التصنيف: الزهد والرقائق
ابن قيم الجوزية
الفوائد (19)- حديث يزيل الهم والغم!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
»، قالوا: "يا رسول الله أفلا نتعلمهن؟"، قال: « ». فتضمّن هذا الحديث العظيم أمورًا من المعرفة والتوحيد والعبودية. منها أن الداعي به صدّر سؤاله بقوله: "إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك" وفي ذلك تملّق له واعتراف بأنه مملوكه وآبائه مماليكه، فتحت هذا الاعتراف: أني لا أغنى بي عنك طرفة عين، وليس لي من أعوذ به وألوذ به غير سيّدي الذي أنا عبده، وفي ضمن ذلك الاعتراف بأنه مربوب مدبّر مأمور منهي، إنما يتصرّف بحكم العبودية لا بحكم الاختيار لنفسه. فليس هذا في شأن العبد بل شأن الملوك والأحرار.ابن قيم الجوزية
الفوائد (21)- في عرش الرحمن وقلب عبده
وخلق الله القلوب وجعلها محلًا لمعرفته ومحبّته وإرادته، فهي عرش المثل الأعلى الذي هو معرفته ومحبّته وإرادته، فهذا من المثل الأعلى، وهو مستوٍ على قلب المؤمن فهو عرشه، وإن لم يكن أطهر الأشياء وأنزهها وأطيبها وأبعدها من كل دنس وخبث؛ لم يصلح لاستواء المثل الأعلى عليه معرفة ومحبة وإرادة، فاستوى عليه مثل الدنيا الأسفل ومحبتها وإرادتها والتعلق بها، فضاق وأظلم وبعد من كمال هو فلاحه حتى تعود القلوب على قلبين: قلب هو عرش الرحمن ففيه النور والحياة والفرح والسرور، وقلب هو عرش الشيطان، فهناك الضيق والظلمة، فهو حزين على ما مضى، مهموم بما يستقبل، مغموم في الحال. وقد روى الترمذي وغيره عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «
»، قالوا: "فما علامة ذلك يا رسول الله؟"، قال: « ».ابن قيم الجوزية
الفوائد (20)- العبودية
ومتى شهد العبد أن ناصيته ونواصي العباد كلها بيد الله وحده يصرفهم كيف يشاء، لم يخفهم بعد ذلك، ولم يرجهم، ولم ينزلهم منزلة المالكين بل منزلة عبيد مقهورين مربوبين، المتصرف فيهم سواهم والمدبر لهم غيرهم، فمن شهد نفسه بهذا المشهد، صار فقره وضرورته إلى ربه وصفًا لازمًا له، ومتى شهد الناس كذلك لم يفتقر إليهم، ولم يعلق أمله ورجاءه بهم، فاستقام توحيده، وتوكله وعبوديته. ولهذا قال هود لقومه {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56].
ابن قيم الجوزية
الفوائد (16)- الفاتحة وما تضمنته (4)
قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، يتضمّن بيان طرفي الانحراف عن الصراط المستقيم، وأن الانحراف إلى أحد الطرفين انحراف إلى الضلال الذي هو فساد العلم والاعتقاد، والانحراف إلى الطرف الآخر انحراف إلى الغضب الذي سببه فساد القصد والعمل.
ابن قيم الجوزية
الفوائد (18)- {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ}
قال تعالى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصّلت:53]، أي أن القرآن حق، فأخبر أنّه لا بد أن يريهم من آياته المشهودة ما يبيّن لهم أن آياته المتلوّة حق. ثم أخبر بكفاية شهادته على صحة خبره بما أقام من الدلائل والبراهين على صدق رسوله. فآياته شاهدة بصدقه، وهو شاهد بصدق رسوله بآياته، فهو الشاهد والمشهود له، وهو الدليل والمدلول عليه. فهو الدليل بنفسه على نفسه كما قال بعض العارفين: "كيف أطلب الدليل على ما هو دليل لي على كل شيء؟ فأي دليل طلبته عليه فوجوده أظهر منه". ولهذا قال الرسل لقومهم: {أَفِي اللَّهِ شَكّ} [إبراهيم:10]، فهو أعرف من كل معروف، وأبين من كل دليل. فالأشياء عُرفت به في الحقيقة وإن كان عُرف بها في النظر والاستدلال بأحكامه وأفعاله عليه.
ابن قيم الجوزية
الفوائد (17)- الفاتحة وما تضمنته (5)
فأول السورة رحمة وأوسطها هداية وآخرها نعمة. وحظ العبد من النعمة على قدر حظّه من الهداية، وحظّه منها على قدر حظّه من الرحمة، فعاد الأمر كلّه إلى نعمته ورحمته. والنعمة والرحمة من لوازم ربوبيّته، فلا يكون إلا رحيمًا منعمًا وذلك من موجبات إلهيّته، فهو الإله الحق، وإن جحده الجاحدون وعدل به المشركون. فمن تحقّق بمعاني الفاتحة علمًا ومعرفة وعملًا وحالًا فقد فاز من كماله بأوفر نصيب، وصارت عبوديّته عبوديّة الخاصّة الذين ارتفعت درجتهم عن عوام المتعبّدين، والله المستعان.
ابن قيم الجوزية
الفوائد (15)- الفاتحة وما تضمنته (3)
قوله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، يتضمّن بيان أن العبد لا سبيل له إلى سعادته إلا باستقامة على الصراط المستقيم، وأنه لا سبيل له إلى الاستقامة إلا بهداية ربه له كما لا سبيل له إلى عبادته إلا بمعونته، ولا سبيل له إلى الاستقامة على الصراط إلا بهدايته.
ابن قيم الجوزية
الفوائد (14)- الفاتحة وما تضمنته (2)
فكمال الإنسان وسعادته لا تتم إلا بمجموع هذه الأمور، وقد تضمنّتها سورة الفاتحة وانتظمتها أكمل انتظام. فإن قوله تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 2-4]، يتضمّن الأصل الأول وهو معرفة الرب تعالى ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله. والأسماء المذكورة في هذه السورة هي أصول الأسماء الحسنى، وهي اسم (الله والرب والرحمن). فاسم (الله) متضمّن لصفات الألوهيّة، واسم (الرب) متضمّن لصفات الربوبية، واسم (الرحمن) متضمن لصفات الإحسان والجود والبر. ومعاني أسمائه تدور على هذا. وقوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، يتضمّن معرفة الطريق الموصلة إليه، وأنها ليست إلا عبادته وحده بما يحبّه ويرضاه، واستعانته على عبادته.
ابن قيم الجوزية
الفوائد (11)- صفات أربع للمتقين
ثم أخبر عن تقريب الجنة من المتقين، وأن أهلها هم الذين اتصفوا بهذه الصفات الأربع، إحداها: أن يكون أوابًا، أي رجّاعًا إلى الله من معصيته إلى طاعته، ومن الغفلة عنه إلى ذكره، سعيد بن المسيّب: "هو الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب". الثانية: أن يكون حفيظًا، قال قتادة: "حافظ لما استودعه الله من حقّه ونعمته". الثالثة: قوله {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْب} [ق:33]، يتضمن الإقرار بوجوده وربوبيته وقدرته وعلمه واطلاعه على تفاصيل أحوال العبد، ويتضمن الإقرار بكتبه ورسله وأمره ونهيه، ويتضمن الإقرار بوعده ووعيده ولقائه، فلا تصح خشية الرحمن بالغيب إلا بعد هذا كله. الرابعة: قوله {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:33]، وحقيقة الإنابة عكوف القلب على طاعة الله ومحبته والإقبال عليه. ثم ذكر سبحانه جزاء من قامت به هذه الأوصاف بقوله {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُود ِلَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:34-35].
ابن قيم الجوزية
الفوائد (10)- {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ}
ذكر صفات هذا الملقى فذكر له ست صفات، أحدها: أنه كفار لنعم الله وحقوقه، كفار بدينه وتوحيده وأسمائه وصفاته، كفار برسله وملائكته، كفار بكتبه ولقائه. الثانية: أنه معاند للحق يدفعه جحدًا وعنادًا. الثالثة: أنه مناع للخير، وهذا يعم منعه للخير الذي هو إحسان إلى نفسه من الطاعات والقرب إلى الله والخير الذي هو إحسان إلى الناس، فليس فيه خير لنفسه، ولا لبني جنسه كما هو حال أكثر الخلق. الرابعة: أنه مع منعه للخير معتد على الناس، ظلوم غشوم معتد عليهم بيده ولسانه. الخامسة: أنه مريب، أي صاحب ريب وشك، ومع هذا فهو آت لكل ريبة. السادسة: أنه مع ذلك مشرك بالله، قد اتّخذ مع الله إلها آخر يعبده، ويحبه، ويغضب له، ويرضى له، ويحلف باسمه، وينذر له، ويوالي فيه، ويعادي فيه، فيختصم هو وقرينه من الشيطان، ويحيل الأمر عليه، وأنه هو الذي أطغاه وأضله. فيقول قرينه: لم يكن لي قوّة أن أضلّه وأطغيه، ولكن كان في ضلال بعيد، اختاره لنفسه، وآثره على الحق.
ابن قيم الجوزية
الفوائد (12)- تفسير الآية {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً}
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15]، أخبر سبحانه أنه جعل الأرض ذلولًا منقادة للوطء عليها وحفرها وشقّها والبناء عليها، ولم يجعلها مستصعبة ممتنعة على من أراد ذلك منها. وأخبر سبحانه أنه جعلها مهادًا وفراشًا وبساطًا وقرارًا وكفاتًا. وأخبر أنه دحاها وطحاها وأخرج منها ماءها ومرعاها، وثبّتها بالجبال، ونهج فيها الفجاج والطرق، وأجرى فيها الأنهار والعيون، وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها، ومن بركتها أن الحيوانات كلها وأرزاقها وأقواتها تخرج منها. ثم نبّه بقوله {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} على أنّا في هذا المسكن غير مستوطنين ولا مقيمين بل دخلناه عابري سبيل فلا يحسن أن نتخذه وطنا ومستقرّا، وإنما دخلناه لنتزوّد منه إلى دار القرار، فهو منزل عبور لا مستقر حبور، ومعبر وممر، لا وطن مستقر.
ابن قيم الجوزية
الفوائد (8)- القيامة الصغرى والكبرى
أخبر عن القيامة الصغرى، وهي سكرة الموت، وأنها تجيء بالحق، وهو لقاؤه سبحانه وتعالى، والقدوم عليه، وعرض الروح عليه، والثواب والعقاب الذي تعجل لها قبل القيامة الكبرى. ثم ذكر القيامة الكبرى بقول: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيد} [ق:20]. ثم أخبر عن أحوال الخلق في هذا اليوم، وأن كل أحد يأتي الله سبحانه وتعالى ذلك اليوم ومعه سائق يسوقه، وشهيد يشهد عليه، وهذا غير شهادة جوارحه، وغير شهادة الأرض التي كان عليها له وعليه، وغير شهادة رسوله والمؤمنين. فإن الله سبحانه وتعالى يستشهد على العبد الحفظة والأنبياء والأمكنة التي عملوا عليها الخير والشر، والجلود التي عصوه بها، ولا يحكم بينهم بمجرّد علمه، وهو أعدل العادلين وأحكم الحاكمين. ولهذا أخبر نبيه أنه يحكم بين الناس بما سمعه من إقرارهم، وشهادة البيّنة، لا بمجرّد علمه فكيف يسوغ لحاكم أن يحكم بمجرد علمه من غير بيّنة ولا إقرار؟