مراعاة الأحكام الشرعية للأحوال النفسية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
مراعاة الشريعة الإسلامية للمصالح:
عباد الله: لقد أنزل الله هذا الدين، وجعل هذه الشريعة، رحمة كلها، وعدلاً كلها، ومصلحة كلها.
وفي هذه الأحكام مراعاة أنواع المصالح الأخروية والدنيوية، والاجتماعية، والمالية، والنفسية، حتى لا توجد مصلحة حقيقية أغفلها الشرع.
وإنك لتتعجب -يا عبد الله أخي المسلم-: وأنت تنظر في أحكام الشريعة الفقهية، لترى فيها العجب العجاب، من أنواع المراعاة للمصالح، بما فيها المصالح النفسية.
مراعاة الشريعة لنفسية المساكين الحاضرين عند قسمة التركة:
فتعالوا نُلقي نظرة على أمثلة مما في شريعتنا من مراعاة الأحكام الفقهية الشرعية للأحوال النفسية للناس. شريعة تراعي المشاعر، شريعة تراعي النفوس، جاء في كتاب الله -سبحانه وتعالى-: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} قسمة الميراث: {أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ} [النساء: 8] الميراث لأهل الميت خاصة، للورثة لا يشاركهم فيه أحد، ومع ذلك، إذا حضر مجلس القسمة، وكان الميت إذا مات اجتمعوا لقسمة تركته، إذا حضر مجلس القسمة: {أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ} يا أيها الورثة، أنتم أصحاب الحق، لكن هؤلاء المساكين حضروا، ونفوسهم تتطلع إلى هذا المال الذي يقسم، أفتتركونهم ينصرفون بلا شيء؟ وتأخذون أنتم كل شيء؟ أعطوهم ولو شيئًا قليلاً، مراعاة لأحوالهم ونفوسهم: {فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ}.
تحريم الشريعة للزواج بأكثر من امرأة قريبة في آن واحد:
وجاء في الشرع: تحريم الجمع بين الأختين، قال الله: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] في المحرمات في النكاح.
وجاء في السنة النبوية: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها [انظر الحديث في البخاري: 5109، ومسلم: 3502].
فلماذا يحرم الجمع بين الأختين؟ ويحرم الجمع بين المرأة وعمتها؟ والمرأة وخالتها؟
لأن الضرائر يكون بينهن ما يكون من التنافس على الزوج الواحد، فقد يؤدي ذلك إلى قطع الرحم، وتأذي الواحدة منهن من تصرف الأخرى، وهي قريبتها اللصيقة، أخت، عمة، خالة، فنهت الشريعة عن الجمع بين الأختين في وقت واحد، أو المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، مراعاة للنفسيات، وحتى لا يؤدي ذلك إلى شرخ في علاقة الرحم المحرمة.
مراعاة الشريعة لنفسية الفتاة البكر عند استئذانها في الزواج:
جاءت الشريعة: بأن البنت المرأة، الفتاة، لا بدّ من استئمارها في النكاح، ولا بدّ من أخذ إذنها، قال أما ((الثيب) التي سبق لها الزواج ((فإنها تعرب عن نفسها))[رواه ابن ماجه: 1872، وأحمد: 17758، وقال محققو المسند: "صحيح لغيره"] تتكلم، تقول: موافقة، غير موافقة، نعم، لا.
وقد سبق لها النكاح، والعهد به، ونفسها تقوى على هذا، لكن تلك البكر التي لم يسبق لها عهد بالرجال من جهة النكاح، إذا كانت محافظة، والتربية صحيحة، والبيئة سليمة، وليست خراجة ولاجة، ولا تكشف على الأجانب، كما جاء في الشرع، فإنها إذا قيل: ترضين به؟ ستستحي، هذا الوضع الطبيعي، مراعاة لنفسيتها، ومراعاة لمشاعرها، ماذا قال الشرع؟
((إذنها صماتها)) [انظر الحديث في البخاري: 6971، ومسلم: 3541] فصمتها يكفي، السكوت دليل على الرضا.
ونبه الفقهاء على أمور دقيقة، فقال بعضهم: يُطال المقام عندها، في الاستئمار، لا يُلقي الكلمة ويمشي بسرعة، ربما يكون في نفسها شيء، يُطال المقام عندها عندما تستأمر، ترضين بفلان زوجًا لك؟
فإذا ما قالت: نعم، وصمتت، فسكوتها يكفي دليلاً على الرضا، مراعاة لنفسيتها، وأنها بكر تستحيي.
مراعاة الشريعة لحق الزوجة في مدة غياب زوجها عنها:
ما هي المدة التي يسمح لها للزوج بالغياب عن زوجته؟
أول ما حدث الكلام في هذه المسألة، كان في عهد عمر -رضي الله عنه-، لما كان يرسل الجيوش للفتوحات، فيغيب الرجل عن زوجته المدة الطويلة، فكان عمر يعس مرة، ويتفقد رعيته، فسمع امرأة تنشد من بيت لا تراه ولا يراها:
ألا قد طال هذا الليل، واخضر جانبه *** وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله لا رب غيره *** لحرك من هذا السرير جوانبه
ولكنه سبحانه وتعالى وكل بنا رقيبًا عتيدًا، يكتب علينا حركاتنا وسكناتنا، لا يفتر ولا يمل.
ففهم عمر المقصود، فرجع إلى ابنته حفصة، قال: يا حفصة كم تصبر المرأة على زوجها؟ قالت: شهرًا، واثنين، وثلاثة، وأربعة، ثم لا بدّ من وجوده[انظر القصة في السنن الكبرى للبيهقي: 9/29، رقم: 18307، وسنن سعيد بن منصور: 1/341].
فراعى عمر طريق السفر، شهر، وأربعة، وشهر رجوع، فجعل أعلى مدة لغياب الزوج عن زوجته ستة أشهر، وحكم بذلك.
فيجوز أن يغيب عنها أكثر من ستة برضاها، فإذا لم ترضه، فيقال: إما أن ترجع، وإما أن تجعل لها حق الفراق؟ أما أن تمسك وتغيب، وتترك وتهمل، ونفسيتها، وحالها؟ لا، لا يمكن.
منح الشريعة الطفل حرية اختيار البقاء مع أبيه أو مع أمه عند الطلاق:
مراعاة الشريعة للنفسيات، للمشاعر، المحضون إذا صار الفراق بين الزوجين، الذكر الصبي، إذا صار الفراق بين أبويه، يُخير خيار تشهي، كما ورد في السنة، ثبت: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى بصبي بلغ سبعًا، أقل من السبع عند أمه، حصل الفراق بين الوالدين، فقال عليه الصلاة والسلام: ((هذا أبوك، وهذه أمك)) [رواه أبو داود: 2279، والنسائي: 3496، وأحمد: 7346، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح"] هو يختار، خيار تشهي على حسب ما يريد، على حسب ما يشتهي، مراعاة لنفسيته، أين يحب أن يكون؟ إذا كان لا يوجد مضرة من البقاء عند من اختاره.
أما إذا كان الطرف الذي اختاره، توجد فيه مضرة على الولد، فلا يُمكنه القاضي من ذلك، فلو قال: أريد أمي، فسأله القاضي: لم؟ قال: أبي يريدني أن أصلي، وأنا أتعلم، ويؤدبني، إذا قصرت، وأمي تتركني ألعب، فيراعي القاضي مصلحة المحضون، أهم شيء في أحكام الحضانة كلها، مصلحة المحضون، وهي ما ينظر إليه القاضي أولاً وقبل كل شيء.
ولكن أين الشاهد في الكلام؟
((هذا أبوك، وهذه أمك)) [رواه أبو داود: 2279، والنسائي: 3496، وأحمد: 7346، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح"].
فإذا اختار أحدهما صارت حياته ومعيشته عنده، ويمكن الآخر من لقائه في آخر الأسبوع بالليل أو النهار، على حسب الاتفاق، ولا يجوز لأحد الطرفين حرمانه من الآخر.
مراعاة الشريعة لنفسية الكبار:
إذا استوت المؤهلات في الحاضرين للإمامة؛ لأن هناك معايير للمفاضلة: ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)) أحفظهم، أعلمهم بالسنة، أقدمهم هجرة، إذا استووا في المعايير، قال: ((أكبرهم سنًا)) [رواه مسلم: 1566].
لماذا؟
تقديم الكبار مراعاة لنفسيته؛ لأن تقدم الأصغر عليه إزراء به، والشريعة تراعي النفسيات، فإذا استوت المعايير الأخرى يقدم الأكبر.
((لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه)) [رواه مسلم: 1564].
لماذا لا يتقدم أحد من الضيوف على صاحب البيت، ولا يتقدم أحد على السلطان، أو صاحب السلطان، أو صاحب المكان، إذا اجتمعوا للصلاة؟
لأن صاحب الدار، وصاحب المكان أولى، مراعاة لنفسه، يقدم هو، إلا إذا أذن لأحدهم أن يتقدم.
ما أعظمها من شريعة؟ ما أعظمها من أحكام؟
اللهم فقهنا في دينك، وعلمنا شرعك، واجعلنا آخذين بسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، بها عاملين، يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد سبحانه، له الحكم وإليه ترجعون.
وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، البشير والنذير، أرسله الله رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وذريته الطيبين، وخلفائه وأزواجه وصحابته أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم ارض عن الخلفاء الراشدين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسائر الصحابة، والسبطين الشريفين، الحسن والحسين، يا أرحم الراحمين.
مراعاة الشريعة لحق المضيف على ظيفانه:
عباد الله: إذا دعي إنسان صائم إلى وليمة، حدث على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن دعوا إلى وليمة، فقال أحدهم: إني صائم، أو أكثر من واحد، فاعتذروا عن الطعام، وكان الصيام نافلة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((دعاكم أخاكم، وتكلف لكم)) قال للرجل: ((أَفْطِرْ وَصُمْ مَكَانَهُ يَوْمًا إِنْ شِئْتَ)) [رواه البيهقي في السنن الكبرى: 8622، وحسنه الألباني في مختصر إرواء الغليل: 1952].
قال العلماء: إذا كان صيام نافلة، ودعي الإنسان، فأجاب الدعوة، وحق المسلم على المسلم أن يجيب دعوته، وكان أكثر ما يدعون للطعام بالنهار، قال العلماء: فإن كان يشق على صاحب الدعوة ألا يطعم من الطعام، فيفطر لأجله، ويطعم، وأجره أكبر؛ لأنه راعى نفس أخيه، وشعوره ((أخاكم دعاكم، وتكلف لكم)) [رواه البيهقي في السنن الكبرى: 8622، وحسنه الألباني في مختصر إرواء الغليل: 1952].
هذه شريعة -يا إخوان- لا يوجد مثلها في العالم.
مراعاة الشريعة لنفسية المرأة المطلقة:
المرأة إذا عقد عليها، ولم يسم لها مهر، حصل إيجاب وقبول، وشهادة الشهادتين، ولم يذكر مهر، وما حصل الدخول، ثم رأى أن يطلقها، طلاق ما في عدة، لكن هذه تذهب لو كان المهر مسمى لقيل: لها نصف المهر: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237].
لكن إذا ما سمى المهر تذهب هكذا؟ الطلاق كسرة نفس للمطلقة، بلا شيء، لا، الشريعة لا تأتي بذلك، والله قال في كتابه: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241].
{لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236].
إذاً، لا بدّ أن يعطيها شيء، مال، ثياب، حلي، هدايا، لا بدّ أن يعطيها شيء، يجب، الله -عز وجل- قال في هذه الحالة: {وَمَتِّعُوهُنَّ} أمر، وقال: {حَقًّا} لا تخرج بلا شيء، مراعاة لنفسها.
مراعاة الشريعة لإذن الزوج عند تصرف الزوجة بماله:
المرأة الحرة الرشيدة تتصرف في مالها كيف شاءت، ولو كانت متزوجة، لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- أرشد المرأة المتزوجة إلى استئمار الزوج في التصرفات المالية لها، ليس وجوبًا، لكن استحبابًا، لماذا؟
مراعاة لنفسيته؛ لأنه زوجها، لا يحل لامرأة في مالها التصرف إلا بإذن زوجها، استحبابًا، مراعاة لنفسيته، رجل قوام، فتستأذنه في صداقتها استحبابًا.
مراعاة الشريعة الإسلامية لنفسية البهائم:
عباد الله: مراعاة النفسيات هذه في الأحكام الشرعية في شريعتنا ليست خاصة بالبشر، حتى البهائم في ذبح الأضحية، نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تذبح شاة بحضرة الأخرى، مراعاة لنفسية البهيمة الأخرى التي تنظر إلى مصير صاحبتها، توارى عن المشهد.
ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً يحد شفرته، يريد أن يذبح شاة، وهي تلحظ إليه ببصرها، هكذا في الحديث. تخيل المشهد! يحد شفرته، بحضرة شاته، وهي تلحظ إليه ببصرها، قال: ((أتريد أن تميتها موتات؟)) [رواه البيهقي في السنن الكبرى: 19615، والطبراني في الأوسط: 3590، والحاكم في المستدرك: 7570، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2265].
لا يوجد دين في العالم، ولا شريعة، ولا أحكام، ولا قوانين، تراعي كل المصالح، كشريعة الإسلام، حتى نفسيات البهائم -يا عباد الله-.
اللهم فقهنا في دينك، اللهم اجعلنا ممن نصرت بهم الدين يا رب العالمين، اغفر لنا أجمعين، واجمع كلمتنا على الحق.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180- 182].
محمد صالح المنجد
أحد طلبة العلم والدعاة المتميزين بالسعودية. وهو من تلاميذ العالم الإمام عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه.
- التصنيف:
- المصدر: