍ بنو سعد, ولينظر يمنة فهل إلا محنة ؟ ثم ليعطف يسرة, فهل يرى إلا حسره ؟ وأنه لو فتش العالم لم ير فيهم إلا مبتلى, إما بفوات محبوب, أو حصول مكروه, وأن سرور الدنيا أحلامُ نوم أو كظل زائل, إن أضحكت قليلاً, أبكت كثيراً, وإن سرت يوماً ساءت دهراً, وإن متعت قليلاً منعت كثيراً, وما ملأت داراً خيرةً إلا ملأتها عبرة, ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور.

ومن علاجها: أن يعلم أن فوات ثواب الصبر والتسليم, وهو الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على الصبر والاسترجاع أعظمُ من المصيبة في الحقيقة.

ومن علاجها: أن يروح قلبه بروح رجاء الخلف من الله, فإنه من كل شيء عوض إلا الله, فما منه عوض.

ومن علاجها: أن يعلم أن ما يعقبه الصبرُ والاحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما كان يحصل له ببقاء ما أُصيب به لو بقي عليه, ويكفيه من ذلك بيتُ الحمد الذي يُبنى له في الجنة على حمده لربه واسترجاعه, فلينظر: أي المصيبتين أعظم ؟ مصيبةُ العاجلة, أو مصيبة فوات بيت الحمد في جنة الخلد.

ومن علاجها: أن يعلم أنه وإن بلغ في الجزع غايته فآخر أمره إلى صبر الاضطرار, وهو غير محمود ولا مُثاب.

ومن علاجها: أن يعلم أن الجزع يُشمت عدوه, ويسوء صديقه, ويُغضب ربه, ويسرُّ شيطانه, ويُحبط أجره, ويُضعف نفسه, وإذا صبر واحتسب أنضى شيطانه, ورده خاسئاً, وأرضى ربه, وسرَّ صديقه, وساء عدوه, وحمل عن إخوانه, وعزَّاهم هو قبل أن يُعزُّوه, فهذا هو الثبات والكمال الأعظم, لا لطم الخدود, وشقّ الجيوب.

ومن علاجها: أن يعلم أن حظه من المصيبة ما تُحدث له, فمن رضي فله الرضى, ومن سخط فله السخط, فحظك منها ما أحدثته لك, فاختر خير الحظوظ أو شرها, فإن أحدثت له سخطاً وكفراً كُتِبَ في ديوان الهالكين, وإن أحدثت له جزعاً وتفريطاً في ترك واجب, أو فعل محرم كتب في ديوان المفرِّطين, وإن أحدثت له شكاية وعدم صبر كتب في ديوان المغبونين, وإن أحدثت له اعتراضاً على الله وقدحاً في حكمته فقد قرع باب الزندقة أو ولجه, وإن أحدثت له صبراً وثباتاً لله كتب في ديوان الصابرين, وإن أحدثت له الرضى عن الله كتب في ديوان الراضين, وإن أحدثت له الحمد والشكر كتب في ديوان الشاكرين, وكان تحت لواء الحمد مع الحمَّادين, وإن أحدثت له محبة واشتياقاً إلى لقاء ربه, كُتِبَ في ديوان المحبين المخلصين, وفي مسند أحمد والترمذي من محمود بن لبيد يرفعه: (( «إن الله إذا أحبَّ قوماً ابتلاهم, فمن رضي فله الرضى, ومن سخط فله السخط» )) زاد أحمد: (( ومن جزع فله الجزع ))

ومن علاجها أن يعلم أن الجزع لا يردها بل يُضاعفها وهو في الحقيقة من تزايد المرض

ومن علاجها: أن يوازن بين أعظم اللذتين والتمتعين وأدومهما, لذة تمتعه بما أُصيب به, ولذة تمتعه بثواب الله له, فإن ظهر له الرجحان فآثر الراجح فليحمد الله على توفيقه, وإن آثر المرجوح من كل وجه فليعلم أن مصيبته في عقله وقلبه ودينه أعظم من مصيبته التي أُصيب بها في دنياه.

ومن علاجها: أن يعلم أن أنفع الأدوية له موافقة ربه وإلهه فيما أحبه ورضيه له, وأن خاصية المحبة موافقة المحبوب, فمن ادعى محبة محبوب ثم سخط ما يُحبُّه وأحبَّ ما يُسخطه, فقد شهد على نفسه بكذبه, وتمقَّت إلى محبوبه.

ومن علاجها: أن يعلم أن الذي ابتلاه بها أحكم الحاكمين, وأرحم الراحمين, وأنه سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه به, ولا ليعذبه به, ولا ليجتاحه, وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه, وليسمع تضرعه وابتهاله, وليراه طريحاً ببابه, لائذاً بجنابه, مكسور القلب بين يديه, رافعاً قصص الشكوى إليه.

ومن علاجها: أن يعلم أنه لولا مِحَنُ الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكِبرِ والعجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلاً وآجلاً, فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تكون حمية له من هذه الأدواء, وحفظاً لصحة عُبوديته, واستفراغاً للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه, فسبحان من يرحم ببلائه ويبتلي بنعمائه.

فلولا أنه سبحانه يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا, وبغوا, وعتوا, والله سبحانه إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواء من الابتلاء والامتحان على قدر حاله يستفرغُ به من الأدواء المهلكة حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه أهَّله لأشراف مراتب الدنيا وهي عبوديته, وأرفع ثواب الآخرة, وهو رؤيته وقربه.

ومن علاجها: أن يعلم أن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة, قلبها الله سبحانه كذلك, وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة, ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خير له من عكس ذلك, فإن خفي عليك هذا, فانظر إلى قول الصادق المصدوق: (( « حُفَّتِ الجنَّةُ بالمكاره وحُفَّتِ النارُ بالشهوات» ))

وفي هذا المقام تفاوتت عقول الخلائق, وظهرت حقائق الرجال, فأكثرهم آثر الحلاوة المنقطعة على الحلاوة الدائمة التي لا تزول, ومن لم يحتمل مرارة ساعة لحلاوة الأبد, ولا ذُلَّ ساعةٍ لعز الأبد, ولا محنة ساعة لعافية الأبد, فإن الحاضر عنده شهاده, والمنتظر غيب, والإيمان ضعيف, وسلطان الشهوة حاكم, فتولد من ذلك إيثار العاجلة, ورفضُ الآخرة, وهذا حال النظر الواقع على ظواهر الأمور, وأوائلها ومبادئها, وأما النظر الثاقب الذي يخرق حجب العاجلة, ويجاوزه إلى العواقب والغايات, فله شأن آخر.

فادع نفسك إلى ما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته من النعيم المقيم, والسعادة الأبدية, والفوز الأكبر, وما أعد لأهل البطالة والإضاعة من الخزي والعقاب والحسرات الدائمة, ثم اختر أيُّ القسمين أليق بك, وكلّ يعمل على شاكلته, وكلُّ أحد يصبو إلى ما يُناسبه, وما هو الأولى به, ولا تستطل هذا العلاج, فشدة الحاجة إليه من الطبيب والعليل دعت إلى بسطه, وبالله التوفيق.

  • البلاء قد يكون منحة ونعمة:

النفوس تكتسبُ من العافية الدائمة والنصر والغنى طغياناً وركوناً إلى العاجلة, وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة, فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته, قيض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه, فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه, ويقطع منه العروق المؤلمة لاستخراج الأدواء منه, ولو تركه لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه.

                            [كتاب: الفوائد]

  • مشاهد على العبد ملاحظتها إذا جرى له مكروه يكرهُهُ:

إذا جرى على العبد مقدور يكرهُهُ, فله فيه ستهُ مشاهد:

أحدها: مشهد التوحيد, وأن الله هو الذي قدرهُ وشاءهُ وخلقهُ, وما شاء الله كان, وما لم يشأ لم يكن.

الثاني: مشهد العدل, وأنه ماض فيه حُكمُهُ, عدل فيه قضاؤه.

الثالث: مشهد الرحمة, وأن رحمته في هذا المقدور غالبه لغضبه وانتقامه, ورحمتُهُ حشوُهُ

الرابع: مشهد الحكمة, وأن حكمته سبحانه اقتضت ذلك, لم يُقدره سُدى ولا قضاه عبثاً.

الخامس: مشهد الحمد, وأن له سبحانه الحمد التام على ذلك من جميع الوجوه.

السادس: مشهد العبودية, وأنه عبد محض من كل وجه, تجري عليه أحكام سيده وأقضيته بحكم كونه ملكه وعبده, فيُصرفه تحت أحكامه القدرية كما يصرفه تحت أحكامه الدينية, فهو محل لجريان هذه الأحكام عليه.

                       كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

  • 1
  • 0
  • 125

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً