التصنيف: الزهد والرقائق
ابن قيم الجوزية
أسرار الصلاة (23)- إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] انتظر جواب ربه له: "هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل"، وتأمل عبودية هاتين الكلمتين وحقوقهما، وميِّز الكلمة التي لله سبحانه وتعالى، والكلمة التي للعبد، وفِقهِ سرَّ كون إحداهما لله، والأخرى للعبد، وميِّز بين التوحيد الذي تقتضيه كلمة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، والتوحيد الذي تقتضيه كلمة {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، وفِقهَ سرَّ كون هاتين الكلمتين في وسط السورة بين نوعي الثناء قبلهما، والدعاء بعدهما، وفِقه تقديم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
ابن قيم الجوزية
أسرار الصلاة (21)- ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ
{ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]؛ عبودية تخصه سبحانه، وهي شهود العبد عموم رحمته. وشمولها لكلّ شيء، وسعتها لكلِّ مخلوق وأخذ كلّ موجود بنصيبه منها، ولاسيما الرحمة الخاصَّة بالعبد وهي التي أقامته بين يدي ربه: أقم فلاناً، ففي بعض الآثار أن جبرائيل يقول كل ليلة أقم فلاناً، وأنم فلاناً فبرحمته للعبد أقامه في خدمته يناجيه بكلامه، ويتملقه ويسترحمه ويدعوه ويستعطفه ويسأله هدايته ورحمته، وتمام نعمته عليه دنياه وأخراه فهذا من رحمته بعبده، فرحمته وسعت كل شيء، كما أن حمده وسع كل شيء، وعلمه وسع كل شيء، {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍۢ رَّحْمَةًۭ وَعِلْمًۭا} [غافر من الآية:7]، وغيره مطرود محروم قد فاتته هذه الرحمة الخاصَّة فهو منفي عنها.
ابن قيم الجوزية
أسرار الصلاة (20)- فلا ربَّ غيره
{رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ} [الفاتحة من الآية:2]؛ من العبودية شهود تفرّده سبحانه بالربوبية وحده، وأنَّه كما أنه رب العالمين، وخالقهم، ورازقهم، ومدبِّر أمورهم، وموجدهم، ومغنيهم، فهو أيضاً وحده إلههم، ومعبودهم، وملجأهم ومفزعهم عند النوائب، فلا ربَّ غيره، ولا إله سواه.
ابن قيم الجوزية
أسرار الصلاة (22)- مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ
ويعطي قوله {مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ} [الفاتحة:4]؛ عبوديته من الذلِّ والانقياد، وقصد العدل والقيام بالقسط، وكفَّ العبد نفسه عن الظلم والمعاصي، وليتأمل ما تضمنته من إثبات المعاد وتفرَّد الربِّ في ذلك بالحكم بين خلقه، وأنه يومٌ يدين الله فيه الخلق بأعمالهم من الخير والشر، وذلك من تفاصيل حمده، وموجبه كما قال تعالى: {وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ وَقِيلَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ} [الزمر من الآية:75]، ويروى أن جميع الخلائق يحمدونه يومئذ أهل الجنة وأهل النار، عدلاً وفضلاً، ولما كان قوله {ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ}.
ابن قيم الجوزية
أسرار الصلاة (18)- فالكون كلّه ناطق بحمده
وحمده تعالى قد ملأ الدنيا والآخرة، والسموات والأرض، وما بينهما وما فيهما، فالكون كلّه ناطق بحمده، والخلق والأمر كلّه صادر عن حمده، وقائم بحمده، ووجوده وعدمه بحمده، فحمدُه هوسبب وجود كل شيء موجود، وهوغاية كل موجود، وكلّ موجود شاهد بحمده، فإرساله رسله بحمده، وإنزاله كتبه بحمده، والجنة عُمِّرت بأهلها بحمده، والنَّار عُمِّرت بأهلها بحمده، كما أنَّها إنَّما وجدتا بحمده.
ابن قيم الجوزية
أسرار الصلاة (17)- ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ
{ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ} [الفاتحة:2]؛ تجد تحت هذه الكلمة إثبات الكمال للرب ووصفاً واسماً، وتنزيهه سُبحَانه وبحمده عن كلِّ سوء، فعلاً ووصفاً واسماً، وإنما هومحمود في أفعاله وأوصافه وأسمائه، مُنزَّه عن العيوب والنقائص في أفعاله وأوصافه وأسمائه. فأفعاله كلّها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل ولا تخرج عن ذلك، وأوصافه كلها أوصاف كمال، ونعوت جلال، وأسماؤه كلّها حُسنى.
ابن قيم الجوزية
أسرار الصلاة (19)- وإن لم يوحِّده العباد
كما أنه هو الواحد الأحد، وإن لم يوحِّده العباد، وهوالإله الحقُّ وإن لم يؤلِّهه، سبحانه هوالذي حمِد نفسه على لسان الحامد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «
» (صحيح مسلم [404]).فهو الحامدُ لنفسه في الحقيقة على لسان عبده، فإنه هو الذي أجري الحمدَ على لسانه وقلبه، وأجراؤه بحمده فله الحمد كله، وله الملك كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، علانيته وسره.
ابن قيم الجوزية
أسرار الصلاة (14)- قام في مقام مخاطبة ربِّه
فإذا أخذ العبد في قراءة القرآن، فقد قام في مقام مخاطبة ربِّه ومناجاته، فليحذر كل الحذر من التعرّض لمقته وسخطه، بأن يناجيه ويخاطبه، وقلبه معرِض عنه، ملتفت، إلى غيره، فإنه يستدعي بذلك مقته، ويكون بمنزلة رجل قرَّبه ملك من ملوك الدنيا، وأقامه بين يديه فجعل يخاطب الملك، وقد ولاَّه قفاه، أوالتفت عنه بوجهه يَمنَة ويسرة، فهولا يفهم ما يقول الملك، فما الظن بمقت الملك لهذا.
ابن قيم الجوزية
أسرار الصلاة (16)- طعم الصلاة
ومَن ذاق طعم الصلاة عَلِمَ أنه لا يقوم مقام التكبير والفاتحة غيرهما مقامها، كما لا يقوم غير القيام والركوع والسجود مقامها، فلكلٍّ عبوديته من عبودية الصلاة سرٌّ وتأثيرٌ وعبودية لا تحصل في غيرها، ثمَّ لكل آية من آيات الفاتحة عبودية وذوق ووجد يخُصُّها لا يوجد في غيرها.
ابن قيم الجوزية
أسرار الصلاة (15)- الفاتحة
فينبغي بالمصلي أن يقف عند كل آية من الفاتحة وقفة يسيرة، ينتظر جواب ربِّه له، وكأنه يسمعه وهو يقول: "حمدني عبدي" إذا قال: {ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ}.
فإذا قال: {ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ} وقفَ لحظة ينتظر قوله: "أثنى عليَّ عبدي".
فإذا قال: {مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ} انتظر قوله: "مجَّدني عبدي".
فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} انتظر قوله تعالى: "هذا بيني وبين عبدي".
فإذا قال: {ٱهْدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ} إلى آخرها انتظر قوله: "هذا لعبدي ولعبدي ما قال".
ابن قيم الجوزية
أسرار الصلاة (12)- عبودية الاستفتاح
فإذا قال: "سبحانك اللهم و بحمدك" وأثنى على الله تعالى بما هو أهله، فقد خرج بذلك عن الغفلة وأهلها، فإن الغفلة حجاب بينه وبين الله. وأتى بالتحية والثناء الذي يُخاطب به الملك عند الدخول عليه تعظيماً له و تمهيداً، وكان ذلك تمجيداً ومقدمة بين يدي حاجته. فكان في الثناء من آداب العبودية، و تعظيم المعبود ما يستجلب به إقباله عليه، ورضاه عنه، وإسعافه بفضله حوائجه.
ابن قيم الجوزية
أسرار الصلاة (11)- عبودية التكبير
وأُمر بأن يستقبل القبلة بوجهه، ويستقبل الله عز وجل بقلبه، لينسلخ مما كان فيه من التولي والإعراض، ثم قام بين يديه مقام المتذلل الخاضع المسكين المستعطف لسيِّده عليه، وألقى بيديه مسلّماً مستسلماً ناكس الرأس، خاشع القلب مُطرق الطرف لا يلتفت قلبه عنه، وطرفة عين، لا يمنة ولا يسرة، خاشع قد توجه بقلبه كلِّه إليه، وأقبل بكليته عليه، ثم كبَّره بالتعظيم والإجلال وواطأ قلبه لسانه في التكبير فكان الله أكبر في قلبه من كلِّ شيء، وصدَّق هذا التكبير بأنه لم يكن في قلبه شيء أكبر من الله تعالى يشغله عنه، فإذا ما أطاع اللسان القلب في التكبير، أخرجه من لبس رداء التكبّر المنافي للعبودية، ومنعه من التفات قلبه إلى غير الله.