فصل في الصراط المستقيم
منذ 2007-09-09
السؤال: فصل في الصراط المستقيم
الإجابة: فَصــل:
في الصراط المستقيم، في الزهد والعبادة والورع، في ترك المحرمات والشهوات، والاقتصاد، في العبادة. وإن لزوم السنة هو يحفظ من شر النفس والشيطان بدون الطرق المبتدعة، فإن أصحابها لابد أن يقعوا في الآصار والأغلال، وإن كانوا متأولين، فلابد لهم من اتباع الهوى، ولهذا سمى أصحاب البدع أصحاب الأهواء، فإن طريق السنة علم وعدل وهدي، وفي البدعة جهل وظلم، وفيها اتباع الظن وما تهوى الأنفس.
والرسول، ما ضل وما غوى، والضلال: مقرون بالغي، فكل غاو ضال، والرشد ضد الغي والهدى ضد الضلال، وهو مجانبة طريق الفجار وأهل البدع، كما كان السلف ينهون عنهما، قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59].
والغي في الأصل: مصدر غوي يغوي غيًا، كما يقال: لوى يلوي ليًا.
وهو ضد الرشد، كما قال تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: 146].
والرشد: العمل الذي ينفع صاحبه، والغي: العمل الذي يضر صاحبه، فعمل الخير رشد، وعمل الشر غي، ولهذا قالت الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}[الجن: 10]، فقابلوا بين الشر وبين الرشد، وقال في آخر السورة: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا}[الجن: 21]، ومنه الرشيد، الذي يسلم إليه ماله.
وهو الذي يصرف ماله فيما ينفع لا فيما يضر.
وقال الشيطان: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82- 83]، وهو أن يأمرهم بالشر الذي يضرهم فيطيعونه، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}[إبراهيم: 22]، وقال: {وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} إلى أن قال: {ََكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء: 91ـ95]، وقال: {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا}[القصص: 63]، وقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2].
ثم إن الغي، إذا كان اسمًا لعمل الشر الذي يضر صاحبه، فإن عاقبة العمل أيضًا تسمى غيًا، كما أن عاقبة الخير تسمى رشدًا، كما يسمى عاقبة الشر شرًا، وعاقبة الخير خيرًا، وعاقبة الحسنات حسنات، وعاقبة السيئات سيئات.
فالحسنات والسيئات، في كتاب اللّه يراد بها أعمال الخير وأعمال الشر، كما يراد بها النعم والمصائب والجزاء من جنس العمل، فمن عمل خيرًا وحسنات لقي خيرًا وحسنات، ومن عمل شرًا وسيئات لقي شرًا وسيئات.
كذلك من عمل غيًا لقى غيًا، وترك الصلاة واتباع الشهوات غي يلقي صاحبه غيًا.
فلهذا قال الزمخشري: كل شر عند العرب غي، وكل خير رشاد.
كما قيل:
فمن يلق خيرًا يحمد الناس أمره ** ومن يغو لا يعدم على الغي لائمًا
وقال الزجاج: جزاؤه غي، لقوله: {يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68]، أي مجازات آثام.
وفي الحديث المأثور: إن غيا واد في جهنم تستعيذ منه أوديتها، وهذا تعبير عن ملاقات الشر، وقال سبحانه: {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ}[مريم: 59]، فإن الصلاة فيها إرادة وجه اللّه.
كما قال تعالى: {وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]، أي يصلون صلاة الفجر والعصر.
والداعي يقصد ربه ويريده، فتكون القلوب في هذه الأشياء مريدة لربها محبة له.
وإتباع الشهوات: هو اتباع ما تشتهيه النفس، فإن الشهوات، جمع شهوة، والشهوة هي في الأصل مصدر، ويسمي المشتهي شهوة. تسمية للمفعول باسم المصدر.
قال تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27] فجعل التوبة في مقابلة اتباع الشهوات، فإنه يريد أن يتوب علينا، أي فاللّه يحب لنا ذلك ويرضاه ويأمر به، {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} وهم الغاوون{أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} يعدل بكم عن الصراط المستقيم إلى اتباع الشهوات عدولًا عظيمًا، فإن أصل الميل العدول، فلابد منه للذين يتبعون الشهوات، كما قال صلى الله عليه وسلم رواه أحمد وابن ماجه من حديث ثوبان.
فأخبر أنا لا نطيق الاستقامة أو ثوابها إذا استقمنا، وقال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129]، فقوله: كل الميل أي: يريد نهاية الميل، يريد الزيغ عن الطريق، والعدول عن سواء الصراط إلى نهاية الشر، بل إذا بليت بذلك فتوسط، وعد إلى الطريق بالتوبة.
كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} إلى قـوله: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133ـ 136]، فلم يقل: لا يظلمون ولا يذنبون، بل قال: {إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 135]، أي بذنب آخر غير الفاحشة، فعطف العام على الخاص.
كما قال موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [القصص: 16]، وقالت بلقيس: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [النمل: 44]، وقال تعالي عمومًا عن أهل القرى المهلكة: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} [هود: 101]، فظلموا أنفسهم بارتكابهم ما نهوا عنه، وبعصيانهم لأنبيائهم، وبتركهم التوبة إلى ربهم.
وقوله تعالى: {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135]؛ ولهذا قال: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27]، ثم قال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا}[النساء: 28].
قال مجاهد وغيره: يتبعون الشهوات الزنا، وقال ابن زيد: هم أهل الباطل.
وقال السدي: هم اليهود والنصارى والجميع حق، فإنهم قد يتبعون الشهوات مع الكفر، وقد يكون مع الاعتراف بأنها معصية.
ثم ذكر أنه خلق الإنسان ضعيفًا، وسياق الكلام يدل على أنه ضعيف عن ترك الشهوات.
فلابد له من شهوة مباحة يستغنى بها عن المحرمة، ولهذا قال طاوس ومقاتل: ضعيف في قلة الصبر عن النساء، وقال الزجاج وابن كيسان: ضعيف العزم عن قهر الهوى.
وقيل: ضعيف في أصل الخلقة، لأنه خلق من ماء مهين، يروي ذلك عن الحسن، لكن لابد أن يوجد مع ذلك أنه ضعيف عن الصبر؛ ليناسب ما ذكر في الآية، فإنه قال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} وهو تسهيل التكليف بأن يبيح لكم ما تحتاجون إليه ولا تصبروا عنه.
كما أباح نكاح الفتيات، وقد قال قبل ذلك: {لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النساء: 25].
فهو سبحانه مع إباحته نكاح الإماء عند عدم الطول، وخشية العنت، قال: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النساء: 25]، فدل ذلك على أنه يمكن الصبر مع خشية العنت، وأنه ليس النكاح كإباحة الميتة عند المخمصة، فإن ذلك لا يمكن الصبر عنه.
وكذلك من أباح الاستمناء، عند الضرورة فالصبر عن الاستمناء أفضل، فقد روى عن ابن عباس: أن نكاح الإماء خير منه، وهو خير من الزنا، فإذا كان الصبر عن نكاح الإماء أفضل فعن الاستمناء بطريق الأولى أفضل.
لا سيما وكثير من العلماء أو أكثرهم يجزمون بتحريمه مطلقًا، وهو أحد الأقوال في مذهب أحمد.
واختاره ابن عقيل في المفردات والمشهور عنه يعني عن أحمد أنه محرم إلا إذا خشي العنت.
والثالث أنه مكروه إلا إذا خشي العنت.
فإذا كان اللّه قد قال في نكاح الإماء: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ففيه أولى. وذلك يدل على أن الصبر عن كلاهما ممكن.
فإذا كان قد أباح ما يمكن الصبر عنه، فذلك لتسهيل التكليـف، كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا}.
و الاستمناء لا يباح عند أكثر العلماء سلفًا وخلفًا سواء خشي العنت أو لم يخش ذلك. وكلام ابن عباس وما روى عن أحمد فيه إنما هو لمن خشي العنت، وهو الزنا واللواط خشية شديدة خاف على نفسه من الوقوع في ذلك؛ فأبيح له ذلك لتكسير شدة عنته وشهوته.
وأما من فعل ذلك تلذذًا أو تذكرًا أو عادة، بأن يتذكر في حال استمنائه صورة كأنه يجامعها.
فهذا كله محرم لا يقول به أحمد، ولا غيره وقد أوجب فيه بعضهم الحد والصبر عن هذا من الواجبات لا من المستحبات.
وأما الصبر عن المحرمات فواجب، وإن كانت النفس تشتهيها وتهواها.
قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33]، و الاستعفاف: هو ترك المنهي عنه. كما في الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال .
فالمستغني، لا يستشرف بقلبه.
و المستعف: هو الذي لا يسأل الناس بلسانه، والمتصبر: هو الذي لا يتكلف الصبر. فأخبر أنه من يتصبر يصبره اللّه.
وهذا كأنه في سياق الصبرعلى الفاقة، بأن يصبر على مرارة الحاجة، لا يجزع مما ابتلى به من الفقر، وهو الصبر في البأساء والضراء.
قال تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177] .
والضراء: المرض.
وهو الصبر على ما ابتلى به من حاجة ومرض وخوف.
والصبر على ما ابتلى به باختياره، كالجهاد، فإن الصبر عليه أفضل من الصبر على المرض الذي يبتلى به بغير اختياره، ولذلك إذا ابتلى بالعنت في الجهاد فالصبر على ذلك أفضل من الصبر عليه في بلده؛ لأن هذا الصبر من تمام الجهاد.
وكذلك لو ابتلى في الجهاد بفاقة، أو مرض حصل بسببه كان الصبر عليه أفضل.
كما قد بسط هذا في مواضع.
وكذلك ما يؤذي الإنسان به في فعله للطاعات، كالصلاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وطلب العلم من المصائب، فصبره عليها أفضل من صبره على ما ابتلى به بدون ذلك، وكذلك إذا دعته نفسه إلى محرمات: من رئاسة، وأخذ مال، وفعل فاحشة كان صبره عنه أفضل من صبره على ما هو دون ذلك، فإن أعمال البر، كلما عظمت كان الصبر عليها أعظم مما دونهما.
فإن في العلم، والإمارة، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلاة، والحج، والصوم، والزكاة، من الفتن النفسية وغيرها ما ليس في غيرها.
ويعرض في ذلك ميل النفس إلى الرئاسة والمال والصور.
فإذا كانت النفس غير قادرة على ذلك لم تطمع فيه، كما تطمع مع القدرة، فإنها مع القدرة تطلب تلك الأمور المحرمة، بخلاف حالها بدون القدرة فإن الصبر مع القدرة جهاد، بل هو من أفضل الجهاد.
وأكمل من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الصبر عن المحرمات، أفضل من الصبر على المصائب.
الثاني: أن ترك المحرمات مع القدرة عليها، وطلب النفس لها، أفضل من تركها بدون ذلك.
الثالث: أن طلب النفس لها إذا كان بسبب أمر ديني كمن خرج لصلاة، أو طلب علم، أو جهاد، فابتلى بما يميل إليه من ذلك فإن صبره عن ذلك يتضمن فعل المأمور وترك المحظور، بخلاف ما إذا مالت نفسه إلى ذلك بدون عمل صالح، ولهذا كان يونس ابن عبيد يوصي بثلاث يقول: لا تدخل على سلطان، وإن قلت: آمره بطاعة اللّه.
ولا تدخل علي امرأة: وإن قلت: أعلمها كتاب اللّه، ولا تصغ أذنك إلى صاحب بدعة، وإن قلت أرد عليه.
فأمره بالاحتراز من أسباب الفتنة، فإن الإنسان إذا تعرض لذلك فقد يفتتن ولا يسلم.
فإذا قدر أنه ابتلى بذلك بغير اختياره أو دخل فيه باختياره، وابتلى، فعليه أن يتقى اللّه ويصبر ويخلص ويجاهد.
وصبره على ذلك وسلامته مع قيامه بالواجب، من أفضل الأعمال، كمن تولى ولاية وعدل فيها، أو رد على أصحاب البدع بالسنة المحضة، ولم يفتنوه، أو علم النساء الدين على الوجه المشروع من غير فتنة.
لكن اللّه إذا ابتلى العبد وقدر عليه أعانه، وإذا تعرض العبد بنفسه إلى البلاء وكله اللّه إلى نفسه.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة وكذلك قال في الطاعون فمن فعل ما أمره اللّه به فعرضت له فتنة من غير اختياره، فإن اللّه يعينه عليها بخلاف من تعرض لها.
لكن باب التوبة مفتوح، فإن الرجل قد يسأل الإمارة فيوكل إليها، ثم يندم فيتوب من سؤاله فيتوب اللّه عليه ويعينه، إما على إقامة الواجب، وإما على الخلاص منها، وكذلك سائر الفتن.
كماقال: {قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]، وهذه الأمور تحتاج إلى بسط لا يتسع له هذا الموضع.
والمقصود أن اللّه سبحانه يريد أن يبين لنا، ويهدينا سنن الذين من قبلنا الذين قال فيهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ}[الأنعام: 90]، وهم الذين أمرنا أن نسأله الهداية لسبيلهم في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6، 7] فهو يحب لنا ويأمرنا أن نتبع صراط هؤلاء، وهو سبيل من أناب إليه، فذكر هنا ثلاثة أمور: البيان، والهداية، والتوبة.
وقيل: المراد بالسنن هنا سنن أهل الحق والباطل، أي: يريد أن يبين لنا سنن هؤلاء وهؤلاء، فيهدي عباده المؤمنين إلى الحق، ويضل آخرين، فإن الهدى والضلال إنما يكون بعد البيان.
كما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[إبراهيم: 4]، وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ}[التوبة: 115].
فتكون {سُنَنَ} [النساء: 26]، متعلقًا بيبين يعني سنن أهل الباطل لا بيهدي، وأهل الحق متعلق بقوله: ويهديكم.
وقال الزجاج: السنن الطرق، فالمعنى يدلكم على طاعته، كما دل الأنبياء وتابعيهم.
وهذا أولى، لأنه قد يقدم فعلين فلا يجعل الأول هوالعامل وحده، بل العامل إما الثاني وحده. وإما الاثنان، كقوله: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96].
أو إذا أريد هذا التقدير: يبين لكم سنن الذين من قبلكم، ويهديكم سننًا. فدل علي أنه يهدينا سننهم.
والمراد بذلك سنن أهل الحق، بخلاف قوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} فإنه قال بعدها: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137]، فإنه أراد تعريف عقوبة الظالمين بالعيان، وهنا فأنزل علينا من القرآن ما يهدينا به سنن الذين من قبلنا، وهم الذين أنعم اللّه عليهم. وذكر ثلاثة أمور: التبيين، والهدى، والتوبة.
لأن الإنسان أولا يحتاج إلى معرفة الخير والشر، وما أمر به وما نهى عنه، ثم يحتاج بعد ذلك إلى أن يهدي، فيقصد الحق ويعمل به دون الباطل.
وهو سنن الأنبياء والصالحين.
ثم لابد له بعد ذلك من الذنوب، فيريد أن يتطهر منها بالتوبة فهو محتاج إلى العلم والعمل به.
وإلى التوبة مع ذلك.
فلابد له من التقصير، أو الغفلة في سلوك تلك السنن التي هداه اللّه إليها.
فيتوب منها بما وقع من تفريط في كل سنة من تلك السنن.
وهذه السنن: تدخل فيها الواجبات والمستحبات، فلابد للسالك فيها من تقصير وغفلة، فيستغفر اللّه، ويتوب إليه.
فإن العبد لو اجتهد مهما اجتهد لا يستطيع أن يقوم للّه بالحق الذي أوجبه عليه، فما يسعه إلا الاستغفار والتوبة عقيب كل طاعة.
وقد يقال: الهداية، هنا البيان والتعريف، أي: يعرفكم سنن الذين من قبلكم، من أهل السعادة والشقاوة؛ لتتبعوا هذه وتجتنبوا هذه، كما قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]، قال علي وابن مسعود: سبيل الخير والشر.
وعن ابن عباس: سبيل الهدى والضلال.
وقال مجاهد: سبيل السعادة والشقاوة، أي فطرناه على ذلك، وعرفناه إياه، والجميع واحد.
والنجدان الطريقان الواضحان، والنجد المرتفع من الأرض، فالمعنى ألم نعرفه طريق الخير والشر ونبينه له، كتبيين الطريقين العاليين، لكن الهدى والتبيين والتعريف في هذه الآية يشترك فيه بنو آدم، ويعرفونه بعقولهم.
وأما طريق من تقدم من الأنبياء، فلا بد من إخبار اللّه تعالى عنها، كما قال: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا}[هود: 49]، لكن يجاب عن هذا بأنه لو أريد هذا المعنى، لقال: يريد اللّه ليبين لكم سنن الذين من قبلكم، ولم يحتج أن يذكر الهدى، إذا كان المعنى واحدًا، فلما ذكر أنه يريد التبيين والهدي، علم أن هذا غير هذا، فالتبيين: التعريف والتعليم، والهدى: هو الأمر والنهي، وهو الدعاء إلى الخير. كما قال تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [الرعد: 7]، أي داع يدعوهم إلى الخير. كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، أي تدعوهم إليه دعاء تعليم.
وهداه هنا يتعدى بنفسه، لأن التقدير: ويلزمكم سنن الذين من قبلكم، فلا تعدلوا عنها، وليس المراد هنا بالهدى الإلهام.
كما في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} لكونه لو أراد ذلك لوقع، ولم يكن فينا ضال، بل هذه إرادة شرعية أمرية بمعنى المحبة والرضا، ولهذا قال الزجاج: يريد أن يدلكم على ما يكون سببًا لتوبتكم، فعلق الإرادة بفعل نفسه.
فإن الزجاج ظن الإرادة في القرآن ليست إلا كذلك، وليس كما ظن، بل الإرادة المتعلقة بفعله يكون مرادها كذلك، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وأما الإرادة الموجودة في أمره وشرعه، فهو كقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} الآية [المائدة: 6]، وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33]، ونحو ذلك.
فهذه إرادته لما أمر به، بمعنى أنه يحبه ويرضاه، ويثيب فاعله، لا بمعنى أنه أراد أن يخلقه، فيكون كما قال: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} الآية [الأنعام: 125] .
وكما قال نوح: {وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود: 34].
فهذه إرادة لما يخلقه ويكونه.
كما يقول المسلمون: ما شاء اللّه كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذه الإرادة متعلقة بكل حادث، والإرادة الشرعية الأمرية لا تتعلق إلا بالطاعات، كما يقول الناس لمن يفعل القبيح: يفعل شيئًا ما يريده اللّه، مع قولهم: ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن.
فإن هذه الإرادة نوعان.
كما قد بسط في موضع آخر.
وقد يراد بالهدى الإلهام، ويكون الخطاب للمؤمنين المطيعين الذين هداهم اللّه إلى طاعته، فإن اللّه تعالى أراد أن يتوب عليهم ويهديهم، فاهتدوا، ولولا إرادته لهم ذلك لم يهتدوا، كما قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 43].
لكن الخطاب في الآية لجميع المسلمين، كالخطاب بآية الوضوء.
والخطاب لأهل البيت بقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ} [الأحزاب: 33]؛ ولهذا يهدد من لم يطعه.
وكما في الصيام: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، فهذه إرادة شرعية أمرية بمعنى المحبة والرضا، لا إرادة الخلق المستلزمة للمراد، لأنه لو كان كذلك لم تكن الآية خطابًا، إلا لمن أخذ باليسر، ولمن فعل ما أمر به، وكان من تخلف عن ذلك لا يدخل تحت الأمر والنهي الذي في الآية، وليس كذلك. بل الحكم الشرعي لازم لجميع المسلمين، فمن أطاع أثيب ومن عصى عوقب، والذين أطاعوه إنما أطاعوه بهداه لهم، هدي الإلهام، والإعانة بأن جعلهم مهتدين.
كما أنه هو الذي جعل المصلي مصليًا، والمسلم مسلمًا.
ولو كانت الإرادة هنا من الإنسان مستلزمة لوقوع المراد لم يقل: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27]، فإنه حينئذ لا تأثير لإرادة هؤلاء، بل وجودها وعدمها سواء. كما في قول نوح: {وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]، فإن ما شاء اللّه كان، وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن، وإن شاءه الناس.
والمقصود بالآية تحذيرهم من متابعة الذين يتبعون الشهوات. والمعنى: إني أريد لكم الخير الذي ينفعكم، وهؤلاء يريدون لكم الشر الذي يضركم، كالشيطان الذي يريد أن يغويكم، وأتباعه هم أهل الشهوات فلا تتخذوه وذريته أولياء من دوني، بل اسلكوا طرق الهدي والرشاد، وإياكم وطرق الغي والفساد.
كما قال تعالى: {فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} الآيات [طه: 123].
وقوله: {يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} [النساء: 27]، في الموضعين، فإتباع الشهوة من جنس اتباع الهوى، كما قال تعالى: {أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ} [القصص: 50]، وقال: {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [ المؤمنون: 71 ]، وقال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} [المائدة: 77]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 14]، وقال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18]، وهذا في القرآن كثير.
والهوى: مصدر هوى يهوي هوى، ونفس المهوي يسمى هوى ما يهوى، فاتباعه كأتباع السبيل.
كما قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} وكما في لفظ الشهوة، فإتباع الهوى يراد به نفس مسمى المصدر، أي اتباع إرادته ومحبته التي هي هواه وإتباع الإرادة: هو فعل ما تهواه النفس، كقوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15]، وقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، وقال: {وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3]، فلفظ الإتباع يكون للآمر الناهي، وللأمر والنهي، وللمأمور به والمنهي عنه، وهو الصراط المستقيم.
كذلك يكون للهوى أمر ونهي، وهو أمر النفس ونهيها، كما قال تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 53]، ولكن ما يأمر به من الأفعال المذمومة، فأحدها مستلزم للآخر، فإتباع الأمر هو فعل المأمور، وإتباع أمر النفس هو فعل ما تهواه، فعلى هذا يعلم أن اتباع الشهوات، وإتباع الأهواء هو اتباع شهوة النفس، وهواها، وذلك بفعل ما تشتهيه وتهواه.
بل قد يقال: هذا هو الذي يتعين في لفظ اتباع الشهوات والأهواء، لأن الذي يشتهي ويهوى، إنما يصير موجودًا بعد أن يشتهي ويهوى، وإنما يذم الإنسان إذا فعل ما يشتهي ويهوى عند وجوده، فهو حينئذ قد فعل، ولا ينهى عنه بعد وجوده، ولا يقال لصاحبه: لا تتبع هواك.
وأيضًا فالفعل المراد المشتهى، الذي يهواه الإنسان: هو تابع لشهوته وهواه، فليست الشهوة والهوي تابعة له، فإتباع الشهوات هو اتباع شهوة النفس، وإذا جعلت الشهوة بمعنى المشتهى كان مع مخالفة الأصل يحتاج إلى أن يجعل في الخارج ما يشتهي، والإنسان يتبعه كالمرأة المطلوبة، أو الطعام المطلوب، وإن سميت المرأة شهوة والطعام أيضًا، كما في قوله صلى الله عليه وسلم أي: يترك شهوته، وهو إنما يترك ما يشتهيه كما يترك الطعام، لا أنه يدع طعامه بترك الشهوة الموجودة في نفسه، فإن تلك مخلوقة فيه مجبول عليها، وإنما يثاب إذا ترك ما تطلبه تلك الشهوة.
وحقيقة الأمر، أنهما متلازمان، فمن اتبع نفس شهوته القائمة بنفسه اتبع ما يشتهيه، وكذلك من اتبع الهوى القائم بنفسه اتبع ما يهواه، فإن ذلك من آثار الإرادة، وإتباع الإرادة هو امتثال أمرها، وفعل ما تطلبه، كالمأمور الذي يتبع أمر أميره، ولابد أن يتصور مراده الذي يهواه ويشتهيه في نفسه ويتخيله قبل فعله.
فيبقى ذلك المثال كالإمام مع المأموم يتبعه حيث كان، وفعله في الظاهر تبع لإتباع الباطن، فتبقى صورة المراد المطلوب المشتهي التي في النفس هي المحركة للإنسان الآمرة له.
ولهذا يقال: العلة الغائية علة فاعلية، فإن الإنسان للعلة الغائية بهذا التصور والإرادة صار فاعلًا للفعل، وهذه الصورة المرادة المتصورة في النفس هي التي جعلت الفاعل فاعلًا، فيكون الإنسان متبعًا لها، والشيطان يمده في الغي، فهو يقوي تلك الصورة ويقوي أثرها ويزين للناس إتباعها، وتلك الصورة تتناول صورة العين المطلوبة كالمحبوب من الصور والطعام والشراب ويتناول نفس الفعل الذي هو المباشر لذلك المطلوب المحبوب، والشيطان والنفس تحب ذلك، وكلما تصور ذلك المحبوب في نفسه أراد وجوده في الخارج، فإن أول الفكر آخر العمل، وأول البغية آخر الدرك.
ولهذا يبقى الإنسان عند شهوته، وهواه أسيرًا لذلك، مقهورًا تحت سلطان الهوى، أعظم من قهر كل قاهر، فإن هذا القاهر الهوائي، القاهر للعبد، هو صفة قائمة بنفسه، لا يمكنه مفارقته البتة، والصورة الذهنية تطلبها النفس، فإن المحبوب تطلب النفس أن تدركه، وتمثله لها في نفسها، فهو متبع للإرادة.
وإن كانت الذهنية والتزين من الزين والمراد التصور في نفسه.
والمشتهى الموجود في الخارج له محركان: التصور والمشتهى، هذا يحركه تحريك طلب وأمر، وهذا يأمره أن يتبع طلبه وأمره، فإتباع الشهوات والأهواء يتناول هذا كله، بخلاف كل قاهر ينفصل عن الإنسان فإنه يمكنه مفارقته مع بقاء نفسه على حالها، وهذا إنما يفارقه بتغير صفة نفسه.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم .
وقوله في الحديث: هوي متبع، فيه دليل على أن المتبع هو ما قام في النفس.
كقوله: في الشح المطاع، وجعل الشح مطاعًا، لأنه هو الآمر، وجعل الهوى متبعًا، لأن المتبع قد يكون إمامًا يقتدى به ولا يكون آمرًا.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال .
فبين أن الشح يأمر بالبخل والظلم والقطيعة، فالبخل، منع منفعة الناس بنفسه وماله، والظلم، هو الاعتداء عليهم.
فالأول هو التفريط فيما يجب، فيكون قد فرط فيما يجب، واعتدى عليهم بفعل ما يحرم وخص قطيعة الرحم بالذكر إعظامًا لها؛ لأنها تدخل في الأمرين المتقدمين قبلها.
وقال المفسرون في قوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [الحشر: 9]، هو ألا يأخذ شيئًا مما نهاه اللّه عنه، ولا يمنع شيئًا أمره اللّه بأدائه، فالشح يأمر بخلاف أمر الله ورسوله.
فإن اللّه ينهى عن الظلم، ويأمر بالإحسان، والشح يأمر بالظلم، وينهى عن الإحسان.
وقد كان عبد الرحمن بن عوف يكثر في طوافه بالبيت، وبالوقوف بعرفة أن يقول: اللّهم قني شح نفسي، فسئل عن ذلك، فقال: إذا وقيت شح نفسي، وقيت الظلم والبخل والقطيعة.
وفي رواية عنه قال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وماذاك؟ قال: أسمع اللّه يقول: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ}، وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء، فقال: ليس ذاك بالشح الذي ذكره اللّه في القرآن إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلمًا، وإنما يكن بالبخل وبئس الشيء البخل.
وقد ذكر تعالى الشح في سياق ذكر الحسد والإيثار في قوله: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}، ثم قال: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]، فمن وقى شح نفسه لم يكن حسودًا باغيًا على المحسود والحسد أصله بغض المحسود.
والشح يكون في الرجل مع الحرص، وقوة الرغبة في المال، وبغض للغير وظلم له، كما قال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا . أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} الآيات إلى قوله: {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [الأحزاب: 18- 19]، فشحهم على المؤمنين، وعلى الخير يتضمن كراهيته وبغضه، وبغض الخير يأمر بالشر، وبغض الإنسان يأمر بظلمه، وقطيعته كالحسد، فإن الحاسد يأمر حاسده بظلم المحسود وقطيعته، كابني آدم وإخوة يوسف.
فالحسد والشح، يتضمنان بغضًا وكراهية، فيأمران بمنع الواجب وبظلم ذلك الشخص، فإن الفعل صدر فيه عن بغض، بخلاف الهوى فإن الفعل صدر فيه عن حب أحب شيئًا فاتبعه ففعله، وذلك مقصوده أمر عدمي والعدم لا ينفع.
ولكن ذاك القصد أمر بأمر وجودي، فأطيع أمره.
وابن مسعود جعل البخل خارجًا عن الشح والنبي صلى الله عليه وسلم جعل الشح يأمر بالبخل.
ومن الناس من يقول: الشح، والبخل سواء.
كما قال ابن جرير: الشح في كلام العرب هو البخل، ومنع الفضل من المال.
وليس كما قال: بل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وابن مسعود أحق أن يتبع ، فإن البخيل قد يبخل بالمال محبة لما يحصل لـه به من اللذة والتنعم، وقد لا يكون متلذذًا به ولا متنعمًا بل نفسه تضيق عن إنفاقه وتكره ذلك حتى يكون يكره، أن ينفع نفسه منه مع كثرة ماله، وهذا قد يكون مع التذاذه بجمع المال ومحبته لرؤيته.
وقد لا يكون هناك لذة أصلا، بل يكره أن يفعل إحسانًا إلى أحد حتى لو أراد غيره أن يعطي كره ذلك منه بغضًا للخير لا للمعطي ولا للمعطي، بل بغضًا منه للخير وقد يكون بغضًا وحسدًا للمعطي، أو للمعطي وهذا هو الشح وهذا هو الذي يأمر بالبخل قطعًا، ولكن كل بخل يكون عن شح، فكل شحيح بخيل وليس كل بخيل شحيحًا.
قال الخطابي: الشح أبلغ في المنع من البخل، والبخل إنما هو من أفراد الأمور وخواص الأشياء، والشح عام، فهو كالوصف اللازم للإنسان من قبل الطبع والجبلة.
وحكى الخطابي عن بعضهم أنه قال: البخل: أن يظن الإنسان بماله، والشح: أن يضن بماله ومعروفه، وقيل: الشح: أن يشح بمعروف غيره على غيره، و البخل: أن يبخل بمعروفه على غيره والذين يتبعون الشهوات، ويتبعون أهواءهم يحبون ذلك ويريدونه، فاتبعوا محبتهم وإرادتهم من غير علم، فلم ينظروا هل ذلك نافع لهم في العاقبة أو ضار.
ولهذا قال: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} ثم قال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِِ} [القصص: 50]، وإتباع الهوى درجات: فمنهم المشركون والذين يعبدون من دون اللّه ما يستحسنون بلا علم، ولا برهان، كما قال: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]، أي يتخذ إلهه الذي يعبده وهو ما يهواه من آلهة، ولم يقل: إن هواه نفس إلهه فليس كل من يهوي شيئًا يعبده، فإن الهوى أقسام بل المراد أنه جعل المعبود الذي يعبده هو ما يهواه، فكانت عبادته تابعة لهوى نفسه في العبادة، فإنه لم يعبد ما يحب أن يعبد، ولا عبد العبادة التي أمر بها.
وهذه حال أهل البدع، فإنهم عبدوا غير اللّه، وابتدعوا عبادات زعموا أنهم يعبدون اللّه بها، فهم إنما اتبعوا أهواءهم، فإن أحدهم يتبع محبة نفسه وذوقها ووجدها وهواها من غير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير.
فلو اتبع العلم والكتاب المنير، لم يعبد إلا اللّه بما شاء، لا بالحوادث والبدع.
والمقصود أن الآلهة كثيرة، والعبادات لها متنوعة، وبالجملة فكل ما يريده الإنسان ويحبه لابد أن يتصوره في نفسه، فتلك الصورة العلمية محركة له إلى محبوبه ولوازم الحب، فمن عبده عبد غير اللّه، وتمثلت له الشياطيـن في صورة من يعبـده، وهذا كثير ما زال ولم يزل؛ ولهذا كان كل من عبد شيئًا غير اللّه، فإنما يعبد الشيطان؛ ولهذا يقارن الشيطان الشمس عند طلوعها وغروبها، واستوائها ليكون سجود من يعبدها له.
وقد كانت الشياطين، تتمثل في صورة من يعبد، كما كانت تكلمهم من الأصنام التي يعبدونها، وكذلك في وقتنا خلق كثير من المنتسبين إلى الإسلام، والنصارى والمشركين ممن أشرك ببعض من يعظمه من الأحياء والأموات من المشايخ وغيرهم، فيدعوه ويستغيث به في حياته وبعد مماته، فيراه قد أتاه وكلمه وقضى حاجته، وإنما هو شيطان تمثل على صورته، ليغوى هذا المشرك.
والمبتلون بالعشق، لا يزال الشيطان يمثل لأحدهم صورة المعشوق، أو يتصور بصورته، فلا يزال يرى صورته، مع مغيبه عنه بعد موته، فإنما جلاه الشيطان على قلبه، ولهذا إذا ذكر العبد اللّه الذكر الذي يخنس منه الوسواس الخناس خنس هذا المثال الشيطاني، وصورة المحبوب تستولى على المحب أحيانًا حتى لا يرى غيرها، ولا يسمع غير كلامها، فتبقى نفسه مشتغلة بها.
والذين يسلكون في محبة اللّه مسلكا ناقصًا، يحصل لأحدهم نوع من ذلك يسمى الاصطلام والفناء، يغيب بمحبوبه عن محبته، وبمعروفه عن معرفته، وبمذكوره عن ذكره، حتى لا يشعر بشيء من أسماء اللّه وصفاته وكلامه وأمره ونهيه.
ومنهم من قد ينتقل من هذا إلى الاتحاد.
فيقول: أنا هو، وهو أنا، وأنا اللّه، ويظن كثير من المسالكين، أن هذا هو غاية السالكين، وأن هذا هو التوحيد، الذي هو نهاية كل سالك، وهم غالطون في هذا، بل هذا من جنس قول النصارى، ولكن ضلوا لأنهم لم يسلكوا الطريق الشرعية في الباطن في خبر اللّه وأمره.
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
والمقصود أن المتبعين لشهواتهم من الصور والطعام والشراب واللباس، يستولى على قلب أحدهم مايشتهيه حتى يقهره ويملكه، ويبقى أسيرًا ما يهواه، يصرفه كيف تصرف ذلك المطلوب؛ ولهذا قال بعض السلف: ما أنا على الشاب الناسك بأخوف مني عليه من سبع ضار يثب عليه من صبي حدث يجلس إليه.
وذلك أن النفس الصافية التي فيها رقة الرياضة، ولم تنجذب إلى محبة اللّه وعبادته انجذابًا تامًا، ولا قام بها من خشية اللّه التامة ما يصرفها عن هواها متى صارت تحت صورة من الصور استولت تلك الصورة عليها.
كما يستولى السبع على ما يفترسه، فالسبع يأخذ فريسته بالقهر، ولا تقدر الفريسة على الامتناع منه.
كذلك ما يمثله الإنسان في قلبه من الصور المحبوبة، تبتلع قلبه وتقهره، فلا يقدر قلبه على الامتناع منه، فيبقى قلبه مستغرقًا في تلك الصورة أعظم من استغراق الفريسة في جوف الأسد؛ لأن المحبوب المراد هو غاية النفس، له عليها سلطان قاهر.
والقلب يغرق فيما يستولى عليه، إما من محبوب وإما من مخوف، كما يوجد من محبة المال والجاه والصور، والخائف من غيره يبقى قلبه وعقله مستغرقًا فيه، كما يغرق الغريق في الماء، فلابد أن يستولى عليها ما يحيط بها من الأجسام، والقلوب يستولى عليها ما يتمثل لها من المخاوف، والمحبوبات والمكروهات، فالمحبوب يطلبه، والمكروه يدفعه، والرجاء يتعلق بالمحبوب والخوف يتعلق بالمكروه، ولا يأتي بالحسنات إلا اللّه، ولا يذهب السيئات إلا اللّه {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107] {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53].
وإذا دعا العبد ربه بإعطاء المطلوب، ودفع المرهوب، جعل له من الإيمان باللّه، ومحبته، ومعرفته، وتوحيده، ورجائه، وحياة قلبه، واستنارته بنور الإيمان ما قد يكون أنفع له من ذلك المطلوب إن كان عرضًا من الدنيا، وأما إذا طلب منه أن يعينه على ذكره وشكره وحسن عبادته وما يتبع ذلك، فهنا المطلوب قد يكون أنفع من الطلب.
وهو الدعاء والمطلوب الذكر والشكر، وقيام العبادة على أحسن الوجوه وغير ذلك.
وهذا لبسطه موضع آخر.
والمقصود أن القلب قد يغمره، فيستولى عليه ما يريده العبد، ويحبه، وما يخافه ويحذره، كائنا من كان؛ ولهذا قال تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ}[المؤمنون: 36]، فهي فيما يغمرها عما أنذرت به، فيغمرها ذلك عن ذكر اللّه والدار الآخرة وما فيها من النعيم، والعذاب الأليم.
قال اللّه تعالى: {فّذّرًهٍمً فٌي غّمًرّتٌهٌمً حّتَّى" حٌينُ}[المؤمنون: 54]، أي فيما يغمر قلوبهم من حب المال والبنين المانع لهم من المسارعة في الخيرات، والأعمال الصالحة.
وقال تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} الآيات [الذاريات: 10- 11]، أي ساهون عن أمر الآخرة، فهم في غمرة عنها، أي فيما يغمر قلوبهم من حب الدنيا ومتاعها، ساهون عن أمر الآخرة، وما خلقوا له.
وهذا يشبه قوله: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، فالغمرة تكون من اتباع الهوى، والسهو من جنس الغفلة؛ ولهذا قال من قال: السهو: الغفلة عن الشيء، وذهاب القلب عنه، وهذا جماع الشر الغفلة، والشهوة.
فالغفلة عن اللّه والدار الآخرة تسد باب الخير، الذي هو الذكر واليقظة.
والشهوة تفتح باب الشر والسهو والخوف، فيبقى القلب مغمورًا فيما يهواه ويخشاه، غافلًا عن اللّه، رائدًا غير اللّه، ساهيًا عن ذكره، قد اشتغل بغير اللّه، قد انفرط أمره، قد ران حب الدنيا على قلبه، كما روى في صحيح البخاري، وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال .
جعله عبد ما يرضيه وجوده ويسخطه فقده، حتى يكون عبد الدرهم، وعبد ما وصف في هذا الحديث، والقطيفة: هي التي يجلس عليها، فهو خادمها، كما قال بعض السلف: البس من الثياب ما يخدمك، ولا تلبس منها ما تكن أنت تخدمه، وهي كالبساط الذي تجلس عليه، والخميصة: هي التي يرتدي بها، وهذا من أقل المال.
وإنما نبه به النبي صلى الله عليه وسلم على ما هو أعلي منه، فهو عبد لذلك، فيه أرباب متفرقون، وشركاء متشاكسون.
ولهذا قال .
فما كان يرضى الإنسان حصوله ويسخطه فقده، فهو عبده، إذ العبد يرضى باتصاله بهما، ويسخط لفقدهما.
والمعبود الحق الذي لا إله إلا هو إذا عبده المؤمن وأحبه حصل للمؤمن بذلك في قلبه إيمان، وتوحيد ومحبة، وذكر، وعبادة، فيرضى بذلك، وإذا منع من ذلك غضب.
وكذلك من أحب شيئًا، فلا بد أن يتصوره في قلبه، ويريد اتصاله به بحسب الإمكان.
قال الجنيد: لا يكون العبد عبدًا حتى يكون مما سوى اللّه تعالى حرًا. وهذا مطابق لهذا الحديث، فإنه لا يكون عبدًا للّه خالصًا مخلصًا دينه للّه كله، حتى لا يكون عبدًا لما سواه، ولا فيه شعبة، ولا أدنى جزء من عبودية ما سوى اللّه، فإذا كان يرضيه، ويسخطه غير اللّه فهو عبد لذلك الغير، ففيه من الشرك بقدر محبته، وعبادته لذلك الغير زيادة.
قال الفضيل بن عياض: واللّه ما صدق اللّه في عبوديته، من لأحد من المخلوقين عليه ربانية، وقال زيد بن عمرو بن نفيل:
أربا ًواحدًا، أم ألف رب ** أدين إذا انقسمت الأمور؟!
روى الإمام أحمد والترمذي، والطبراني، من حديث أسماء بنت عميس، قالت: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال الترمذي: غريب.
وفي الحديث الصحيح المتقدم ما يقويه.
وكذلك أحاديث وآثار كثيرة رويت في معنى ذلك.
كما قال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].
والمؤمناسة ولو بالباطل ترضيه الكلمة التي فيها تعظيمه وإن كانت باطلًا، وتغضبه الكلمة التي فيها ذمه وإن كانت حقًا. والمؤمن ترضيه كلمة الحق له وعليه، وتغضبه كلمة الباطل له وعليه؛ لأن اللّه تعالى يحب الحق، والصدق، والعدل، ويبغض الكذب، والظلم.
فإذا قيل: الحق والصدق والعدل الذي يحبه اللّه أحبه، وإن كان فيه مخالفة هواه؛ لأن هواه قد صار تبعًا لما جاء به الرسول. وإذا قيل: الظلم والكذب، فاللّه يبغضه، والمؤمن يبغضه، ولو وافق هواه.
وكذلك طالب المال ولو بالباطل كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] وهؤلاء هم الذين قال فيهم الحديث.
فكيف إذا استولى على القلب ما هو أعظم استعبادًا من الدرهم والدينـار، من الشهوات والأهواء، والمحبوبات التي تجذب القلب عن كمال محبته للّه وعبادته؟ ! لما فيها من المزاحمة والشرك بالمخلوقات، كيف تدفع القلب، وتزيغه عن كمال محبته لربه وعبادته وخشيته؛ لأن كل محبوب يجذب قلب محبه إليه، ويزيغه عن محبة غير محبوبه، وكذلك المكروه يدفعه، ويزيله، ويشغله عن عبادة اللّه تعالى.
ولهذا روى الإمام أحمد في مسنده وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه .
وكذلك الذين يحبون العبد كأصدقائه، والذين يبغضونه كأعدائه، فالذين يحبونه يجذبونه إليهم.
فإذا لم تكن المحبة منهم له للّه، كان ذلك مما يقطعه عن اللّه، والذين يبغضونه يؤذونه ويعادونه فيشغلونه بأذاهم عن اللّه، ولو أحسن إليه أصدقاؤه الذين يحبونه، لغير اللّه أوجب إحسانهم إليه محبته لهم، وإنجذاب قلبه إليهم.
ولو كان على غير الاستقامة، وأوجب مكافأته لهم، فيقطعونه عن اللّه وعبادته.
فلا تزول الفتنة عن القلب، إلا إذا كان دين العبد كله للّه عز وجل، فيكون حبه للّه ولما يحبه اللّه، ويبغضه للّه، ولما يبغضه اللّه، وكذلك موالاته ومعاداته، وإلا فمحبة المخلوق تجذبه، وحب الخلق له سبب يجذبهم به إليه، ثم قد يكون هذا أقوى، وقد يكون هذا أقوى، فإذا كان هو غالبًا لهواه لم يجذبه مغلوب مع هواه، ولا محبوباته إليها؛ لكونه غلبًا لهواه ناهيًا لنفسه عن الهوى، لما في قلبه من خشية اللّه، ومحبته التى تمنعه عن انجذابه إلى المحبوبات.
وأما حب الناس له، فإنه يوجب أن يجذبوه هم بقوتهم إليهم، فإن لم يكن فيه قوة يدفعهم بها عن نفسه من محبة اللّه، وخشيته وإلا جذبوه وأخذوه إليهم، كحب امرأة العزيز ليوسف، فإن قوة يوسف ومحبته للّه وإخلاصه وخشيته، كانت أقوى من جمال امرأة العزيز وحسنها وحبه لها، هذا إذا أحب أحدهم صورته، مع أن هنا الداعي قوي منه ومنهم، فهنا المعصوم من عصمه اللّه، وإلا فالغالب على الناس في المحبة من الطرفين، أنه يقع بعض الشر بينهم.
ولهذا قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
وقد يحبونه لعلمه أو دينه أو إحسانه أو غير ذلك، فالفتنة في هذا أعظم، إلا إذا كانت فيه قوة إيمانية، وخشية وتوحيد تام، فإن فتنة العلم والجاه والصور فتنة لكل مفتون.
وهم مع ذلك يطلبون منه مقاصدهم، إن لم يفعلها وإلا نقص الحب، أو حصل نوع بغض، وربما زاد أو أدى إلى الانسلاخ من حبه، فصار مبغوضًا بعد أن كان محبوبا، فأصدقاء الإنسان يحبون استخدامه واستعماله في أغراضهم، حتى يكون كالعبد لهم، وأعداؤه يسعون في أذاه وإضراره، وأولئك يطلبون منه انتفاعهم، وإن كان مضرًا له مفسدًا لدينه لا يفكرون في ذلك.
وقليل منهم الشكور.
فالطائفتان في الحقيقة لا يقصدون نفعه ولا دفع ضرره، وإنما يقصدون أغراضهم به، فإن لم يكن الإنسان عابدًا اللّه، متوكلًا عليه مواليًا له ومواليًا فيه ومعاديًا، وإلا أكلته الطائفتان، وأدى ذلك إلى هلاكه في الدنيا والآخرة.
وهذا هو المعروف من أحوال بني آدم، وما يقع بينهم من المحاربات والمخاصمات والاختلاف والفتن.
قوم يوالون زيدًا، ويعادون عمرًا.
وآخرون بالعكس؛ لأجل أغراضهم، فإذا حصلوا على أغراضهم ممن يوالونه وما هم طالبونه من زيد انقلبوا إلى عمرو، وكذلك أصحاب عمرو، كما هو الواقع بين أصناف الناس.
وكذلك الرأس، من الجانبين، يميل إلى هؤلاء الذين يوالونه، وهم إذا لم تكن الموالاة للّه أضر عليه من أولئك، فإن أولئك إنما يقصدون إفساد دنياه إما بقتله، أو بأخذ ماله، وإما بإزالة منصبه، وهذا كله ضرر دنيوي، لا يعتد به إذا سلم العبد، وهو عكس حال أهل الدنيا ومحبيها الذين لا يعتدون بفساد دينهم مع سلامة دنياهم.
فهم لا يبالون بذلك.
وأما "دين العبد" الذي بينه وبين اللّه فهم لا يقدرون عليه.
وأما أولياءه الذين يوالونه للأغراض، فإنما يقصدون منه فساد دينه بمعاونته على أغراضهم وغير ذلك، فإن لم يفعل انقلبوا أعداء، فدخل بذلك عليه الأذى من جهتين:
من جهة مفارقتهم، ومن جهة عداوتهم.
وعداوتهم أشد عليه من عداوة أعدائه؛ لأنهم قد شاهدوا منه.
وعرفوا مالم يعرفه أعداؤه.
فاستجلبوا بذلك عداوة غيرهم، فتتضاعف العداوة.
وإن لم يحب مفارقتهم، احتاج إلى مداهنتهم، ومساعدتهم على ما يريدونه، وإن كان فيه فساد دينه. فإن ساعدهم على نيل مرتبة دنيوية ناله مما يعملون فيها نصيبًا وافرًا وحظًا تامًا من ظلمهم وجورهم، وطلبوا منه أيضًا أن يعاونهم على أغراضهم، ولو فاتت أغراضه الدنيوية.
فكيف بالدينية إن وجدت فيه أو عنده !! فإن الإنسان ظالم جاهل، لا يطلب إلا هواه.
فإن لم يكن هذا في الباطن يحسن إليهم. ويصبر على أذاهم.
ويقضى حوائجهم للّه، وتكون استعانته عليهم باللّه تامة، وتوكله على اللّه تام.
وإلا أفسدوا دينه ودنياه، كما هو الواقع المشاهد من الناس، ممن يطلب الرئاسة الدنيوية، فإنه يطلب منه من الظلم والمعاصي ما ينال به تلك الرئاسة، ويحسن له هذا الرأي، ويعاديه إن لم يقم معه، كما قد جرى ذلك مع غير واحد.
وذلك يجري فيمن يحب شخصًا لصورته، فإنه يخدمه، ويعظمه، ويعطيه ما يقدر عليه، ويطلب منه من المحرم ما يفسد دينه.
وفيمن يحب صاحب بدعة؛ لكونه له داعية إلى تلك البدعة، يحوجه إلى أن ينصر الباطل الذي يعلم أنه باطل، وإلا عاداه؛ ولهذا صار علماء الكفار، وأهل البدع مع علمهم بأنهم على الباطل ينصرون ذلك الباطل؛ لأجل الأتباع والمحبين، ويعادون أهل الحق ويهجنون طريقهم.
فمن أحب غير اللّه، ووالى غيره، كره محب اللّه ووليه، ومن أحب أحدًا لغير اللّه كان ضرر أصدقائه عليه أعظم من ضرر أعدائه، فإن أعداءه غايتهم أن يحولوا بينه وبين هذا المحبوب الدنيوي، والحيلولة بينه وبينه رحمة في حقه، وأصدقاؤه يساعدونه على نفي تلك الرحمة، وذهابها عنه، فأي صداقة هذه؟! ويحبون بقاء ذلك المحبوب؛ ليستعملوه في أغراضهم، وفيما يحبونه، وكلاهما ضرر عليه.
قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166]، قال الفضيل بن عياض عن ليث عن مجاهد: هي المودات التي كانت لغير اللّه، والوصلات التي كانت بينهم في الدنيا {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ} [البقرة: 167].
فالأعمال التي أراهم اللّه حسرات عليهم: هي الأعمال التي يفعلها بعضهم، مع بعض في الدنيا كانت، لغير اللّه، ومنها الموالاة، والصحبة، والمحبة، لغير اللّه.
فالخير كله في أن يعبد اللّه وحده لا يشرك به شيئًا، ولا حول ولا قوة إلا باللّه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء العاشر.
في الصراط المستقيم، في الزهد والعبادة والورع، في ترك المحرمات والشهوات، والاقتصاد، في العبادة. وإن لزوم السنة هو يحفظ من شر النفس والشيطان بدون الطرق المبتدعة، فإن أصحابها لابد أن يقعوا في الآصار والأغلال، وإن كانوا متأولين، فلابد لهم من اتباع الهوى، ولهذا سمى أصحاب البدع أصحاب الأهواء، فإن طريق السنة علم وعدل وهدي، وفي البدعة جهل وظلم، وفيها اتباع الظن وما تهوى الأنفس.
والرسول، ما ضل وما غوى، والضلال: مقرون بالغي، فكل غاو ضال، والرشد ضد الغي والهدى ضد الضلال، وهو مجانبة طريق الفجار وأهل البدع، كما كان السلف ينهون عنهما، قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59].
والغي في الأصل: مصدر غوي يغوي غيًا، كما يقال: لوى يلوي ليًا.
وهو ضد الرشد، كما قال تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: 146].
والرشد: العمل الذي ينفع صاحبه، والغي: العمل الذي يضر صاحبه، فعمل الخير رشد، وعمل الشر غي، ولهذا قالت الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}[الجن: 10]، فقابلوا بين الشر وبين الرشد، وقال في آخر السورة: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا}[الجن: 21]، ومنه الرشيد، الذي يسلم إليه ماله.
وهو الذي يصرف ماله فيما ينفع لا فيما يضر.
وقال الشيطان: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82- 83]، وهو أن يأمرهم بالشر الذي يضرهم فيطيعونه، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}[إبراهيم: 22]، وقال: {وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} إلى أن قال: {ََكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء: 91ـ95]، وقال: {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا}[القصص: 63]، وقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2].
ثم إن الغي، إذا كان اسمًا لعمل الشر الذي يضر صاحبه، فإن عاقبة العمل أيضًا تسمى غيًا، كما أن عاقبة الخير تسمى رشدًا، كما يسمى عاقبة الشر شرًا، وعاقبة الخير خيرًا، وعاقبة الحسنات حسنات، وعاقبة السيئات سيئات.
فالحسنات والسيئات، في كتاب اللّه يراد بها أعمال الخير وأعمال الشر، كما يراد بها النعم والمصائب والجزاء من جنس العمل، فمن عمل خيرًا وحسنات لقي خيرًا وحسنات، ومن عمل شرًا وسيئات لقي شرًا وسيئات.
كذلك من عمل غيًا لقى غيًا، وترك الصلاة واتباع الشهوات غي يلقي صاحبه غيًا.
فلهذا قال الزمخشري: كل شر عند العرب غي، وكل خير رشاد.
كما قيل:
فمن يلق خيرًا يحمد الناس أمره ** ومن يغو لا يعدم على الغي لائمًا
وقال الزجاج: جزاؤه غي، لقوله: {يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68]، أي مجازات آثام.
وفي الحديث المأثور: إن غيا واد في جهنم تستعيذ منه أوديتها، وهذا تعبير عن ملاقات الشر، وقال سبحانه: {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ}[مريم: 59]، فإن الصلاة فيها إرادة وجه اللّه.
كما قال تعالى: {وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]، أي يصلون صلاة الفجر والعصر.
والداعي يقصد ربه ويريده، فتكون القلوب في هذه الأشياء مريدة لربها محبة له.
وإتباع الشهوات: هو اتباع ما تشتهيه النفس، فإن الشهوات، جمع شهوة، والشهوة هي في الأصل مصدر، ويسمي المشتهي شهوة. تسمية للمفعول باسم المصدر.
قال تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27] فجعل التوبة في مقابلة اتباع الشهوات، فإنه يريد أن يتوب علينا، أي فاللّه يحب لنا ذلك ويرضاه ويأمر به، {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} وهم الغاوون{أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} يعدل بكم عن الصراط المستقيم إلى اتباع الشهوات عدولًا عظيمًا، فإن أصل الميل العدول، فلابد منه للذين يتبعون الشهوات، كما قال صلى الله عليه وسلم رواه أحمد وابن ماجه من حديث ثوبان.
فأخبر أنا لا نطيق الاستقامة أو ثوابها إذا استقمنا، وقال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129]، فقوله: كل الميل أي: يريد نهاية الميل، يريد الزيغ عن الطريق، والعدول عن سواء الصراط إلى نهاية الشر، بل إذا بليت بذلك فتوسط، وعد إلى الطريق بالتوبة.
كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} إلى قـوله: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133ـ 136]، فلم يقل: لا يظلمون ولا يذنبون، بل قال: {إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 135]، أي بذنب آخر غير الفاحشة، فعطف العام على الخاص.
كما قال موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [القصص: 16]، وقالت بلقيس: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [النمل: 44]، وقال تعالي عمومًا عن أهل القرى المهلكة: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} [هود: 101]، فظلموا أنفسهم بارتكابهم ما نهوا عنه، وبعصيانهم لأنبيائهم، وبتركهم التوبة إلى ربهم.
وقوله تعالى: {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135]؛ ولهذا قال: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27]، ثم قال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا}[النساء: 28].
قال مجاهد وغيره: يتبعون الشهوات الزنا، وقال ابن زيد: هم أهل الباطل.
وقال السدي: هم اليهود والنصارى والجميع حق، فإنهم قد يتبعون الشهوات مع الكفر، وقد يكون مع الاعتراف بأنها معصية.
ثم ذكر أنه خلق الإنسان ضعيفًا، وسياق الكلام يدل على أنه ضعيف عن ترك الشهوات.
فلابد له من شهوة مباحة يستغنى بها عن المحرمة، ولهذا قال طاوس ومقاتل: ضعيف في قلة الصبر عن النساء، وقال الزجاج وابن كيسان: ضعيف العزم عن قهر الهوى.
وقيل: ضعيف في أصل الخلقة، لأنه خلق من ماء مهين، يروي ذلك عن الحسن، لكن لابد أن يوجد مع ذلك أنه ضعيف عن الصبر؛ ليناسب ما ذكر في الآية، فإنه قال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} وهو تسهيل التكليف بأن يبيح لكم ما تحتاجون إليه ولا تصبروا عنه.
كما أباح نكاح الفتيات، وقد قال قبل ذلك: {لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النساء: 25].
فهو سبحانه مع إباحته نكاح الإماء عند عدم الطول، وخشية العنت، قال: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النساء: 25]، فدل ذلك على أنه يمكن الصبر مع خشية العنت، وأنه ليس النكاح كإباحة الميتة عند المخمصة، فإن ذلك لا يمكن الصبر عنه.
وكذلك من أباح الاستمناء، عند الضرورة فالصبر عن الاستمناء أفضل، فقد روى عن ابن عباس: أن نكاح الإماء خير منه، وهو خير من الزنا، فإذا كان الصبر عن نكاح الإماء أفضل فعن الاستمناء بطريق الأولى أفضل.
لا سيما وكثير من العلماء أو أكثرهم يجزمون بتحريمه مطلقًا، وهو أحد الأقوال في مذهب أحمد.
واختاره ابن عقيل في المفردات والمشهور عنه يعني عن أحمد أنه محرم إلا إذا خشي العنت.
والثالث أنه مكروه إلا إذا خشي العنت.
فإذا كان اللّه قد قال في نكاح الإماء: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ففيه أولى. وذلك يدل على أن الصبر عن كلاهما ممكن.
فإذا كان قد أباح ما يمكن الصبر عنه، فذلك لتسهيل التكليـف، كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا}.
و الاستمناء لا يباح عند أكثر العلماء سلفًا وخلفًا سواء خشي العنت أو لم يخش ذلك. وكلام ابن عباس وما روى عن أحمد فيه إنما هو لمن خشي العنت، وهو الزنا واللواط خشية شديدة خاف على نفسه من الوقوع في ذلك؛ فأبيح له ذلك لتكسير شدة عنته وشهوته.
وأما من فعل ذلك تلذذًا أو تذكرًا أو عادة، بأن يتذكر في حال استمنائه صورة كأنه يجامعها.
فهذا كله محرم لا يقول به أحمد، ولا غيره وقد أوجب فيه بعضهم الحد والصبر عن هذا من الواجبات لا من المستحبات.
وأما الصبر عن المحرمات فواجب، وإن كانت النفس تشتهيها وتهواها.
قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33]، و الاستعفاف: هو ترك المنهي عنه. كما في الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال .
فالمستغني، لا يستشرف بقلبه.
و المستعف: هو الذي لا يسأل الناس بلسانه، والمتصبر: هو الذي لا يتكلف الصبر. فأخبر أنه من يتصبر يصبره اللّه.
وهذا كأنه في سياق الصبرعلى الفاقة، بأن يصبر على مرارة الحاجة، لا يجزع مما ابتلى به من الفقر، وهو الصبر في البأساء والضراء.
قال تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177] .
والضراء: المرض.
وهو الصبر على ما ابتلى به من حاجة ومرض وخوف.
والصبر على ما ابتلى به باختياره، كالجهاد، فإن الصبر عليه أفضل من الصبر على المرض الذي يبتلى به بغير اختياره، ولذلك إذا ابتلى بالعنت في الجهاد فالصبر على ذلك أفضل من الصبر عليه في بلده؛ لأن هذا الصبر من تمام الجهاد.
وكذلك لو ابتلى في الجهاد بفاقة، أو مرض حصل بسببه كان الصبر عليه أفضل.
كما قد بسط هذا في مواضع.
وكذلك ما يؤذي الإنسان به في فعله للطاعات، كالصلاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وطلب العلم من المصائب، فصبره عليها أفضل من صبره على ما ابتلى به بدون ذلك، وكذلك إذا دعته نفسه إلى محرمات: من رئاسة، وأخذ مال، وفعل فاحشة كان صبره عنه أفضل من صبره على ما هو دون ذلك، فإن أعمال البر، كلما عظمت كان الصبر عليها أعظم مما دونهما.
فإن في العلم، والإمارة، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلاة، والحج، والصوم، والزكاة، من الفتن النفسية وغيرها ما ليس في غيرها.
ويعرض في ذلك ميل النفس إلى الرئاسة والمال والصور.
فإذا كانت النفس غير قادرة على ذلك لم تطمع فيه، كما تطمع مع القدرة، فإنها مع القدرة تطلب تلك الأمور المحرمة، بخلاف حالها بدون القدرة فإن الصبر مع القدرة جهاد، بل هو من أفضل الجهاد.
وأكمل من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الصبر عن المحرمات، أفضل من الصبر على المصائب.
الثاني: أن ترك المحرمات مع القدرة عليها، وطلب النفس لها، أفضل من تركها بدون ذلك.
الثالث: أن طلب النفس لها إذا كان بسبب أمر ديني كمن خرج لصلاة، أو طلب علم، أو جهاد، فابتلى بما يميل إليه من ذلك فإن صبره عن ذلك يتضمن فعل المأمور وترك المحظور، بخلاف ما إذا مالت نفسه إلى ذلك بدون عمل صالح، ولهذا كان يونس ابن عبيد يوصي بثلاث يقول: لا تدخل على سلطان، وإن قلت: آمره بطاعة اللّه.
ولا تدخل علي امرأة: وإن قلت: أعلمها كتاب اللّه، ولا تصغ أذنك إلى صاحب بدعة، وإن قلت أرد عليه.
فأمره بالاحتراز من أسباب الفتنة، فإن الإنسان إذا تعرض لذلك فقد يفتتن ولا يسلم.
فإذا قدر أنه ابتلى بذلك بغير اختياره أو دخل فيه باختياره، وابتلى، فعليه أن يتقى اللّه ويصبر ويخلص ويجاهد.
وصبره على ذلك وسلامته مع قيامه بالواجب، من أفضل الأعمال، كمن تولى ولاية وعدل فيها، أو رد على أصحاب البدع بالسنة المحضة، ولم يفتنوه، أو علم النساء الدين على الوجه المشروع من غير فتنة.
لكن اللّه إذا ابتلى العبد وقدر عليه أعانه، وإذا تعرض العبد بنفسه إلى البلاء وكله اللّه إلى نفسه.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة وكذلك قال في الطاعون فمن فعل ما أمره اللّه به فعرضت له فتنة من غير اختياره، فإن اللّه يعينه عليها بخلاف من تعرض لها.
لكن باب التوبة مفتوح، فإن الرجل قد يسأل الإمارة فيوكل إليها، ثم يندم فيتوب من سؤاله فيتوب اللّه عليه ويعينه، إما على إقامة الواجب، وإما على الخلاص منها، وكذلك سائر الفتن.
كماقال: {قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]، وهذه الأمور تحتاج إلى بسط لا يتسع له هذا الموضع.
والمقصود أن اللّه سبحانه يريد أن يبين لنا، ويهدينا سنن الذين من قبلنا الذين قال فيهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ}[الأنعام: 90]، وهم الذين أمرنا أن نسأله الهداية لسبيلهم في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6، 7] فهو يحب لنا ويأمرنا أن نتبع صراط هؤلاء، وهو سبيل من أناب إليه، فذكر هنا ثلاثة أمور: البيان، والهداية، والتوبة.
وقيل: المراد بالسنن هنا سنن أهل الحق والباطل، أي: يريد أن يبين لنا سنن هؤلاء وهؤلاء، فيهدي عباده المؤمنين إلى الحق، ويضل آخرين، فإن الهدى والضلال إنما يكون بعد البيان.
كما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[إبراهيم: 4]، وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ}[التوبة: 115].
فتكون {سُنَنَ} [النساء: 26]، متعلقًا بيبين يعني سنن أهل الباطل لا بيهدي، وأهل الحق متعلق بقوله: ويهديكم.
وقال الزجاج: السنن الطرق، فالمعنى يدلكم على طاعته، كما دل الأنبياء وتابعيهم.
وهذا أولى، لأنه قد يقدم فعلين فلا يجعل الأول هوالعامل وحده، بل العامل إما الثاني وحده. وإما الاثنان، كقوله: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96].
أو إذا أريد هذا التقدير: يبين لكم سنن الذين من قبلكم، ويهديكم سننًا. فدل علي أنه يهدينا سننهم.
والمراد بذلك سنن أهل الحق، بخلاف قوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} فإنه قال بعدها: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137]، فإنه أراد تعريف عقوبة الظالمين بالعيان، وهنا فأنزل علينا من القرآن ما يهدينا به سنن الذين من قبلنا، وهم الذين أنعم اللّه عليهم. وذكر ثلاثة أمور: التبيين، والهدى، والتوبة.
لأن الإنسان أولا يحتاج إلى معرفة الخير والشر، وما أمر به وما نهى عنه، ثم يحتاج بعد ذلك إلى أن يهدي، فيقصد الحق ويعمل به دون الباطل.
وهو سنن الأنبياء والصالحين.
ثم لابد له بعد ذلك من الذنوب، فيريد أن يتطهر منها بالتوبة فهو محتاج إلى العلم والعمل به.
وإلى التوبة مع ذلك.
فلابد له من التقصير، أو الغفلة في سلوك تلك السنن التي هداه اللّه إليها.
فيتوب منها بما وقع من تفريط في كل سنة من تلك السنن.
وهذه السنن: تدخل فيها الواجبات والمستحبات، فلابد للسالك فيها من تقصير وغفلة، فيستغفر اللّه، ويتوب إليه.
فإن العبد لو اجتهد مهما اجتهد لا يستطيع أن يقوم للّه بالحق الذي أوجبه عليه، فما يسعه إلا الاستغفار والتوبة عقيب كل طاعة.
وقد يقال: الهداية، هنا البيان والتعريف، أي: يعرفكم سنن الذين من قبلكم، من أهل السعادة والشقاوة؛ لتتبعوا هذه وتجتنبوا هذه، كما قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]، قال علي وابن مسعود: سبيل الخير والشر.
وعن ابن عباس: سبيل الهدى والضلال.
وقال مجاهد: سبيل السعادة والشقاوة، أي فطرناه على ذلك، وعرفناه إياه، والجميع واحد.
والنجدان الطريقان الواضحان، والنجد المرتفع من الأرض، فالمعنى ألم نعرفه طريق الخير والشر ونبينه له، كتبيين الطريقين العاليين، لكن الهدى والتبيين والتعريف في هذه الآية يشترك فيه بنو آدم، ويعرفونه بعقولهم.
وأما طريق من تقدم من الأنبياء، فلا بد من إخبار اللّه تعالى عنها، كما قال: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا}[هود: 49]، لكن يجاب عن هذا بأنه لو أريد هذا المعنى، لقال: يريد اللّه ليبين لكم سنن الذين من قبلكم، ولم يحتج أن يذكر الهدى، إذا كان المعنى واحدًا، فلما ذكر أنه يريد التبيين والهدي، علم أن هذا غير هذا، فالتبيين: التعريف والتعليم، والهدى: هو الأمر والنهي، وهو الدعاء إلى الخير. كما قال تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [الرعد: 7]، أي داع يدعوهم إلى الخير. كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، أي تدعوهم إليه دعاء تعليم.
وهداه هنا يتعدى بنفسه، لأن التقدير: ويلزمكم سنن الذين من قبلكم، فلا تعدلوا عنها، وليس المراد هنا بالهدى الإلهام.
كما في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} لكونه لو أراد ذلك لوقع، ولم يكن فينا ضال، بل هذه إرادة شرعية أمرية بمعنى المحبة والرضا، ولهذا قال الزجاج: يريد أن يدلكم على ما يكون سببًا لتوبتكم، فعلق الإرادة بفعل نفسه.
فإن الزجاج ظن الإرادة في القرآن ليست إلا كذلك، وليس كما ظن، بل الإرادة المتعلقة بفعله يكون مرادها كذلك، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وأما الإرادة الموجودة في أمره وشرعه، فهو كقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} الآية [المائدة: 6]، وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33]، ونحو ذلك.
فهذه إرادته لما أمر به، بمعنى أنه يحبه ويرضاه، ويثيب فاعله، لا بمعنى أنه أراد أن يخلقه، فيكون كما قال: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} الآية [الأنعام: 125] .
وكما قال نوح: {وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود: 34].
فهذه إرادة لما يخلقه ويكونه.
كما يقول المسلمون: ما شاء اللّه كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذه الإرادة متعلقة بكل حادث، والإرادة الشرعية الأمرية لا تتعلق إلا بالطاعات، كما يقول الناس لمن يفعل القبيح: يفعل شيئًا ما يريده اللّه، مع قولهم: ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن.
فإن هذه الإرادة نوعان.
كما قد بسط في موضع آخر.
وقد يراد بالهدى الإلهام، ويكون الخطاب للمؤمنين المطيعين الذين هداهم اللّه إلى طاعته، فإن اللّه تعالى أراد أن يتوب عليهم ويهديهم، فاهتدوا، ولولا إرادته لهم ذلك لم يهتدوا، كما قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 43].
لكن الخطاب في الآية لجميع المسلمين، كالخطاب بآية الوضوء.
والخطاب لأهل البيت بقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ} [الأحزاب: 33]؛ ولهذا يهدد من لم يطعه.
وكما في الصيام: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، فهذه إرادة شرعية أمرية بمعنى المحبة والرضا، لا إرادة الخلق المستلزمة للمراد، لأنه لو كان كذلك لم تكن الآية خطابًا، إلا لمن أخذ باليسر، ولمن فعل ما أمر به، وكان من تخلف عن ذلك لا يدخل تحت الأمر والنهي الذي في الآية، وليس كذلك. بل الحكم الشرعي لازم لجميع المسلمين، فمن أطاع أثيب ومن عصى عوقب، والذين أطاعوه إنما أطاعوه بهداه لهم، هدي الإلهام، والإعانة بأن جعلهم مهتدين.
كما أنه هو الذي جعل المصلي مصليًا، والمسلم مسلمًا.
ولو كانت الإرادة هنا من الإنسان مستلزمة لوقوع المراد لم يقل: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27]، فإنه حينئذ لا تأثير لإرادة هؤلاء، بل وجودها وعدمها سواء. كما في قول نوح: {وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]، فإن ما شاء اللّه كان، وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن، وإن شاءه الناس.
والمقصود بالآية تحذيرهم من متابعة الذين يتبعون الشهوات. والمعنى: إني أريد لكم الخير الذي ينفعكم، وهؤلاء يريدون لكم الشر الذي يضركم، كالشيطان الذي يريد أن يغويكم، وأتباعه هم أهل الشهوات فلا تتخذوه وذريته أولياء من دوني، بل اسلكوا طرق الهدي والرشاد، وإياكم وطرق الغي والفساد.
كما قال تعالى: {فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} الآيات [طه: 123].
وقوله: {يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} [النساء: 27]، في الموضعين، فإتباع الشهوة من جنس اتباع الهوى، كما قال تعالى: {أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ} [القصص: 50]، وقال: {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [ المؤمنون: 71 ]، وقال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} [المائدة: 77]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 14]، وقال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18]، وهذا في القرآن كثير.
والهوى: مصدر هوى يهوي هوى، ونفس المهوي يسمى هوى ما يهوى، فاتباعه كأتباع السبيل.
كما قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} وكما في لفظ الشهوة، فإتباع الهوى يراد به نفس مسمى المصدر، أي اتباع إرادته ومحبته التي هي هواه وإتباع الإرادة: هو فعل ما تهواه النفس، كقوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15]، وقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، وقال: {وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3]، فلفظ الإتباع يكون للآمر الناهي، وللأمر والنهي، وللمأمور به والمنهي عنه، وهو الصراط المستقيم.
كذلك يكون للهوى أمر ونهي، وهو أمر النفس ونهيها، كما قال تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 53]، ولكن ما يأمر به من الأفعال المذمومة، فأحدها مستلزم للآخر، فإتباع الأمر هو فعل المأمور، وإتباع أمر النفس هو فعل ما تهواه، فعلى هذا يعلم أن اتباع الشهوات، وإتباع الأهواء هو اتباع شهوة النفس، وهواها، وذلك بفعل ما تشتهيه وتهواه.
بل قد يقال: هذا هو الذي يتعين في لفظ اتباع الشهوات والأهواء، لأن الذي يشتهي ويهوى، إنما يصير موجودًا بعد أن يشتهي ويهوى، وإنما يذم الإنسان إذا فعل ما يشتهي ويهوى عند وجوده، فهو حينئذ قد فعل، ولا ينهى عنه بعد وجوده، ولا يقال لصاحبه: لا تتبع هواك.
وأيضًا فالفعل المراد المشتهى، الذي يهواه الإنسان: هو تابع لشهوته وهواه، فليست الشهوة والهوي تابعة له، فإتباع الشهوات هو اتباع شهوة النفس، وإذا جعلت الشهوة بمعنى المشتهى كان مع مخالفة الأصل يحتاج إلى أن يجعل في الخارج ما يشتهي، والإنسان يتبعه كالمرأة المطلوبة، أو الطعام المطلوب، وإن سميت المرأة شهوة والطعام أيضًا، كما في قوله صلى الله عليه وسلم أي: يترك شهوته، وهو إنما يترك ما يشتهيه كما يترك الطعام، لا أنه يدع طعامه بترك الشهوة الموجودة في نفسه، فإن تلك مخلوقة فيه مجبول عليها، وإنما يثاب إذا ترك ما تطلبه تلك الشهوة.
وحقيقة الأمر، أنهما متلازمان، فمن اتبع نفس شهوته القائمة بنفسه اتبع ما يشتهيه، وكذلك من اتبع الهوى القائم بنفسه اتبع ما يهواه، فإن ذلك من آثار الإرادة، وإتباع الإرادة هو امتثال أمرها، وفعل ما تطلبه، كالمأمور الذي يتبع أمر أميره، ولابد أن يتصور مراده الذي يهواه ويشتهيه في نفسه ويتخيله قبل فعله.
فيبقى ذلك المثال كالإمام مع المأموم يتبعه حيث كان، وفعله في الظاهر تبع لإتباع الباطن، فتبقى صورة المراد المطلوب المشتهي التي في النفس هي المحركة للإنسان الآمرة له.
ولهذا يقال: العلة الغائية علة فاعلية، فإن الإنسان للعلة الغائية بهذا التصور والإرادة صار فاعلًا للفعل، وهذه الصورة المرادة المتصورة في النفس هي التي جعلت الفاعل فاعلًا، فيكون الإنسان متبعًا لها، والشيطان يمده في الغي، فهو يقوي تلك الصورة ويقوي أثرها ويزين للناس إتباعها، وتلك الصورة تتناول صورة العين المطلوبة كالمحبوب من الصور والطعام والشراب ويتناول نفس الفعل الذي هو المباشر لذلك المطلوب المحبوب، والشيطان والنفس تحب ذلك، وكلما تصور ذلك المحبوب في نفسه أراد وجوده في الخارج، فإن أول الفكر آخر العمل، وأول البغية آخر الدرك.
ولهذا يبقى الإنسان عند شهوته، وهواه أسيرًا لذلك، مقهورًا تحت سلطان الهوى، أعظم من قهر كل قاهر، فإن هذا القاهر الهوائي، القاهر للعبد، هو صفة قائمة بنفسه، لا يمكنه مفارقته البتة، والصورة الذهنية تطلبها النفس، فإن المحبوب تطلب النفس أن تدركه، وتمثله لها في نفسها، فهو متبع للإرادة.
وإن كانت الذهنية والتزين من الزين والمراد التصور في نفسه.
والمشتهى الموجود في الخارج له محركان: التصور والمشتهى، هذا يحركه تحريك طلب وأمر، وهذا يأمره أن يتبع طلبه وأمره، فإتباع الشهوات والأهواء يتناول هذا كله، بخلاف كل قاهر ينفصل عن الإنسان فإنه يمكنه مفارقته مع بقاء نفسه على حالها، وهذا إنما يفارقه بتغير صفة نفسه.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم .
وقوله في الحديث: هوي متبع، فيه دليل على أن المتبع هو ما قام في النفس.
كقوله: في الشح المطاع، وجعل الشح مطاعًا، لأنه هو الآمر، وجعل الهوى متبعًا، لأن المتبع قد يكون إمامًا يقتدى به ولا يكون آمرًا.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال .
فبين أن الشح يأمر بالبخل والظلم والقطيعة، فالبخل، منع منفعة الناس بنفسه وماله، والظلم، هو الاعتداء عليهم.
فالأول هو التفريط فيما يجب، فيكون قد فرط فيما يجب، واعتدى عليهم بفعل ما يحرم وخص قطيعة الرحم بالذكر إعظامًا لها؛ لأنها تدخل في الأمرين المتقدمين قبلها.
وقال المفسرون في قوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [الحشر: 9]، هو ألا يأخذ شيئًا مما نهاه اللّه عنه، ولا يمنع شيئًا أمره اللّه بأدائه، فالشح يأمر بخلاف أمر الله ورسوله.
فإن اللّه ينهى عن الظلم، ويأمر بالإحسان، والشح يأمر بالظلم، وينهى عن الإحسان.
وقد كان عبد الرحمن بن عوف يكثر في طوافه بالبيت، وبالوقوف بعرفة أن يقول: اللّهم قني شح نفسي، فسئل عن ذلك، فقال: إذا وقيت شح نفسي، وقيت الظلم والبخل والقطيعة.
وفي رواية عنه قال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وماذاك؟ قال: أسمع اللّه يقول: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ}، وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء، فقال: ليس ذاك بالشح الذي ذكره اللّه في القرآن إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلمًا، وإنما يكن بالبخل وبئس الشيء البخل.
وقد ذكر تعالى الشح في سياق ذكر الحسد والإيثار في قوله: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}، ثم قال: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]، فمن وقى شح نفسه لم يكن حسودًا باغيًا على المحسود والحسد أصله بغض المحسود.
والشح يكون في الرجل مع الحرص، وقوة الرغبة في المال، وبغض للغير وظلم له، كما قال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا . أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} الآيات إلى قوله: {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [الأحزاب: 18- 19]، فشحهم على المؤمنين، وعلى الخير يتضمن كراهيته وبغضه، وبغض الخير يأمر بالشر، وبغض الإنسان يأمر بظلمه، وقطيعته كالحسد، فإن الحاسد يأمر حاسده بظلم المحسود وقطيعته، كابني آدم وإخوة يوسف.
فالحسد والشح، يتضمنان بغضًا وكراهية، فيأمران بمنع الواجب وبظلم ذلك الشخص، فإن الفعل صدر فيه عن بغض، بخلاف الهوى فإن الفعل صدر فيه عن حب أحب شيئًا فاتبعه ففعله، وذلك مقصوده أمر عدمي والعدم لا ينفع.
ولكن ذاك القصد أمر بأمر وجودي، فأطيع أمره.
وابن مسعود جعل البخل خارجًا عن الشح والنبي صلى الله عليه وسلم جعل الشح يأمر بالبخل.
ومن الناس من يقول: الشح، والبخل سواء.
كما قال ابن جرير: الشح في كلام العرب هو البخل، ومنع الفضل من المال.
وليس كما قال: بل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وابن مسعود أحق أن يتبع ، فإن البخيل قد يبخل بالمال محبة لما يحصل لـه به من اللذة والتنعم، وقد لا يكون متلذذًا به ولا متنعمًا بل نفسه تضيق عن إنفاقه وتكره ذلك حتى يكون يكره، أن ينفع نفسه منه مع كثرة ماله، وهذا قد يكون مع التذاذه بجمع المال ومحبته لرؤيته.
وقد لا يكون هناك لذة أصلا، بل يكره أن يفعل إحسانًا إلى أحد حتى لو أراد غيره أن يعطي كره ذلك منه بغضًا للخير لا للمعطي ولا للمعطي، بل بغضًا منه للخير وقد يكون بغضًا وحسدًا للمعطي، أو للمعطي وهذا هو الشح وهذا هو الذي يأمر بالبخل قطعًا، ولكن كل بخل يكون عن شح، فكل شحيح بخيل وليس كل بخيل شحيحًا.
قال الخطابي: الشح أبلغ في المنع من البخل، والبخل إنما هو من أفراد الأمور وخواص الأشياء، والشح عام، فهو كالوصف اللازم للإنسان من قبل الطبع والجبلة.
وحكى الخطابي عن بعضهم أنه قال: البخل: أن يظن الإنسان بماله، والشح: أن يضن بماله ومعروفه، وقيل: الشح: أن يشح بمعروف غيره على غيره، و البخل: أن يبخل بمعروفه على غيره والذين يتبعون الشهوات، ويتبعون أهواءهم يحبون ذلك ويريدونه، فاتبعوا محبتهم وإرادتهم من غير علم، فلم ينظروا هل ذلك نافع لهم في العاقبة أو ضار.
ولهذا قال: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} ثم قال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِِ} [القصص: 50]، وإتباع الهوى درجات: فمنهم المشركون والذين يعبدون من دون اللّه ما يستحسنون بلا علم، ولا برهان، كما قال: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]، أي يتخذ إلهه الذي يعبده وهو ما يهواه من آلهة، ولم يقل: إن هواه نفس إلهه فليس كل من يهوي شيئًا يعبده، فإن الهوى أقسام بل المراد أنه جعل المعبود الذي يعبده هو ما يهواه، فكانت عبادته تابعة لهوى نفسه في العبادة، فإنه لم يعبد ما يحب أن يعبد، ولا عبد العبادة التي أمر بها.
وهذه حال أهل البدع، فإنهم عبدوا غير اللّه، وابتدعوا عبادات زعموا أنهم يعبدون اللّه بها، فهم إنما اتبعوا أهواءهم، فإن أحدهم يتبع محبة نفسه وذوقها ووجدها وهواها من غير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير.
فلو اتبع العلم والكتاب المنير، لم يعبد إلا اللّه بما شاء، لا بالحوادث والبدع.
والمقصود أن الآلهة كثيرة، والعبادات لها متنوعة، وبالجملة فكل ما يريده الإنسان ويحبه لابد أن يتصوره في نفسه، فتلك الصورة العلمية محركة له إلى محبوبه ولوازم الحب، فمن عبده عبد غير اللّه، وتمثلت له الشياطيـن في صورة من يعبـده، وهذا كثير ما زال ولم يزل؛ ولهذا كان كل من عبد شيئًا غير اللّه، فإنما يعبد الشيطان؛ ولهذا يقارن الشيطان الشمس عند طلوعها وغروبها، واستوائها ليكون سجود من يعبدها له.
وقد كانت الشياطين، تتمثل في صورة من يعبد، كما كانت تكلمهم من الأصنام التي يعبدونها، وكذلك في وقتنا خلق كثير من المنتسبين إلى الإسلام، والنصارى والمشركين ممن أشرك ببعض من يعظمه من الأحياء والأموات من المشايخ وغيرهم، فيدعوه ويستغيث به في حياته وبعد مماته، فيراه قد أتاه وكلمه وقضى حاجته، وإنما هو شيطان تمثل على صورته، ليغوى هذا المشرك.
والمبتلون بالعشق، لا يزال الشيطان يمثل لأحدهم صورة المعشوق، أو يتصور بصورته، فلا يزال يرى صورته، مع مغيبه عنه بعد موته، فإنما جلاه الشيطان على قلبه، ولهذا إذا ذكر العبد اللّه الذكر الذي يخنس منه الوسواس الخناس خنس هذا المثال الشيطاني، وصورة المحبوب تستولى على المحب أحيانًا حتى لا يرى غيرها، ولا يسمع غير كلامها، فتبقى نفسه مشتغلة بها.
والذين يسلكون في محبة اللّه مسلكا ناقصًا، يحصل لأحدهم نوع من ذلك يسمى الاصطلام والفناء، يغيب بمحبوبه عن محبته، وبمعروفه عن معرفته، وبمذكوره عن ذكره، حتى لا يشعر بشيء من أسماء اللّه وصفاته وكلامه وأمره ونهيه.
ومنهم من قد ينتقل من هذا إلى الاتحاد.
فيقول: أنا هو، وهو أنا، وأنا اللّه، ويظن كثير من المسالكين، أن هذا هو غاية السالكين، وأن هذا هو التوحيد، الذي هو نهاية كل سالك، وهم غالطون في هذا، بل هذا من جنس قول النصارى، ولكن ضلوا لأنهم لم يسلكوا الطريق الشرعية في الباطن في خبر اللّه وأمره.
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
والمقصود أن المتبعين لشهواتهم من الصور والطعام والشراب واللباس، يستولى على قلب أحدهم مايشتهيه حتى يقهره ويملكه، ويبقى أسيرًا ما يهواه، يصرفه كيف تصرف ذلك المطلوب؛ ولهذا قال بعض السلف: ما أنا على الشاب الناسك بأخوف مني عليه من سبع ضار يثب عليه من صبي حدث يجلس إليه.
وذلك أن النفس الصافية التي فيها رقة الرياضة، ولم تنجذب إلى محبة اللّه وعبادته انجذابًا تامًا، ولا قام بها من خشية اللّه التامة ما يصرفها عن هواها متى صارت تحت صورة من الصور استولت تلك الصورة عليها.
كما يستولى السبع على ما يفترسه، فالسبع يأخذ فريسته بالقهر، ولا تقدر الفريسة على الامتناع منه.
كذلك ما يمثله الإنسان في قلبه من الصور المحبوبة، تبتلع قلبه وتقهره، فلا يقدر قلبه على الامتناع منه، فيبقى قلبه مستغرقًا في تلك الصورة أعظم من استغراق الفريسة في جوف الأسد؛ لأن المحبوب المراد هو غاية النفس، له عليها سلطان قاهر.
والقلب يغرق فيما يستولى عليه، إما من محبوب وإما من مخوف، كما يوجد من محبة المال والجاه والصور، والخائف من غيره يبقى قلبه وعقله مستغرقًا فيه، كما يغرق الغريق في الماء، فلابد أن يستولى عليها ما يحيط بها من الأجسام، والقلوب يستولى عليها ما يتمثل لها من المخاوف، والمحبوبات والمكروهات، فالمحبوب يطلبه، والمكروه يدفعه، والرجاء يتعلق بالمحبوب والخوف يتعلق بالمكروه، ولا يأتي بالحسنات إلا اللّه، ولا يذهب السيئات إلا اللّه {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107] {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53].
وإذا دعا العبد ربه بإعطاء المطلوب، ودفع المرهوب، جعل له من الإيمان باللّه، ومحبته، ومعرفته، وتوحيده، ورجائه، وحياة قلبه، واستنارته بنور الإيمان ما قد يكون أنفع له من ذلك المطلوب إن كان عرضًا من الدنيا، وأما إذا طلب منه أن يعينه على ذكره وشكره وحسن عبادته وما يتبع ذلك، فهنا المطلوب قد يكون أنفع من الطلب.
وهو الدعاء والمطلوب الذكر والشكر، وقيام العبادة على أحسن الوجوه وغير ذلك.
وهذا لبسطه موضع آخر.
والمقصود أن القلب قد يغمره، فيستولى عليه ما يريده العبد، ويحبه، وما يخافه ويحذره، كائنا من كان؛ ولهذا قال تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ}[المؤمنون: 36]، فهي فيما يغمرها عما أنذرت به، فيغمرها ذلك عن ذكر اللّه والدار الآخرة وما فيها من النعيم، والعذاب الأليم.
قال اللّه تعالى: {فّذّرًهٍمً فٌي غّمًرّتٌهٌمً حّتَّى" حٌينُ}[المؤمنون: 54]، أي فيما يغمر قلوبهم من حب المال والبنين المانع لهم من المسارعة في الخيرات، والأعمال الصالحة.
وقال تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} الآيات [الذاريات: 10- 11]، أي ساهون عن أمر الآخرة، فهم في غمرة عنها، أي فيما يغمر قلوبهم من حب الدنيا ومتاعها، ساهون عن أمر الآخرة، وما خلقوا له.
وهذا يشبه قوله: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، فالغمرة تكون من اتباع الهوى، والسهو من جنس الغفلة؛ ولهذا قال من قال: السهو: الغفلة عن الشيء، وذهاب القلب عنه، وهذا جماع الشر الغفلة، والشهوة.
فالغفلة عن اللّه والدار الآخرة تسد باب الخير، الذي هو الذكر واليقظة.
والشهوة تفتح باب الشر والسهو والخوف، فيبقى القلب مغمورًا فيما يهواه ويخشاه، غافلًا عن اللّه، رائدًا غير اللّه، ساهيًا عن ذكره، قد اشتغل بغير اللّه، قد انفرط أمره، قد ران حب الدنيا على قلبه، كما روى في صحيح البخاري، وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال .
جعله عبد ما يرضيه وجوده ويسخطه فقده، حتى يكون عبد الدرهم، وعبد ما وصف في هذا الحديث، والقطيفة: هي التي يجلس عليها، فهو خادمها، كما قال بعض السلف: البس من الثياب ما يخدمك، ولا تلبس منها ما تكن أنت تخدمه، وهي كالبساط الذي تجلس عليه، والخميصة: هي التي يرتدي بها، وهذا من أقل المال.
وإنما نبه به النبي صلى الله عليه وسلم على ما هو أعلي منه، فهو عبد لذلك، فيه أرباب متفرقون، وشركاء متشاكسون.
ولهذا قال .
فما كان يرضى الإنسان حصوله ويسخطه فقده، فهو عبده، إذ العبد يرضى باتصاله بهما، ويسخط لفقدهما.
والمعبود الحق الذي لا إله إلا هو إذا عبده المؤمن وأحبه حصل للمؤمن بذلك في قلبه إيمان، وتوحيد ومحبة، وذكر، وعبادة، فيرضى بذلك، وإذا منع من ذلك غضب.
وكذلك من أحب شيئًا، فلا بد أن يتصوره في قلبه، ويريد اتصاله به بحسب الإمكان.
قال الجنيد: لا يكون العبد عبدًا حتى يكون مما سوى اللّه تعالى حرًا. وهذا مطابق لهذا الحديث، فإنه لا يكون عبدًا للّه خالصًا مخلصًا دينه للّه كله، حتى لا يكون عبدًا لما سواه، ولا فيه شعبة، ولا أدنى جزء من عبودية ما سوى اللّه، فإذا كان يرضيه، ويسخطه غير اللّه فهو عبد لذلك الغير، ففيه من الشرك بقدر محبته، وعبادته لذلك الغير زيادة.
قال الفضيل بن عياض: واللّه ما صدق اللّه في عبوديته، من لأحد من المخلوقين عليه ربانية، وقال زيد بن عمرو بن نفيل:
أربا ًواحدًا، أم ألف رب ** أدين إذا انقسمت الأمور؟!
روى الإمام أحمد والترمذي، والطبراني، من حديث أسماء بنت عميس، قالت: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال الترمذي: غريب.
وفي الحديث الصحيح المتقدم ما يقويه.
وكذلك أحاديث وآثار كثيرة رويت في معنى ذلك.
كما قال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].
والمؤمناسة ولو بالباطل ترضيه الكلمة التي فيها تعظيمه وإن كانت باطلًا، وتغضبه الكلمة التي فيها ذمه وإن كانت حقًا. والمؤمن ترضيه كلمة الحق له وعليه، وتغضبه كلمة الباطل له وعليه؛ لأن اللّه تعالى يحب الحق، والصدق، والعدل، ويبغض الكذب، والظلم.
فإذا قيل: الحق والصدق والعدل الذي يحبه اللّه أحبه، وإن كان فيه مخالفة هواه؛ لأن هواه قد صار تبعًا لما جاء به الرسول. وإذا قيل: الظلم والكذب، فاللّه يبغضه، والمؤمن يبغضه، ولو وافق هواه.
وكذلك طالب المال ولو بالباطل كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] وهؤلاء هم الذين قال فيهم الحديث.
فكيف إذا استولى على القلب ما هو أعظم استعبادًا من الدرهم والدينـار، من الشهوات والأهواء، والمحبوبات التي تجذب القلب عن كمال محبته للّه وعبادته؟ ! لما فيها من المزاحمة والشرك بالمخلوقات، كيف تدفع القلب، وتزيغه عن كمال محبته لربه وعبادته وخشيته؛ لأن كل محبوب يجذب قلب محبه إليه، ويزيغه عن محبة غير محبوبه، وكذلك المكروه يدفعه، ويزيله، ويشغله عن عبادة اللّه تعالى.
ولهذا روى الإمام أحمد في مسنده وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه .
وكذلك الذين يحبون العبد كأصدقائه، والذين يبغضونه كأعدائه، فالذين يحبونه يجذبونه إليهم.
فإذا لم تكن المحبة منهم له للّه، كان ذلك مما يقطعه عن اللّه، والذين يبغضونه يؤذونه ويعادونه فيشغلونه بأذاهم عن اللّه، ولو أحسن إليه أصدقاؤه الذين يحبونه، لغير اللّه أوجب إحسانهم إليه محبته لهم، وإنجذاب قلبه إليهم.
ولو كان على غير الاستقامة، وأوجب مكافأته لهم، فيقطعونه عن اللّه وعبادته.
فلا تزول الفتنة عن القلب، إلا إذا كان دين العبد كله للّه عز وجل، فيكون حبه للّه ولما يحبه اللّه، ويبغضه للّه، ولما يبغضه اللّه، وكذلك موالاته ومعاداته، وإلا فمحبة المخلوق تجذبه، وحب الخلق له سبب يجذبهم به إليه، ثم قد يكون هذا أقوى، وقد يكون هذا أقوى، فإذا كان هو غالبًا لهواه لم يجذبه مغلوب مع هواه، ولا محبوباته إليها؛ لكونه غلبًا لهواه ناهيًا لنفسه عن الهوى، لما في قلبه من خشية اللّه، ومحبته التى تمنعه عن انجذابه إلى المحبوبات.
وأما حب الناس له، فإنه يوجب أن يجذبوه هم بقوتهم إليهم، فإن لم يكن فيه قوة يدفعهم بها عن نفسه من محبة اللّه، وخشيته وإلا جذبوه وأخذوه إليهم، كحب امرأة العزيز ليوسف، فإن قوة يوسف ومحبته للّه وإخلاصه وخشيته، كانت أقوى من جمال امرأة العزيز وحسنها وحبه لها، هذا إذا أحب أحدهم صورته، مع أن هنا الداعي قوي منه ومنهم، فهنا المعصوم من عصمه اللّه، وإلا فالغالب على الناس في المحبة من الطرفين، أنه يقع بعض الشر بينهم.
ولهذا قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
وقد يحبونه لعلمه أو دينه أو إحسانه أو غير ذلك، فالفتنة في هذا أعظم، إلا إذا كانت فيه قوة إيمانية، وخشية وتوحيد تام، فإن فتنة العلم والجاه والصور فتنة لكل مفتون.
وهم مع ذلك يطلبون منه مقاصدهم، إن لم يفعلها وإلا نقص الحب، أو حصل نوع بغض، وربما زاد أو أدى إلى الانسلاخ من حبه، فصار مبغوضًا بعد أن كان محبوبا، فأصدقاء الإنسان يحبون استخدامه واستعماله في أغراضهم، حتى يكون كالعبد لهم، وأعداؤه يسعون في أذاه وإضراره، وأولئك يطلبون منه انتفاعهم، وإن كان مضرًا له مفسدًا لدينه لا يفكرون في ذلك.
وقليل منهم الشكور.
فالطائفتان في الحقيقة لا يقصدون نفعه ولا دفع ضرره، وإنما يقصدون أغراضهم به، فإن لم يكن الإنسان عابدًا اللّه، متوكلًا عليه مواليًا له ومواليًا فيه ومعاديًا، وإلا أكلته الطائفتان، وأدى ذلك إلى هلاكه في الدنيا والآخرة.
وهذا هو المعروف من أحوال بني آدم، وما يقع بينهم من المحاربات والمخاصمات والاختلاف والفتن.
قوم يوالون زيدًا، ويعادون عمرًا.
وآخرون بالعكس؛ لأجل أغراضهم، فإذا حصلوا على أغراضهم ممن يوالونه وما هم طالبونه من زيد انقلبوا إلى عمرو، وكذلك أصحاب عمرو، كما هو الواقع بين أصناف الناس.
وكذلك الرأس، من الجانبين، يميل إلى هؤلاء الذين يوالونه، وهم إذا لم تكن الموالاة للّه أضر عليه من أولئك، فإن أولئك إنما يقصدون إفساد دنياه إما بقتله، أو بأخذ ماله، وإما بإزالة منصبه، وهذا كله ضرر دنيوي، لا يعتد به إذا سلم العبد، وهو عكس حال أهل الدنيا ومحبيها الذين لا يعتدون بفساد دينهم مع سلامة دنياهم.
فهم لا يبالون بذلك.
وأما "دين العبد" الذي بينه وبين اللّه فهم لا يقدرون عليه.
وأما أولياءه الذين يوالونه للأغراض، فإنما يقصدون منه فساد دينه بمعاونته على أغراضهم وغير ذلك، فإن لم يفعل انقلبوا أعداء، فدخل بذلك عليه الأذى من جهتين:
من جهة مفارقتهم، ومن جهة عداوتهم.
وعداوتهم أشد عليه من عداوة أعدائه؛ لأنهم قد شاهدوا منه.
وعرفوا مالم يعرفه أعداؤه.
فاستجلبوا بذلك عداوة غيرهم، فتتضاعف العداوة.
وإن لم يحب مفارقتهم، احتاج إلى مداهنتهم، ومساعدتهم على ما يريدونه، وإن كان فيه فساد دينه. فإن ساعدهم على نيل مرتبة دنيوية ناله مما يعملون فيها نصيبًا وافرًا وحظًا تامًا من ظلمهم وجورهم، وطلبوا منه أيضًا أن يعاونهم على أغراضهم، ولو فاتت أغراضه الدنيوية.
فكيف بالدينية إن وجدت فيه أو عنده !! فإن الإنسان ظالم جاهل، لا يطلب إلا هواه.
فإن لم يكن هذا في الباطن يحسن إليهم. ويصبر على أذاهم.
ويقضى حوائجهم للّه، وتكون استعانته عليهم باللّه تامة، وتوكله على اللّه تام.
وإلا أفسدوا دينه ودنياه، كما هو الواقع المشاهد من الناس، ممن يطلب الرئاسة الدنيوية، فإنه يطلب منه من الظلم والمعاصي ما ينال به تلك الرئاسة، ويحسن له هذا الرأي، ويعاديه إن لم يقم معه، كما قد جرى ذلك مع غير واحد.
وذلك يجري فيمن يحب شخصًا لصورته، فإنه يخدمه، ويعظمه، ويعطيه ما يقدر عليه، ويطلب منه من المحرم ما يفسد دينه.
وفيمن يحب صاحب بدعة؛ لكونه له داعية إلى تلك البدعة، يحوجه إلى أن ينصر الباطل الذي يعلم أنه باطل، وإلا عاداه؛ ولهذا صار علماء الكفار، وأهل البدع مع علمهم بأنهم على الباطل ينصرون ذلك الباطل؛ لأجل الأتباع والمحبين، ويعادون أهل الحق ويهجنون طريقهم.
فمن أحب غير اللّه، ووالى غيره، كره محب اللّه ووليه، ومن أحب أحدًا لغير اللّه كان ضرر أصدقائه عليه أعظم من ضرر أعدائه، فإن أعداءه غايتهم أن يحولوا بينه وبين هذا المحبوب الدنيوي، والحيلولة بينه وبينه رحمة في حقه، وأصدقاؤه يساعدونه على نفي تلك الرحمة، وذهابها عنه، فأي صداقة هذه؟! ويحبون بقاء ذلك المحبوب؛ ليستعملوه في أغراضهم، وفيما يحبونه، وكلاهما ضرر عليه.
قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166]، قال الفضيل بن عياض عن ليث عن مجاهد: هي المودات التي كانت لغير اللّه، والوصلات التي كانت بينهم في الدنيا {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ} [البقرة: 167].
فالأعمال التي أراهم اللّه حسرات عليهم: هي الأعمال التي يفعلها بعضهم، مع بعض في الدنيا كانت، لغير اللّه، ومنها الموالاة، والصحبة، والمحبة، لغير اللّه.
فالخير كله في أن يعبد اللّه وحده لا يشرك به شيئًا، ولا حول ولا قوة إلا باللّه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء العاشر.
- التصنيف: