كيف أوفق بين بيتي وعملي؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أعمل في مدرسة إسلامية منذ عامين، وكنتُ مُقَصِّرَةً في بيتي تجاه زوجي وبناتي لانشغالي عنهم بالعمل، وأخذتُ قرارًا بتَرْك العمل، والبقاء في المنزل، وبعد الاستخارة قال لي الكثيرون: إن أول سنة هي الأصعب، والوضع سيتغير بعد ذلك.
بقيتُ في المدرسة للعام الثاني، ووجدتُ أنَّ الوَضْعَ لَم يختلفْ كثيرًا، وأشعر بالتقصير تجاه أولادي وزوجي مع التعب.
كما أنَّ الإرهاق الذي ألقاه في العمل يَجْعَلُني عصبية مع أولادي، وما زلتُ في حيرةٍ، فأنا أحتاج الراتبَ كثيرًا لمساعدة زوجي، لكن تقصيري شديد جدًّا في البيت، وكذلك مع ربي.
فماذا أفعل، أرجو أن تساعدوني بنصيحتكم؟
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أما بعدُ:
فلا أقولُ لك - أيتُها الأختُ الكريمةُ -: دَعِي العَمَل في المدرسة الإسلامية؛ فأنتِ في حاجةٍ للراتب لمساعدة زوجِك، ولمسانَدة المشروع الإسلامي، وكذلك لن أقول: قَصِّرِي في حَقِّ زوجِك وأبنائِك؛ فهذا شيءٌ من الواجبات المحتَّمَةِ عليك، فضلًا عن حَقِّ ربِّك سبحانه وتعالى، أنتِ إنما تحتاجين لفنٍّ جديدٍ؛ وهو أن تتعلمي كيفيةَ إدارة وقتِك، وتنظيمِ المَهامِّ، والتعاونِ الجادِّ مع من حولك.
هذا؛ وسألخِّص لك بعضَ النقاط عَساك تجدين فيها الدواءَ الناجِعَ لمشكلتِك:
أولًا: أنتِ تعلمين أنَّ التوفيق والجمعَ بين الأُمُور الكثيرةِ مشكلةُ أكثرِ الخلْقِ؛ فهذا يُريد أن يوفِّق بين دراسته وزواجه، والآخرُ متزوجٌ ويعملُ، وفي الوقت نفسه يُعِدُّ رسالةَ الدكتوراه، والثالثُ يريد أن يوفِّق بين حُقُوق الإخوان وحُقُوق أسرته وباقي الحقوق، إلى غير ذلك مما تعلمينه ونعلمُه جميعًا، وهذه بالتحديد هي مشكلتُك الآن؛ أنك لم تتمكني من التوفيق بين عَمَلِك وشُؤُون منزِلِك على الوَجْهِ الأَكْمَلِ، ثم القيامِ بِنَوافِلِ الطاعات؛ فهذا أمرٌ يَتَطَلبُ منك في الخطوة الأولى ترتيبَ الأولويات، حسب أهميتها، وتنظيم الوقت، والاستفادة من كلِّ لحظةٍ.
ثانيًا: تعلمين أنَّ أَهَمَّ مقاصِد النكاحِ الاستمتاعُ والسَّكَنُ؛ قال تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلقَ لكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا لِتَسْكُنُوا إِليْها وَجَعَل بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، وأنَّ حقَّ الزوج مُقَدَّمٌ على حُقُوقٍ كثيرةٍ حتى على أَداءِ النوافل، وذلك عند التَّعارُضِ، وهذا أمرٌ مشهور، لسنا في حاجةٍ لنُورِدَ عليه عَشَراتِ الأدلة.
إذًا فعند الترتيب يجيءُ حقُّ الزوجِ في المركز الأول، ثم يُقَدَّمُ الأهمُّ فالأهم، ومِن ذلك - بِلا شَكٍّ - وقتٌ للترويحِ عَنِ النَّفْسِ؛ ففي هذا عَوْنٌ على مُواصَلةِ الجِدِّ في السير إلى الله وفي الحياة.
ثالثًا: احرِصي على استِغلال وقتِك بشكلٍ جَيِّدٍ فيما يعودُ عليك وعلى أسرتِك فائِدَتُهُ في أمرِ دينِك ودُنياك، وهذا أمرٌ يَتَطَلَّبُ منك همةً عاليةً، ولا أظنُّك تفتقدين ذلك؛ فرسالتُك طافِحَةٌ بِعُلُوِّ الهمَّة، فأنتِ تَعْمَلِينَ لِعُلُوِّ هِمَّتِك في جانِبِ المسؤوليةِ الأُسَرِيَّةِ في رَفْعِ عِبْءٍ - ولو قليلٍ - عن زوجِك، ثم تقومين بالفرائض، وقلبُك مُحترقٌ على النوافل، ولكن الوقت والقوة لا يسعفانِك، وعينُك في ذات الوقت على فَلذاتِ الأكباد؛ إذًا مع شيءٍ من حُسْنِ إدارة الوقت سيُحَلُّ الأمرُ.
رابعًا: عندنا وقتٌ كثيرٌ يمكنُ أخذُ شيءٍ منه لننفِقَهُ في محلِّهِ؛ كتقليلِ ساعاتِ النومِ، مع التوجُّه إلى الكريم سبحانه أن يُبارِكَ لك في القليل، وكذلك الوقت المهدور في وسائلِ الاتصالِ، وأوقاتِ الزياراتِ، إلى غير ذلك، فأودِعِي كُل لحظةٍ ما يَصْلُحُ لها مِنَ الخير، واغتَنِمِي الوقتَ في الأفضلِ، وجانبي ما يُؤَدِّي إلى نقصِ ربحٍ، فضلًا عن وُقُوعِ خُسْرانٍ!
وَتأمَّلي عَمَل واحدٍ من عُلماءِ المسلمينَ - الإمامِ ابنِ الجوزيِّ - لمّا ازدَحَمَتْ عليه الشؤُونُ؛ قال في صيد الخاطر (ص: 241): "فلمَّا رأيتُ أنَّ الزمانَ أشرفُ شيءٍ، والواجب انتهابُهُ بفعل الخير، كرهتُ ذلك - لِقاءَ الناسِ - وبقيتُ معهم بين أمرين: إن أنكرتُ عليهم وقعت وحشةٌ، لموضع قطع المألوفِ، وإن تقبلتُه منهم ضاعَ الزمانُ؛ فصرتُ أدافِعُ اللقاءَ جهدي، فإذا غُلِبْتُ قَصَّرْتُ في الكلام؛ لأَتَعَجَّل الفِراقَ. ثم أعددتُ أعمالًا تمنعُ من المحادثة لأوقات لقائهم؛ لِئَلا يمضيَ الزمانُ فارغًا، فجعلتُ مِنَ المستَعَدِّ للقائهم: قطعَ الكاغد، وبريَ الأقلام، وحزمَ الدفاتر؛ فإن هذه الأشياءَ لا بدَّ منها، ولا تحتاجُ إلى فكرٍ وحضورِ قلبٍ، فأرصدتُها لأوقات زيارتهم؛ لِئَلا يضيعَ شيءٌ من وقتي؛ نسأل الله - عز وجل - أن يعرفنا شَرفَ أوقات العُمُر، وأن يُوفقنا لاغتنامه". اهـ.
خامسًا: كُوني على يقينٍ بأن الله تعالى لم يُطْلِعْ على شَرَفِ العُمر، ومعرفة قَدْرِ أوقاتِ العافية إلا مَن وَفَّقَهُ وألهَمَهُ اغتنامَ ذلك؛ {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35]، فاصدُقي اللجوء إلى الله، والاستعانة به، وسليه أن يُبارِكَ في وقتك، ومالِك، وعملِك، وأن يُصْلِحَ زوجَك وأبناءَك، إلى غير ذلك من جميعِ أُمُور حياتِك.
سادسًا: راقبي دائمًا نيتَك، واصدُقي الله تعالى، وأخلِصِي في العمل في خدمة الزوج والولد، وبقيةِ شؤُون حياتِك؛ لتُحَصِّلي الأجرَ والمعُونة.
سابعًا: يجبُ أن يقومَ زوجُك بِدَوْرِهِ في مساعَدَتِك في وظائف البيت؛ تأسيًا برسولِ الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يُشارِكُ أهله العَمَل والمهام، رغمَ مسؤُولياتِهِ العظيمة؛ فهذا من حُسْنِ المُعاشَرَةِ بين الزوجين؛ فعن الأسود، قال: سألْتُ عائِشَةَ: ما كانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قالتْ: «كانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ - تَعْنِي: خدمة أهله - فإذا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ خَرَجَ إلى الصَّلاَةِ»؛ رواه البخاري.
وَعَنْ عُرْوَةَ، قال: سأل رَجُلٌ عائِشَةَ: أَكانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ؟ قالتْ: «نَعَمْ، كانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَخْصِفُ نَعْلهُ، وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ كَما يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ»، وفي رواية: ما كانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قالتْ: «ما يَصْنَعُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ، يَخْصِفُ النَّعْل، وَيَرْقَعُ الثَّوْبَ، وَيَخِيطُ».
وَعَنْ عَمْرَةَ قال: قِيل لِعائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها: ماذا كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعمَلُ فِي بَيته؟ قالت: «كان بَشَرًا مِن الْبَشرِ؛ يفلي ثَوبَهُ، ويَحلِبُ شاتَهُ».
وهذا شأنُ الزوجِ الصالِحِ الْمُحِبِّ لزوجتِهِ؛ فَهُوَ عَوْنٌ لزوجَتِهِ في تَحقِيقِ أَهدافِها، كَما أَنَّها عَوْنٌ لهُ.
ثامنًا: ضَعِي لك أهدافًا قصيرةَ المدَى، وأُخْرَى طويلةَ المدَى، وَحَدِّدِي جَداوِل زَمَنِيَّةً للتطبيقِ.
أخيرًا: أُوصيك بِأَمْرٍ لا يَقِلُّ أهمية عَنْ عِبادَةِ صِدْقِ اللجوء إلى الله، وهُو مِنْ أعظَمِ ما يُعِينُ على القِيامِ بالأَعْمالِ، ويَمْنَحُ القُوَى الحِسِّيَّةَ والمعنويةَ، ويُنسِي التَّعَبَ، أَلا وهُو ذِكْرُ اللهِ؛ فَهَذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لمّا شَكَت له الزَّهْراءُ فاطِمَةُ ابنتُهُ - وَكانَتْ مِنْ أَكْرَمِ أَهْلِهِ عَليهِ - ما تَلْقَى مِنَ الرَّحَى فِي يَدِها، وَسَقَتْ بالقِرْبَةِ حتى أثَّرَتِ القِربةُ بِنَحْرِها، وَقَمَّتِ البيتَ حتَّى اغبرَّتْ ثِيابُها، وأوْقَدَتْ تحتَ القِدْرِ حتَّى دُنِّسَتْ ثيابُها، فأصابَها مِن ذلِك ضَرَرٌ، فَشَكَتْ ذلك إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لها وَلِعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُما: «أَلا أُعَلِّمُكُما خَيْرًا مِمَّا سألْتُما، إِذا أَخَذْتُما مَضاجِعَكُما، أَنْ تُكَبِّرا اللهَ أَرْبَعًا وَثَلاثِينَ، وَتُسَبِّحاهُ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَتَحْمَداهُ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، فَهْوَ خَيْرٌ لكُما مِنْ خادِمٍ»؛ متفقٌ عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدَّس اللهُ رُوحَهُ - في "المستَدْرَك على مَجْمُوعِ الفَتاوَى" (1/ 158): "بَلغَنا أَنَّهُ مَنْ حافَظَ على هَذِهِ الْكَلِماتِ، لمْ يأخُذْهُ إِعْياءٌ فِيما يُعانِيهِ مِن شُغْلِ غَيْرِهِ". اهـ.
وقال الإمامُ ابنُ القيم في "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص: 77، 78): "إن الذِّكر يعطي الذاكر قوةً، حتى إنه ليفعل مع الذكرِ ما لم يظن فعله بدونه، وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه وكلامه وإقدامه وكتابه أمرًا عجيبًا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرًا عظيمًا، وقد علَّم النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة وعليًّا - رضي الله عنهما - أن يسبِّحَا كل ليلةٍ إذا أخذا مضاجعهما ثلاثًا وثلاثين، ويحمدا ثلاثًا وثلاثين، ويكبرا أربعًا وثلاثين، لما سألتْه الخادمَ، وشكت إليه ما تقاسيه من الطحن والسعي والخدمة، فعلمهما ذلك، وقال: إنه خيرٌ لكما من خادمٍ، فقيل: إن مَن داوم على ذلك، وجد قوة في يومه مغنية عن خادمٍ.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يذكر أثرًا في هذا الباب، ويقول: ((إن الملائكة لما أمروا بحمل العرش، قالوا: يا ربنا، كيف نحمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك؟ فقال: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما قالوا، حملوه)).
حتى رأيت ابن أبي الدنيا قد ذكر هذا الأثر بعينه عن الليث بن سعدٍ عن معاوية بن صالحٍ، قال: حدثنا مشيختنا أنه بلغهم أن ((أول ما خلق الله - عز وجل - حين كان عرشه على الماء - حملة العرش، قالوا: ربنا لَم خلقتنا؟ قال: خلقتكم لحمل عرشي، قالوا: ربنا، ومن يقوى على حمل عرشك، وعليه عظمتك وجلالك ووقارك؟ قال: لذلك خلقتكم، فأعادوا عليه ذلك مرارًا، فقال لهم: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، فحملوه)).
وهذه الكلمة لها تأثيرٌ عجيبٌ في معالجة الأشغال الصعبة، وتحمل المشاق، والدخول على الملوك، ومن يخاف، وركوب الأهوال.
ولها أيضًا تأثيرٌ في دفع الفقر؛ كما روى ابن أبي الدنيا عن الليث بن معاوية بن صالحٍ، عن أسد بن وداعة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال: لا حول ولا قوة إلا بالله مائة مرةٍ في كل يومٍ، لم يصبه فقرٌ أبدًا))، وكان حبيب بن سلمة يستحب إذا لقي عدوًّا أو ناهَضَ حصنًا، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنه ناهض يومًا حصنًا للروم، فانهزم، فقالها المسلمون، وكبروا، فانهدم الحصن.
والله أسأل أن ييسر لك الخير حيث كان.
- التصنيف:
- المصدر: