إقامة الدولة الإسلامية.. بين منهاج النبوة وسبل أهل الضلالة (4) الرافضة الاثنا عشرية من إمامة ...

إقامة الدولة الإسلامية.. بين منهاج النبوة وسبل أهل الضلالة (4)
الرافضة الاثنا عشرية
من إمامة المعدوم.. إلى ولاية الطواغيت
[3/4]

- التوقفيّون والحركيّون:

وكان التطوير الأهم في نظرية "الإمامة الإلهية" خلال هذه المرحلة هو اختراع نظرية جديدة هي "الانتظار" التي اختلفوا لاحقا في تأويلها، بين موقفين رئيسيين، الأول (توقفي) يقوم على الاستخفاء بالتقية، حتى عودة الإمام الغائب، والآخر (حركي) يقوم على ضرورة تهيئة الأوضاع لعودة هذا الإمام، وذلك بتحقيق التمكين وامتلاك القوة التي تزيل أسباب خوف الإمام من أعدائه ليتمكن من الظهور والحكم وإقامة الدين.

أما الاتجاه الأول (التوقفي) فقد شدَّد على تحريم أي تحرك لإقامة "الدولة الإسلامية" أو اتباع أي أحد يخرج في عصر الغيبة باسم إعادة الحكم لآل البيت، وقد نسبوا لمحمد (الباقر) القول: "كل راية ترفع قبل راية المهدي فصاحبها طاغوت يُعبد من دون الله، وكل بيعة قبل ظهور القائم فإنها بيعة كفر ونفاق وخديعة".

وساد المنهج (الإخباري)، بين أتباع هذا الاتجاه، الذي يشبهونه زورا وبهتانا بمنهج أهل الحديث، والذي يمنع علماءهم من الاجتهاد، ويمنع جُهالهم من التقليد، ويأمر الجميع بالأخذ فقط من الآثار المنسوبة لأئمتهم، وقد أسرف هؤلاء بالكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم- وآل بيته، بل وعلى مهديهم الغائب، ويمكن القول إن معظم ما وُضع في دين الروافض من أكاذيب وبدع وخرافات، وطعن في الإسلام وأهله، وفي القرآن وحملته إنما هو من فعل أولئك (الإخباريين)، بل وقد أعادوا كتابة تاريخ القرون الماضية من جديد بما يُوافق أهواءهم ومعتقداتهم، وهكذا لم يكتفِ الروافض وعلى رأسهم (الإخباريون) ببناء دينهم على أصلهم الفاسد "الإمامة الإلهية"، وإنما كتبوا تاريخ البشرية من جديد ليوافق هذه النظرية الباطلة، بل وحددوا معالم المستقبل لينسجم معها أيضا.

وبناء على هذا فقد استمر وقوف أهل الاتجاه (التوقفي) موقفا سلبيا من كل الدول التي أقامها الرافضة خلال الأزمنة الماضية، ونقضوا شرعيتها بناءً على نظريات (الوصية) و(النص) و(العصمة) و(الانتظار) وغيرها، التي لا تتوافق شروطها مع جميع أولئك الحكام رغم ديانتهم بدين الرافضة، وإيمانهم بانتظار (المهدي)، ورغم زوال الموانع التي برَّروا بها غيبة إمامهم، بعرض بعض أولئك الملوك على طواغيت الرافضة، أن يطلبوا من (المهدي) الظهور لتسلم حكم دولهم، إلا أنهم رفضوا العرض بحجة أن لخروجه علامات لم تظهر بعد!

أما أصحاب الاتجاه الآخر، الذين لم ترق لهم جمودية (الانتظار)، رغم إيمانهم بألّا إمام إلا بظهور مهديهم، تبعا لإيمانهم بنظرية (الإمامة الإلهية) وشروطها الباطلة، فقد أحرجهم كثيرا ضعف نظرياتهم البدعية وقصصهم الخرافية أمام حجج خصومهم، فتحركوا تحت ضغط أتباعهم ليتحرروا من قيود جمودية (الانتظار)، متسلحين بالمنهج العقلي الضال للمعتزلة، وأصولهم في التلقي والاجتهاد والمناظرة، ليفتح طواغيت الرافضة هؤلاء، الذين يسمّونهم (الأصوليين) الباب بذلك رويدا رويدا أمام أنفسهم، للاجتهاد واتخاذ الأتباع والمقلدين، وإعادة العمل ببعض العبادات التي أسقطها (التوقفيون) في عصر الغيبة، كصلاة الجمعة، والحسبة، والقتال، وإقامة الحدود، بل والإمارة أيضا، وكل ذلك طبعا وفق دين الرافضة، لا وفق دين الإسلام.


المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 72
الخميس 17 جمادى الآخرة 1438 ه‍ـ

لقراءة المقال كاملاً.. تواصل معنا تيليجرام:
@wmc11ar
...المزيد

إقامة الدولة الإسلامية.. بين منهاج النبوة وسبل أهل الضلالة (4) الرافضة الاثنا عشرية من إمامة ...

إقامة الدولة الإسلامية.. بين منهاج النبوة وسبل أهل الضلالة (4)
الرافضة الاثنا عشرية
من إمامة المعدوم.. إلى ولاية الطواغيت
[2/4]

- من "الإمامة الإلهية" إلى نيابة الإمام:

لم يستحِ الروافض من تغيير دينهم في مسألة الإمامة عدة مرات طوال قرنين من الزمن تقريبا، ولكن أحرج المواقف التي مرّوا بها كانت عند وفاة إمامهم الحادي عشر الحسن (العسكري) بن علي (الهادي)، وذلك في منتصف القرن الثالث الهجري، من غير أن يعقب، ولتسلم لهم نظريتهم اخترعوا قصة ولادة ولد للحسن (العسكري) من جارية رومية، وزعموا أن أمه أخفته لحمايته من الحكام حتى يكبر، ثم عدّلوا القصة ليقولوا إن أعداءه عثروا عليه وهو صبي، فاختبأ منهم في سرداب في مدينة سامراء بالعراق.

فلما طالت قصة اختبائه، وكثرت أسئلة أتباعه عنه، ومطالبتهم برؤيته لأخذ الدين منه، زعم الدجاجلة الكذبة أنه متخفٍّ عن الناس، ومحتجب عن أعينهم، فلا يعرفه إلا نائب له هو (عثمان بن سعيد العمري) الذي أخرج لهم رسائل زعم أنها بخط المهدي المزعوم، بتنصيبه نائبا عنه للرد على أسئلة الناس، وتبليغهم علم الإمام، واستلام الخمس منهم، والأخيرة هي الأهم كما سنرى لاحقا.

ومع ظهور نواب للإمام الثاني عشر محمد (المهدي) بن الحسن (العسكري)، انتهى عند الرافضة عصر الأئمة المعروفين وبدأ عصر الغيبة، وسميت هذه المرحلة بالغيبة الصغرى، لوجود نواب معروفين للإمام، يقومون مقامهم، ويحفظون لطواغيت الرافضة نظريتهم الباطلة وأصلهم الفاسد.

واستمرت مرحلة (الغيبة الصغرى) قرابة الـ 70 عاما، تعاقب على نيابة الإمام فيها 4 نواب، أهمهم بعد العمري ابنه محمد (ونلاحظ انتقال نيابة الإمام بالوراثة كمنصب الإمامة)، الذي استمر في منصبه 40 عاما، تلاه الحسين النوبختي، ثم علي المسيري، الذي انتهت بوفاته -سنة 329 هـ- هذه المرحلة، خاصة أنهم بوفاته شعروا أن كذبة الغيبة الصغرى ووجود الإمام في مكان خفي لن تنطلي على أحد بعد اليوم بانقضاء العمر المتوقع لغالب الناس.

وبدأت مرحلة (الغيبة الكبرى) التي منعوا من الخوض في كُنهها أو التساؤل عن مكان الإمام وموعد ظهوره فيها، والتي استمرت منذ ذلك الوقت وإلى يومنا هذا، ليعيش الرافضة طوال 1000 سنة دون إمام ظاهر، ويبدأ علماء الرافضة بوضع الأحاديث على ألسنة أئمتهم، وتتطور محاولاتهم الخروج من متاهة الغيبة بحلول متعددة، لا شك أن ولاية الفقيه في إيران الرافضية هي طورها الأعلى، ولذلك نجد إكثارهم هذا الزمان من الحديث عن (عصر الظهور)، ويقصدون بذلك ظهور المهدي (المنتظر) ليقيم الدولة الإسلامية العادلة، وينتقم من أعداء آل البيت (ويقصدون بهم أهل السنة)، ويملأ الأرض عدلا كما ملئت كفرا وجورا، زعموا.

- ألف عام من الحيرة...:

وقع طواغيت الرافضة في شر أعمالهم، وسقطوا في فخ "الإمامة الإلهية" الذي نصبوه للمسلمين، ووجدوا أن القيود والأغلال التي طالما ربطوا بها الناس باتت تطوق أياديهم وأعناقهم، فما كانوا يحصرونه بالإمام من تشريع واجتهاد وحكم وإقامة للحدود وقتال وأخذ لأموال الخمس والزكاة وغيرها، ويمنعون أيا من الناس من أن يتولَّوا شيئا منها، باتوا هم أيضا ممنوعين من القيام بها، بحكم غيبة الإمام، واستحالة موته ونصب إمام بعده، لأنهم ختموا به سلسلتهم الاثني عشرية، وكذلك صعوبة ادعاء النيابة عنه، لكثرة الأدعياء الذين ستغويهم صلاحيات الإمامة ومكاسبها المالية للسعي في ذلك (وقد خرج فعلا في عصر النواب الأربعة المقبولين لدى الرافضة أكثر من 30 نائبا يرفضهم الرافضة، وتولوا جمع الخمس والزكوات باسم الإمام الغائب)، وهنا كان لا بد لهم من حيل جديدة تمكنهم من الاستمرار في وضع دين الرافضة، وتطوير نظرية "الإمامة الإلهية".

وهكذا اهتزت عقيدة الرافضة كثيرا خلال هذه الفترة، وخرج غالبهم عن هذا الدين الباطل الذي يجدون فيه تناقضا كبيرا، بحصره كل جوانب دينهم ودنياهم بوجود الإمام الذي ليس له وجود إلا في الأساطير والخرافات، وقد وصف أحد طواغيتهم الكذابين الذي يسمّونه (الصدوق) حالة الرافضة في بدايات (الغيبة الكبرى)، التي يسمونها (عصر الحيرة) بقوله: "وجدت أكثر المختلفين عليّ من الشيعة قد حيرتهم الغيبة، ودخلت عليهم في أمر القائم الشبهة"، ويقول طاغوت آخر من طواغيتهم، وهو النعماني: "أيّ حيرة أعظم من هذه التي أخرجت من الأمر هذا الخلق الكثير والجم الغفير، ولم يبقَ ممن كان فيه إلا النزر اليسير؟! وذلك لشكّ الناس".


المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 72
الخميس 17 جمادى الآخرة 1438 ه‍ـ

لقراءة المقال كاملاً.. تواصل معنا تيليجرام:
@wmc11ar
...المزيد

إقامة الدولة الإسلامية.. بين منهاج النبوة وسبل أهل الضلالة (4) الرافضة الاثنا عشرية من إمامة ...

إقامة الدولة الإسلامية.. بين منهاج النبوة وسبل أهل الضلالة (4)
الرافضة الاثنا عشرية
من إمامة المعدوم.. إلى ولاية الطواغيت
[1/4]

أوردنا في الحلقة الماضية من هذه السلسلة لمحات عن تاريخ نشوء دين الرافضة على أساس نظرية (الإمامة الإلهية) الباطلة، وما اشتُق منها من نظريات (الوصية) و(النص)، و(التقية) و(البداء)، و(الغيبة) و(الرجعة)، وغيرها من البدع المكفرة والخرافات.

وسنحاول في هذه الحلقة بإذن الله أن نبين كيف اضطر الروافض إلى التلاعب بنظرية (الإمامة الإلهية) التي اشترطوها لإقامة الدولة الإسلامية، وكيف أضافوا التعديل تلو التعديل عليها حتى وصلوا إلى نظرية (ولاية الفقيه) التي تنقض أصول نظريتهم الأولى، وتقوم عليها دولة إيران الشركية اليوم، وتسعى لتعميمها على بلاد المسلمين كافة.

فبخلاف ما يزعمه الرافضة من أن دينهم وحي من السماء على رسول الله محمد، صلى الله عليه وسلم، وأنه وصل إليهم مسلسلا منه عبر علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وأبنائه، حتى دوَّنوه في القراطيس ونشروه بين الناس، فإن أكثر الباحثين المحقِّقين يجزمون بأن هذا الدين كتبه علماء الرافضة بعد موت كل من يزعمون له الإمامة والعصمة من أبناء علي، رضي الله عنه، ودخولهم في ما يسمّونه (عصر الغيبة) أي غيبة إمامهم الثاني عشر الذي اختلقوه من العدم، ليرقّعوا به ثوبهم المزِق، ويعززوا به بنيانهم الهدِم.

فلم يكتفِ الرافضة باشتراط العصمة والنص لمنصب الإمامة، ليدعوا بذلك نقض شرعية كل خلفاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من لدن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، ويبرروا الخروج عليهم، وتكفيرهم، بل توجهوا إلى عامة المسلمين ليشترطوا عليهم في دينهم أمورا تُلزمهم ببيعة أئمتهم والدخول في دين الرفض ليكونوا مسلمين.
فكان أهم ما بدؤوا به هو موضوع الإمامة، فجعلوا منها أصلا من أصول الدين، ومن لم يعرف إمام زمانه، ويبايعه فلا إيمان له، ولذلك وقع عندهم الخلاف في إيمان بعض من كبار أصحاب أئمتهم لما ماتوا في فترات الاختلاف على تحديد الإمام.
وليضيِّقوا على أتباع دينهم أكثر، فقد قالوا بتوقيف كل ما يتعلق بمنصب الإمامة من أحكام كالقضاء وإقامة الحدود والحسبة والجهاد والجمعة، وغيرها، فلا يصح أن يقوم بها إلا من يزعمون إمامته أو من ينصِّبه الإمام لذلك، وحرَّموا عليهم أن يتقاضوا إلى من يسمونهم بـ "أئمة الجور"، أو يقاتلوا من ورائهم، أو يصلوا الجمعة خلفهم، أو يؤدوا إليهم زكاتهم.

بل وامتد تحريفهم إلى التشريع في الدين، فمنعوا أتباعهم من الأخذ من كتاب الله، أو سنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- مباشرة، وألزموهم بأن يأخذوا الأحكام عن طريق "الأئمة" فحسب، وزعموا أن كلام أئمتهم هو القرآن الناطق، مقابل ما سموه "القرآن الصامت" الذي في مصاحف المسلمين وصدورهم، ثم تعدوا الأمر لينكروا توقف التشريع في الدين بموت النبي، صلى الله عليه وسلم، زاعمين أنه اختص آل بيته بالكثير من الأحكام التي لم تحدث الحاجة لإظهارها في حياته، وأن كل ما ينسبونه لأئمتهم من أقوال وأفعال، إنما هو مما ورثوه من علم النبوة، بل شطُّوا بعد ذلك بعيدا ليزعموا أن أئمتهم يوحى إليهم من الله تعالى، لتكون أقوالهم وحيا يوحى، ويجعلوها ضمن ما يسمونه "السنة" في باب أصول الفقه، فمنعوا الاجتهاد في الدين، وعدُّوا من يتصدى للفتيا من غير الأئمة بمثابة الطواغيت المشرِّعين، الحاكمين بغير ما أنزل الله.

ولم يقتصروا على حصرهم تفسير الكتاب والسنة بما ينسبونه لأئمتهم من أقوال، وتأويلهم نصوص الوحيين بتأويلات باطنية كاذبة، بل امتدت ألسنتهم الآثمة إلى تلك النصوص بالتكذيب والتحريف، فلا صحيح من السنة إلا ما وافق مذهبهم، بناء على القول المكذوب على جعفر (الصادق): "ما خالف العامة فهو الرشاد"، ويعنون بالعامة أهل السنة والجماعة، بل وكذّبوا حتى بصحة القرآن الكريم، زاعمين أن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حرّفوا آياته، وحذفوا منها ما كان فيها من نص واضح على إمامة علي -رضي الله عنه- وآل بيته، وأزالوا ما فيه من لعن لأبي بكر وعمر وبني أمية، وكل من ليس على مذهبهم الباطل وملتهم الكافرة بزعمهم، ونسبوا إلى أئمتهم مصحفا غير الذي في أيدي الناس، وبالتالي فقد ادعوا احتكار الوحيين أيضا بعد أن احتكروا تأويلهما، وبيان الأحكام النازلة فيهما.

وزادوا على حصرهم دين الناس بأئمتهم، بأن ربطوا دنياهم بهم أيضا عن طريق إشاعة شرك العبودية بين أتباعهم، وحثهم على الاستغاثة بأئمتهم ودعائهم، والتقرب إليهم بالذبح والنذور، والتبرك بقبورهم، وما ينسبونه إلى آثارهم، ليرزقوهم الأموال والأولاد، أو يشفوهم من الأمراض، زعموا، وكل ذلك في إطار عملية شاملة لحشد الناس إلى حزبهم، وربطهم بمذهبهم.

وفيما ذكرنا من أخبار بنائهم دينهم كله على أصل الإمامة غنى عن إيراد المزيد من الأمثلة لتوضيح المراد، رغم أن دينهم الخرافي الوضعي مليء بأمثال هذه الغرائب.


المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 72
لقراءة المقال كاملاً.. تواصل معنا تيليجرام:
@wmc11ar
...المزيد

صحيفة النبأ العدد 72 مقال: الاستشفاء بالأدوية الحسيَّة (٢/٢) - أدوية ثبت فيها الشفاء العام مع ...

صحيفة النبأ العدد 72
مقال:
الاستشفاء بالأدوية الحسيَّة
(٢/٢)

- أدوية ثبت فيها الشفاء العام مع نجاعتها بعلاج مرض محدد:

لقد جاءت في السنة النبوية عن العسل والحجامة نصوص خاصة وعامة في الشفاء، فعن بشير بن عمير قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (في الحجم شفاء) [رواه ابن أبي شيبة]، وكذلك ما رواه أبو هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن كان في شيء مما تداوون به خير، ففي الحجامة) [رواه أحمد]، فهذا دليل الشفاء العام، أما دليل العلاج الخاص بمرض معين، فهو حديث يحذِّر من ارتفاع ضغط الدم القاتل، الذي قد يصبح مزمنا، فعن أنس بن مالك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من أراد الحجامة فليتحرَّ سبعة عشر أو تسعة عشر أو إحدى وعشرين، ولا يَتبَيَّغ بأحدكم الدم فيقتله) [رواه ابن ماجه]، وتبيُّغ الدم يعني فورانه وهيجانه.

أما العسل فكذلك فيه نص خاص لمرض معين، وفيه نص عام للشفاء وهو قوله تعالى: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69]، وأما دليل العلاج لمرض معين وهو فساد المعدة المسبِّب للإسهال، ففيه ما رواه أبو سعيد الخدري، قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن أخي استطلق بطنه، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (اسقه عسلا) فسقاه، ثم جاءه فقال: إني سقيته عسلا فلم يزده إلا استطلاقا، فقال له ثلاث مرات، ثم جاء الرابعة فقال: (اسقه عسلا) فقال: لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (صدق الله، وكذب بطن أخيك)، فسقاه فبرأ. [رواه مسلم].

- أدوية ثبت شفاؤها لأمراض معينة في البدن:

ثبتت في السنة النبوية بعض الأحاديث التي تدل على أشياء معينة تكون علاجا لأمراض بعينها، كداء عرق النسا مثلا، وهو ما يُعرف بالانزلاق الغضروفي في الفقرات القطنية، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (شفاء عرق النِّسا ألية شاة أعرابيةٍ، تُذابُ ثم تجزَّأ ثلاثة أجزاء، ثم تُشربُ على الريق، كل يومٍ جزءٌ) [رواه ابن ماجه والحاكم، ورواه أحمد بلفظ آخر]، أما كون الشاة أعرابية وتخصيص الإلية منها، وتجزأتها ثلاثة أجزاء، وشربها على الريق، فهذا يرجع تفصيله لأهل الاختصاص.

وهناك ما يقع للبدن من التقرُّحات الجلدية أو الإصابة بشوكة فلها دواء مخصوص كذلك، فعن سلمى أم رافع، مولاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: "كان لا يصيب النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قرحة، ولا شوكة، إلا وضع عليه الحناء" [رواه ابن ماجه]، فهذا دواء مادي لمصاب ظاهر.

وأما ما يخص العينين ففي الأحاديث ما يدل على دواء لشفائهما، وفيها ما يدل على صيانتهما والحفاظ عليهما، فعن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (الكَمأة مِن المن، وماؤها شفاء للعين) [رواه مسلم]، وأما في تقوية البصر والحفاظ عليه فعن جابر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (عليكم بالإثمد عند النوم، فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر) [رواه ابن ماجه وغيره من أهل السنن].

ونختم بهذا الحديث النبوي الذي يخص القسط الهندي وأن فيه سبعة أشفية، فعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن أم قيس بنت محصن -وكانت من المهاجرات الأول اللاتي بايعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي أخت عكاشة بن محصن أحد بني أسد بن خزيمة- قال: أخبرتني أنها أتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بابن لها لم يبلغ أن يأكل الطعام، وقد أعلقت عليه من العذرة [وهو وجع وألم في حلق الصبي]، قالت: فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (علامه تَدْغَرن أولادكن بهذا الإعلاق؟ عليكم بهذا العود الهندي -يعني به الكست- فإن فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب) [رواه مسلم]. وفي رواية أخرى لمسلم، رحمه الله: (منها ذات الجنب، يُسعَط من العذرة ويُلَدَّ من ذات الجنب)، والكست هو القسط، وإحدى استخداماته معالجة هذا المرض المذكور في الحديث.

فهذه وغيرها مما ورد في السنَّة تثبت صورة التداوي المادي الذي جاء على لسان الصادق المصدوق، صلى الله عليه وسلم، ومن بعض أفعاله كذلك، وسنترك المجال للدخول إلى تفاصيل التداوي من مفردات المواد وأخلاطها، لمقام آخر بإذن الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.


المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 72
الخميس 17 جمادى الآخرة 1438 ه‍ـ

لقراءة المقال كاملاً.. تواصل معنا تيليجرام:
@wmc11ar
...المزيد

صحيفة النبأ العدد 72 مقال: الاستشفاء بالأدوية الحسيَّة (١/٢) الحمد لله خالق الداء والدواء، ...

صحيفة النبأ العدد 72
مقال:
الاستشفاء بالأدوية الحسيَّة
(١/٢)

الحمد لله خالق الداء والدواء، ينفع من يشاء، وينزل بمن يشاء البلاء، والصلاة والسلام على رسول الله محمد ماحي الشرك والشقاء، وعلى آله الأنقياء وصحبه الأصفياء، أما بعد:

سبق لنا الحديث عن التداوي بالأدوية غير الحسية في السنة مثل الاستشفاء بالقرآن والدعاء والاستغفار والصدقة وغير ذلك، ولا بد أن نقدِّم بين يدي القارئ سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- في التداوي بالأدوية المادية المحسوسة، من فعلِه -صلى الله عليه وسلم- أو قولِه الذي هو من الوحي الإلهي، وذلك ليرشد أمته إلى المنافع التي يجهلها أهل الطب، فهو نبي الرحمة وما ترك لنا شيئا من الدين والمصالح العامة إلا دلَّنا عليه، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ{ [الأنبياء: 107].

- تداوي النبي -صلى الله عليه وسلم- لنفسه ولأصحابه:

دلَّت السنة على أفعال كان يفعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- للتداوي، ومنها على سبيل المثال الاكتواء، حيث كان يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم- لصحابته الكرام، فعن جابر قال: "رُمي أُبَيّ يوم الأحزاب على أكحُله فكواه رسول الله، صلى الله عليه وسلم" [رواه مسلم].

وعن جابر أيضا قال: "بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أُبيّ بن كعب طبيبا فقطع منه عرقا ثم كواه عليه" [رواه مسلم].

وهذا في الكَي أمَّا في الحِجامة، ففي رواية للبخاري من طريق وهيب عن أيوب بلفظ: (احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم)، وللبخاري أيضا في كتاب الطب أنه -صلى الله عليه وسلم- احتجم وأعطى للحجَّام أجره، مما يدل على مداومته -صلى الله عليه وسلم- وحرصه على هذا الفعل.
أدوية ثبت فيها الشفاء العام من الأدواء
وردت بعض النصوص في السنة النبوية تدل على أن بعض المواد فيها شفاء بشكل عام بدون تخصيص داء معين، بل هي شفاء من كل داء، ومنها الحبة السوداء، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (في الحبة السوداء شِفاء من كل داء، إلَّا السام) [رواه البخاري]، فهذا نص عام في الشفاء وغير محدِّد لنوع الداء إلا السام أي الموت الذي يسبقه داء الهرم، الذي لا شفاء له.

وكذلك ما رواه الطبراني عن إبراهيم بن أبي عبلة، قال: سمعت أبا أُبَيّ بنِ أم حرام، يقول: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالسَّنا والسَّنُوت, فإن فيهما شفاء من كلِّ داء إلا السَّام). قالوا: يا رسول الله وما السام؟ قال: (السام الموت). قلنا لعمرو بن بكر: وما السَّنوت؟ قال: أما في معنى هذا الحديث فهو العسل، وأما في غريب كلام العرب فهو رُبُّ عُكَّة السَّمن" [مسند الشاميين]، وقيل أن السنا نبات فيه دواء وهذا يعرفه أهل الطب.

ومنها أيضا عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (عليكم بألبان البقر فإنها ترم مِن كلِّ الشجر، وهو شفاء من كل داء) [رواه الحاكم في المستدرك]، ورواه أبو نعيم الأصفهاني في كتاب الطب عن صهيب الخير، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (عليكم بألبان البقر فإنه شفاء وسمنها دواء)، ولأنها تأكل من كل الشجر، و الأشجار والأعشاب تحتوي المئات من الأدوية، فهذه الأدوية تجتمع في ألبانها وسمنها.

ونختم هذه النصوص العامة بما روته أم المؤمنين عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إن في عجوة العالية شفاء) [رواه مسلم]، والعجوة هي نوع من أنواع التمور، فهذه بعض النصوص العامة التي ليست موضع تفصيل في هذة المقالة.


المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 72
الخميس 17 جمادى الآخرة 1438 ه‍ـ

لقراءة المقال كاملاً.. تواصل معنا تيليجرام:
@wmc11ar
...المزيد

الدولة الإسلامية صحيفة النبأ العدد 72 - الافتتاحية: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين إن الله إذا ...

الدولة الإسلامية
صحيفة النبأ العدد 72 - الافتتاحية:

واعبد ربك حتى يأتيك اليقين

إن الله إذا أنعم على عبد من عبيده جعل ظاهره كباطنه، وأقواله كأفعاله، ولم يجعله منافقا في المعتقد، أو ممَّن يخالف قوله عمله.

وهذا ما أنعم الله به على الدولة الإسلامية -بفضله سبحانه- في أبواب كثيرة لا تعد ولا تحصى، وعلى رأسها غاية وجودها، وسبب بنائها، وهو إقامة الدين، وتحكيم الشريعة.

فخالفت الضالِّين المُضلِّين من أهل فصائل الفرقة والخلاف، وأحزاب الضرار، الذين ملؤوا الدنيا تصريحات وتنظيرات عن سعيهم لإقامة الدين، وعزمهم على تحقيق ذلك بمجرد أن يكون لهم الأمر والتمكين، ثم ظهر كذب شعاراتهم، ونكث وعودهم بمجرد أن تحقق لهم ما يريدون، فحكموا بشرائع الطواغيت، وقدَّموا بقاء رموزهم وتنظيماتهم على إقامة الدين.

وكلَّما فتح الله بقعة من الأرض، وتمكَّنت فيها، بادر جنودها بإقامة دين الله، وأمرِ الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر، رغم علمهم اليقيني بأن هذا الأمر سيؤلّب الكفار عليهم، ويوغل عليهم صدور المنافقين، ولكنهم يطلبون بذلك رضى رب العالمين.

وإن من خير ما تَقر به عين الموحد اليوم أن يرى في كل بقعة من أرض الإسلام كيف تُقام الصلاة وتُجبى الزكاة، ويُؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر، وتقام الحدود، رغم جبهات القتال المشتعلة في كل ناحية.

فترى أسود الإسلام يسطِّرون الملاحم، ويبذلون المُهج والنفوس، وهم يتصدون لحملات المشركين على أطراف مدينة من المدن، وفي الوقت عينه يُرفع الأذان ويجتمع المسلمون للصلاة، على بعد شارع أو شارعين من خطوط الجبهات المشتعلة، وفي جوارهم يطوف إخوان لهم آخرون ليوزعوا الزكاة على المستحقين، وتُتابع محاكم الإسلام تحكيم شريعة الله فيما يُرفع إليها من قضايا وخصومات، وتقيم حدود الله على من استحقها، ولا تتوقف بِحالٍ الدعوةُ إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا يقام دين الإسلام كاملا كما أمر الله سبحانه.

فالمُقاتل في الخط الأول ما ثبت في مكانه إلا ليحمي شريعة الله التي تقام في الأرض التي يدفع المشركين عنها، وهو يعلم يقينا أن انتصاره على عدوه ليس بقوة ذراعه، ولا بدقة سلاحه، ولا بكثرة عتاده، وإنما هو محض فضل الله عليه، وكلما ازداد يقينا أن الدين يُقام كما أراد الله يزداد يقينا بنصر الله له على عدوه، وهو يقيم الدين من هذا الجانب الذي كلّفه به إمامه، بجهاده للمشركين، وحمايته لبيضة المسلمين.

وإخوانه من ورائه فئة له يأوي إليها، وردء له، يحفظون المسلمين وأعراضهم وأموالهم، ولم يُبعدهم عن جبهات القتال وخطوط الرباط سوى طاعتهم لأولي الأمر منهم، وما أداؤهم لِما أُلقي على عواتقهم من أمانة في إقامة الدين، الذي لا تَعظم شعائره، ولا تُحفظ حدوده، ولا تطبق أحكامه إلا بهم، فإن استنفروا نفروا، وإن استُنصروا نصروا، وإن أُمروا أطاعوا.

وهكذا يستمر الحال في كل بقعة من بقاع دار الإسلام، يقيم جنود الدولة الإسلامية الدين فيها ما دامت عليهم نعمة التمكين، حتى إذا ابتلاهم ربهم بعدوهم، واضطروا للتحيّز عنها إلى فئتهم، بإذن أئمتهم، بعدما بذلوا الوسع في دفع المشركين عنها، برأت ذمتهم أمام الله، وعادوا يبذلون الوسع من جديد لاستعادة السيطرة عليها، وتحكيم الشريعة فيها، وبهذا يُثبتون صدق دعواهم، ووفاءهم بعهودهم، فيُرضون ربَّهم، ويظهرون صحة منهجهم.

وقد روى البخاري من حديث أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها) [الأدب المفرد].

فيا جنود الإسلام وحراس الشريعة، لا يحقرن أحدُكم من المعروف شيئا، ولا يعجزنَّ أن يقيم أيَّ شعيرة من شعائر الإسلام قدر عليها، أو يدعو إلى أيٍّ من فضائل الأعمال، حتى وهو منشغل بدفع العدو، وحماية البيضة، وحراسة الثغر.

وإياكم أن تؤجلوا إقامة الدين كاملا غير منقوص بعد أن يمكِّنكم الله في الأرض يوما أو بعض يوم، وإياكم أن تعطلوا أيَّا من شعائر الدين وأحكامه في أرض بأيديكم ولو ليوم أو بعض يوم، فتُغضبوا ربكم، وتعينوا على أنفسكم عدوكم، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرهُ} [الزلزلة: 7 - 8].



المصدر: صحيفة النبأ - العدد 72
الخميس 17 جمادى الآخرة 1438 ه‍ـ
...المزيد

من لم يعمل بعلمه جاهل وفي الكلام المعروف عن الحسن البصري ويروى مرسلاً عن النبي، صلى الله عليه ...

من لم يعمل بعلمه جاهل

وفي الكلام المعروف عن الحسن البصري ويروى مرسلاً عن النبي، صلى الله عليه وسلم: «العلم علمان: فعلم في القلب، وعلم على اللسان. فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان حجة اللّه على عباده».

وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي موسى، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (مَثَل المؤمن الذي يقرأ القرآن مَثَل الأُتْرُجَّة، طعمها طَيِّب وريحها طيب. ومَثَل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مَثَل التمرة، طعمها طيب، ولا ريح لها. ومَثَل المنافق الذي يقرأ القرآن مَثَل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر. ومَثَل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مَثَل الحَنْظَلَة، طعمها مر، ولا ريح لها). وهذا المنافق الذي يقرأ القرآن يحفظه ويتصور معانيه، وقد يصدّق أنه كلام اللّه، وأن الرسول حق، ولا يكون مؤمنا، كما أن اليهود يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وليسوا بمؤمنين، وكذلك إبليس وفرعون وغيرهما. لكن من كان كذلك، لم يكن حصل له العلم التام والمعرفة التامة. فإن ذلك يستلزم العمل بموجبه لا محالة، ولهذا صار يُقال لمن لم يعمل بعلمه: إنه جاهل، كما تقدّم.

وكذلك لفظ [العقل] وإن كان هو في الأصل: مصدر عَقَل يَعْقِل عَقْلاً، وكثير من النظار جعله من جنس العلوم فلا بد أن يُعد علما يُعمل بموجبه، فلا يسمى عاقلاً إلا من عرف الخير فطلبه، والشرَّ فتركه؛ ولهذا قال أصحاب النار: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]، وقال الله -تعالى- عن المنافقين: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14]، ومن فعل ما يعلم أنه يضره؛ فمثل هذا ليس له عقل، فكما أن الخوف من اللّه يستلزم العلم به، فالعلم به يستلزم خشيته، وخشيته تستلزم طاعته، فالخائف من اللّه ممتثل لأوامره مجتنب لنواهيه، وهذا هو الذي قصدنا بيانه أولا.


المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 65
الخميس 27 ربيع الثاني 1438 ه‍ـ

مقتطف من مقال: إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ

لقراءة المقال كاملاً.. تواصل تيليجرام:
@WMC111ART
...المزيد

إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ قال أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية -رحمه الله- في ...

إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ

قال أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية -رحمه الله- في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]: «والمعنى: أنه لا يخشاه إلا عالم، فقد أخبر اللّه أن كل من خشي اللّه فهو عالم، كما قال في الآية الأخرى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]، والخشية أبداً متضمنة للرجاء، ولولا ذلك لكانت قنوطاً، كما أن الرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمناً، فأهل الخوف للّه والرجاء له هم أهل العلم الذين مدحهم اللّه.


وقد روي عن أبي حيان التيمي أنه قال: العلماء ثلاثة: فعالم باللّه ليس عالماً بأمر اللّه، وعالم بأمر اللّه ليس عالماً باللّه، وعالم باللّه عالم بأمر اللّه. فالعالم باللّه هو الذي يخافه، والعالم بأمر اللّه هو الذي يعلم أمره ونهيه. وفي الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (واللّه إني لأرجو أن أكون أخشاكم للّه، وأعلمكم بحدوده).

وإذا كان أهل الخشية هم العلماء الممدوحون في الكتاب والسنة، لم يكونوا مستحقين للذم، وذلك لا يكون إلا مع فعلهم الواجبات، ويدل عليه قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 13 - 14]، وقوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، فوَعَدَ بنصر الدنيا وثواب الآخرة لأهل الخوف، وذلك إنما يكون لأنهم أدوا الواجب، فدل على أن الخوف يستلزم فعل الواجب، ولهذا يقال للفاجر: لا يخاف اللّه. ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: 17].

- من علم بالله أطاعه:

قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد عن هذه الآية، فقالوا لي: كل من عصى اللّه فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب. وكذلك قال سائر المفسرين. قال مجاهد: كل عاصٍ فهو جاهل حين معصيته. وقال الحسن وقتادة وعطاء والسُّدِّي وغيرهم: إنما سُمُّوا جهالاً لمعاصيهم، لا أنهم غير مميِّزين. وقال الزجّاج: ليس معنى الآية: أنهم يجهلون أنه سوء، لأن المسلم لو أتى ما يجهله كان كمن لم يواقع سوءاً، وإنما يحتمل أمرين:

أحدهما: أنهم عملوه وهم يجهلون المكروه فيه.
والثاني: أنهم أقدموا على بصيرة وعلم بأن عاقبته مكروهة، وآثروا العاجل على الآجل، فسُمُّوا جهالاً لإيثارهم القليل على الراحة الكثيرة، والعافية الدائمة. فقد جعل الزجّاج الجهل إما عدم العلم بعاقبة الفعل، وإما فساد الإرادة، وقد يقال: هما متلازمان، وهذا مبسوط في الكلام مع الجهمية.

والمقصود هنا أن كل عاص للّه فهو جاهل، وكل خائف منه فهو عالم مطيع للّه، وإنما يكون جاهلاً لنقص خوفه من اللّه، إذ لو تم خوفه من اللّه لم يعص. ومنه قول ابن مسعود، رضي اللّه عنه: كفى بخشية اللّه علماً، وكفى بالاغترار باللّه جهلاً، وذلك لأن تصور المخوف يوجب الهرب منه، وتصور المحبوب يوجب طلبه، فإذا لم يهرب من هذا، ولم يطلب هذا، دلَّ على أنه لم يتصوره تصوراً تاماً، ولكن قد يتصور الخبر عنه، وتصوُّر الخبر وتصديقه وحفظ حروفه غيرُ تصور المُخبَر عنه، وكذلك إذا لم يكن المتصوَّر محبوباً له ولا مكروهاً، فإن الإنسان يصدِّق بما هو مخوف على غيره ومحبوب لغيره، ولا يورثه ذلك هرباً ولا طلباً. وكذلك إذا أُخبر بما هو محبوب له ومكروه، ولم يكذب المُخبِر بل عرف صدقه، لكن قلبه مشغول بأمور أخرى عن تصور ما أُخبر به، فهذا لا يتحرك للهرب ولا للطلب.


المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 65
الخميس 27 ربيع الثاني 1438 ه‍ـ

مقتطف من مقال: إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ

لقراءة المقال كاملاً.. تواصل تيليجرام:
@WMC111ART
...المزيد

- عُبّاد النظريات: لقد كانت نتيجة تلك التجارب كارثية بحق، فقد قُتل، وسُجن، وشُرِّد، الملايين ...

- عُبّاد النظريات:

لقد كانت نتيجة تلك التجارب كارثية بحق، فقد قُتل، وسُجن، وشُرِّد، الملايين من الناس على أيدي الأنظمة الطاغوتية، دون تحقيق نتيجة تذكر، وكان وراء ذلك في الغالب -بالإضافة إلى الضلال في العقيدة والمنهج- فرضيات خاطئة، حاول أصحابها تجربتها على الواقع، وقد أقنعوا أتباعهم سلفاً بأنها صحيحة، وأن نتائجها الإيجابية مضمونة، بل تعدت نتائج تلك الفرضيات الخسائر الكبيرة المادية والبشرية، لتصيب الدين ذاته، بما جرى إدخاله عليه من البدع والمنكرات باسم الوسائل الضرورية لإحداث التغيير المنشود، ووصل الأمر ببعضهم إلى سلوك طريق الشرك بالله، وهو يزعم أن هذا الطريق يؤدي بالأمة إلى التوحيد الخالص، فلا هم ديناً أقاموا، ولا هم دنياً أبقوا.

ولو تتبعنا الساحة اليوم لوجدنا أنها ما زالت تعج بتلك الفرضيات الفاسدة التي جعلها كثير من الناس إلهاً يُعبد من دون الله، فتتحزب حولها الحركات، ويتعصب لها الأفراد، ويُعقد عليها الولاء والبراء، رغم ما أثبتته من فشل، وما أحلّته بالأمة من كوارث، وفوق ذلك كله وضوح مخالفتها لأصل دين الإسلام، وأحكامه.

- أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ:

قال الإمام الطبري -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22]:
«يقول تعالى ذكره: {أَفَمَنْ يَمْشِي} أيها الناس {مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} لا يبصر ما بين يديه، وما عن يمينه وشماله {أَهْدَى}: أشدّ استقامة على الطريق، وأهدى له، {أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا} مشي بني آدم على قدميه {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يقول: على طريق لا اعوجاج فيه» [تفسير الطبري].

إذ لا يُتصور بحالٍ أن من يمشي وهو لا يرى الطريق أمامه أهدى من الذي يسير مستقيما على طريق لا عوج فيه ولا عقبات، فالأول مخوف عليه دائما أن يضل الطريق، أما الآخر فقد منّ الله عليه بقدرته على إبصار ما حوله وكذلك هو يسير على صراط مستقيم لا يؤدي به إلا إلى الهدى.

وهكذا الفرق بين مجاهدي الدولة الإسلامية وغيرهم من مرتدي الفصائل والتنظيمات وضُلَّالهم، فأهل الحق لا يسيرون خطوة إلى الأمام إلا بعد أن يعلموا الحكم الشرعي لهذه الخطوة، فلا يسيرونها إلا إن تأكدوا أنها مشروعة لن تخرجهم عن الصراط المستقيم الذي يوصلهم إلى الجنة، فضلا عن كونه سيوصلهم إلى غايتهم في إقامة الدين.

أما أهل الضلال فإنهم قد انكبوا بوجوههم على السبل التي خطها لهم قادتهم لا يرون غيرها، ولا يرون ما فيها من عِوج، ولا ما يعترضها من عقبات، لذلك لا يلبثون أن يصطدموا بعقبة كؤود أو ينحرفوا انحرافا يبعدهم عن الصراط المستقيم.
وسنقدّم -بإذن الله- في حلقات قادمة نماذج لسبل أهل الضلالة في سعيهم المزعوم لإقامة الدين، وتحكيم الشريعة، وإعادة الخلافة، ليظهر الفارق بينها وبين منهاج النبوة الذي سارت عليه -بفضل الله- الدولة الإسلامية حتى مكنها الله في الأرض، والحمد لله رب العالمين.


المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 65
الخميس 27 ربيع الثاني 1438 ه‍ـ
إقامة الدولة الإسلامية بين منهاج النبوة وسبل أهل الضلالة (1 )
...المزيد

- عُبّاد النظريات: لقد كانت نتيجة تلك التجارب كارثية بحق، فقد قُتل، وسُجن، وشُرِّد، الملايين ...

- عُبّاد النظريات:

لقد كانت نتيجة تلك التجارب كارثية بحق، فقد قُتل، وسُجن، وشُرِّد، الملايين من الناس على أيدي الأنظمة الطاغوتية، دون تحقيق نتيجة تذكر، وكان وراء ذلك في الغالب -بالإضافة إلى الضلال في العقيدة والمنهج- فرضيات خاطئة، حاول أصحابها تجربتها على الواقع، وقد أقنعوا أتباعهم سلفاً بأنها صحيحة، وأن نتائجها الإيجابية مضمونة، بل تعدت نتائج تلك الفرضيات الخسائر الكبيرة المادية والبشرية، لتصيب الدين ذاته، بما جرى إدخاله عليه من البدع والمنكرات باسم الوسائل الضرورية لإحداث التغيير المنشود، ووصل الأمر ببعضهم إلى سلوك طريق الشرك بالله، وهو يزعم أن هذا الطريق يؤدي بالأمة إلى التوحيد الخالص، فلا هم ديناً أقاموا، ولا هم دنياً أبقوا.

ولو تتبعنا الساحة اليوم لوجدنا أنها ما زالت تعج بتلك الفرضيات الفاسدة التي جعلها كثير من الناس إلهاً يُعبد من دون الله، فتتحزب حولها الحركات، ويتعصب لها الأفراد، ويُعقد عليها الولاء والبراء، رغم ما أثبتته من فشل، وما أحلّته بالأمة من كوارث، وفوق ذلك كله وضوح مخالفتها لأصل دين الإسلام، وأحكامه.

- أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ:

قال الإمام الطبري -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22]:
«يقول تعالى ذكره: {أَفَمَنْ يَمْشِي} أيها الناس {مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} لا يبصر ما بين يديه، وما عن يمينه وشماله {أَهْدَى}: أشدّ استقامة على الطريق، وأهدى له، {أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا} مشي بني آدم على قدميه {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يقول: على طريق لا اعوجاج فيه» [تفسير الطبري].

إذ لا يُتصور بحالٍ أن من يمشي وهو لا يرى الطريق أمامه أهدى من الذي يسير مستقيما على طريق لا عوج فيه ولا عقبات، فالأول مخوف عليه دائما أن يضل الطريق، أما الآخر فقد منّ الله عليه بقدرته على إبصار ما حوله وكذلك هو يسير على صراط مستقيم لا يؤدي به إلا إلى الهدى.

وهكذا الفرق بين مجاهدي الدولة الإسلامية وغيرهم من مرتدي الفصائل والتنظيمات وضُلَّالهم، فأهل الحق لا يسيرون خطوة إلى الأمام إلا بعد أن يعلموا الحكم الشرعي لهذه الخطوة، فلا يسيرونها إلا إن تأكدوا أنها مشروعة لن تخرجهم عن الصراط المستقيم الذي يوصلهم إلى الجنة، فضلا عن كونه سيوصلهم إلى غايتهم في إقامة الدين.

أما أهل الضلال فإنهم قد انكبوا بوجوههم على السبل التي خطها لهم قادتهم لا يرون غيرها، ولا يرون ما فيها من عِوج، ولا ما يعترضها من عقبات، لذلك لا يلبثون أن يصطدموا بعقبة كؤود أو ينحرفوا انحرافا يبعدهم عن الصراط المستقيم.
وسنقدّم -بإذن الله- في حلقات قادمة نماذج لسبل أهل الضلالة في سعيهم المزعوم لإقامة الدين، وتحكيم الشريعة، وإعادة الخلافة، ليظهر الفارق بينها وبين منهاج النبوة الذي سارت عليه -بفضل الله- الدولة الإسلامية حتى مكنها الله في الأرض، والحمد لله رب العالمين.


المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 65
الخميس 27 ربيع الثاني 1438 ه‍ـ
...المزيد

إقامة الدولة الإسلامية بين منهاج النبوة وسبل أهل الضلالة (1) لن نبالغ بالقول إن تحدثنا أنَّ ...

إقامة الدولة الإسلامية
بين منهاج النبوة وسبل أهل الضلالة (1)

لن نبالغ بالقول إن تحدثنا أنَّ مئاتٍ من الحركات والأحزاب والفصائل قامت خلال القرن الماضي زاعمة العمل على إعادة الخلافة، وتطبيق الشريعة، وإقامة الدين في الأرض، ولكنها جميعا فشلت في تحقيق ذلك، رغم أن قليلا منها وصل إلى مرحلة التمكين الحقيقي أو الشكلي، بل منها من تمكن من إقامة بعض أحكام الشريعة، ولكن تلك الآمال كلّها لم تتحقق إلا في الدولة الإسلامية، والفضل لله من قبل ومن بعد.

ولو نظرنا إلى حال تلك الحركات لوجدنا أنها بغالبها صنعت لنفسها العقبات والعراقيل التي سدّت الطريق أمامها، أو دفعتها دفعاً إلى الانحراف عن الطريق الحقيقي والوحيد المُوصل للهدف السامي الذي كانوا يطمحون إليه، وذلك أنهم كلفوا أنفسهم بما لم يكلفهم به الله، وألزموا أنفسهم بما لم يُلزمهم به الله، سواء منهم من سلك طريق التشديد والغلو وافتراض ما لم يفرضه الله عليهم، أو من سلك طريق التفلّت من الأحكام الشرعية، وفي كلا الحالتين كان الابتعاد عن الصراط المستقيم، والمنهج القويم في إقامة الدين.

- حتميّات فاسدة:

ومن أبرز ما كلَّفوا به أنفسهم هو ما ابتدعوه من مناهج في العمل، وضعها لهم قادتهم ومنظروهم وعلماؤهم، أطلق بعضهم عليها أسماءً كالنظريات السياسية والمناهج الحركية أو ما شابه، ويقصدون بذلك ما افترضوه من مقدمات ضرورية للوصول إلى النتائج التي يرومون الوصول إليها من عملهم وحركتهم، حيث أن أفهامهم، وأهواءهم أوحت إليهم طرقاً في العمل ينبغي سلوكها للوصول إلى الهدف المنشود وهو إقامة دين الله في الأرض، ولم يكتفوا بوضع هذه النظريات، أو الفرضيات، بل جعلوها بمثابة الصراط المستقيم بالنسبة للعمل لإقامة دين الله، إذ لا يصح -في نظرهم- سلوك غيرها للوصول إلى الغاية، وبالتالي فقد سلكوا طريق الحتميّة، وكلّفوا أنفسهم ومن تبعهم ما لا يطيقون، مما لم يُفرض عليهم، فزادوا ضلالاً على ضلال، والله لا يهدي القوم الفاسقين.

وهذه الافتراضات قامت على أساس أن الطريق لإقامة الدين ينبغي أن يكون بالوصول إلى هدفٍ مرحلي ما، أو تجاوز عقبة رئيسة ما، وبدون تحقيق هذا أو ذاك لا يمكن -بحسب زعمهم- إقامة الدين، ولا الحديث عن دولة إسلامية، فضلاً عن إقامة خلافة على منهاج النبوة وإمامة عظمى لأمة واحدة.

والمشكلة الأكبر من وراء افتراضاتهم، هي أن الفرضيات -على العموم- لا يمكن إثبات صِحتها، أو بيان بطلانها، إلا بعد إخضاعها للتجربة، فإذا تطابقت النتيجة مع الفرضية، فقد بُرهنت، وعُدَّت نظرية صحيحة، ومع تكرار نجاح هذه النظرية في ظروف مختلفة فإنها تكتسب صفة المعادلة الثابتة، التي يمكن من خلالها توقع نتائج أي فعل، أو مستقبل أي حالة، إذا تطابقت عناصر الفعل وحالته، مع ما تتطلبه المعادلة، وهنا كانت مصيبة أولئك القوم، إذ إنهم عاملوا فرضياتهم على أنها نظرياتٌ مُبرهنٌ على صحتها، أو عاملوا نظريات الآخرين التي ظنوا صحتها في ظروفهم الخاصة على أنها معادلات ثابتة ينبغي العمل بها في كل حال، وزمان، ومكان.

- تجاربٌ أثمانُها الدماءُ:

وبما أن المجال الوحيد لتجربة الفرضيات، أو النظريات التي تخص البشر، أو قسماً منهم، وكل ما يتعلق بحياتهم، هو جعلهم أنفسَهم حقلاً للتجارب، بدفعها إلى تطبيق الفرضيات، وانتظار ظهور النتائج على الواقع، وتسجيلها، ثم الحكم من خلالها على صحة الفرضية، من خلال برهان الواقع، مما يعني تحمل تكلفة عالية للوصول إلى المبتغى، إضافة إلى الخسائر الكبيرة المتوقعة في حال كانت الفرضية خاطئة من الأساس، أو جرى تطبيقها بطريقة خاطئة، أو لمجرد دخول متغير أو عامل مؤثر -غير معتبر سلفا- في التجربة عليها، مع صعوبة أو استحالة إخراجه منها، بسبب تشابك واختلاط العوامل المؤثرة في الطبيعة، بخلاف تجارب المختبرات (كالتي تتعلق بعلمي الفيزياء والكيمياء التقليديين)، التي يمكن فيها عزل التجربة بدرجة كبيرة عن الوسط المحيط، وبالتالي الحصول على نتائج أكثر قرباً من الحقيقة.

فقد حمل المنظرون وقادة الحركات فرضياتهم، وأسقطوها على الأرض فوراً، محملين أتباعهم (وأنفسهم أحيانا) تكاليف تطبيق التجربة، وكلٌ منهم يجرّب فرضياته في من تبعه من الناس، حتى امتلأت الأرض بالتجارب الحركية التي قامت على أساس تلك الفرضيات، وبالتالي شهد القرن الماضي عددا من التجارب الرئيسة، التي تفرَّع عن كل منها عدّة تجارب، وبالمحصِّلة صرنا نجد العشرات من التجارب التي تطبق في آن واحد على المساحة الكبيرة التي ينتشر فيها المسلمون في العالم، بل تجد في البلد الواحد عدة تجارب، يتصارع أصحابها فيما بينهم أكثر مما يتصارعون مع الأنظمة الطاغوتية التي خرجوا في الأساس لمواجهتها.
...المزيد

إقامة الدولة الإسلامية بين منهاج النبوة وسبل أهل الضلالة (1) لن نبالغ بالقول إن تحدثنا أنَّ ...

إقامة الدولة الإسلامية
بين منهاج النبوة وسبل أهل الضلالة (1)

لن نبالغ بالقول إن تحدثنا أنَّ مئاتٍ من الحركات والأحزاب والفصائل قامت خلال القرن الماضي زاعمة العمل على إعادة الخلافة، وتطبيق الشريعة، وإقامة الدين في الأرض، ولكنها جميعا فشلت في تحقيق ذلك، رغم أن قليلا منها وصل إلى مرحلة التمكين الحقيقي أو الشكلي، بل منها من تمكن من إقامة بعض أحكام الشريعة، ولكن تلك الآمال كلّها لم تتحقق إلا في الدولة الإسلامية، والفضل لله من قبل ومن بعد.

ولو نظرنا إلى حال تلك الحركات لوجدنا أنها بغالبها صنعت لنفسها العقبات والعراقيل التي سدّت الطريق أمامها، أو دفعتها دفعاً إلى الانحراف عن الطريق الحقيقي والوحيد المُوصل للهدف السامي الذي كانوا يطمحون إليه، وذلك أنهم كلفوا أنفسهم بما لم يكلفهم به الله، وألزموا أنفسهم بما لم يُلزمهم به الله، سواء منهم من سلك طريق التشديد والغلو وافتراض ما لم يفرضه الله عليهم، أو من سلك طريق التفلّت من الأحكام الشرعية، وفي كلا الحالتين كان الابتعاد عن الصراط المستقيم، والمنهج القويم في إقامة الدين.

- حتميّات فاسدة:

ومن أبرز ما كلَّفوا به أنفسهم هو ما ابتدعوه من مناهج في العمل، وضعها لهم قادتهم ومنظروهم وعلماؤهم، أطلق بعضهم عليها أسماءً كالنظريات السياسية والمناهج الحركية أو ما شابه، ويقصدون بذلك ما افترضوه من مقدمات ضرورية للوصول إلى النتائج التي يرومون الوصول إليها من عملهم وحركتهم، حيث أن أفهامهم، وأهواءهم أوحت إليهم طرقاً في العمل ينبغي سلوكها للوصول إلى الهدف المنشود وهو إقامة دين الله في الأرض، ولم يكتفوا بوضع هذه النظريات، أو الفرضيات، بل جعلوها بمثابة الصراط المستقيم بالنسبة للعمل لإقامة دين الله، إذ لا يصح -في نظرهم- سلوك غيرها للوصول إلى الغاية، وبالتالي فقد سلكوا طريق الحتميّة، وكلّفوا أنفسهم ومن تبعهم ما لا يطيقون، مما لم يُفرض عليهم، فزادوا ضلالاً على ضلال، والله لا يهدي القوم الفاسقين.

وهذه الافتراضات قامت على أساس أن الطريق لإقامة الدين ينبغي أن يكون بالوصول إلى هدفٍ مرحلي ما، أو تجاوز عقبة رئيسة ما، وبدون تحقيق هذا أو ذاك لا يمكن -بحسب زعمهم- إقامة الدين، ولا الحديث عن دولة إسلامية، فضلاً عن إقامة خلافة على منهاج النبوة وإمامة عظمى لأمة واحدة.

والمشكلة الأكبر من وراء افتراضاتهم، هي أن الفرضيات -على العموم- لا يمكن إثبات صِحتها، أو بيان بطلانها، إلا بعد إخضاعها للتجربة، فإذا تطابقت النتيجة مع الفرضية، فقد بُرهنت، وعُدَّت نظرية صحيحة، ومع تكرار نجاح هذه النظرية في ظروف مختلفة فإنها تكتسب صفة المعادلة الثابتة، التي يمكن من خلالها توقع نتائج أي فعل، أو مستقبل أي حالة، إذا تطابقت عناصر الفعل وحالته، مع ما تتطلبه المعادلة، وهنا كانت مصيبة أولئك القوم، إذ إنهم عاملوا فرضياتهم على أنها نظرياتٌ مُبرهنٌ على صحتها، أو عاملوا نظريات الآخرين التي ظنوا صحتها في ظروفهم الخاصة على أنها معادلات ثابتة ينبغي العمل بها في كل حال، وزمان، ومكان.

- تجاربٌ أثمانُها الدماءُ:

وبما أن المجال الوحيد لتجربة الفرضيات، أو النظريات التي تخص البشر، أو قسماً منهم، وكل ما يتعلق بحياتهم، هو جعلهم أنفسَهم حقلاً للتجارب، بدفعها إلى تطبيق الفرضيات، وانتظار ظهور النتائج على الواقع، وتسجيلها، ثم الحكم من خلالها على صحة الفرضية، من خلال برهان الواقع، مما يعني تحمل تكلفة عالية للوصول إلى المبتغى، إضافة إلى الخسائر الكبيرة المتوقعة في حال كانت الفرضية خاطئة من الأساس، أو جرى تطبيقها بطريقة خاطئة، أو لمجرد دخول متغير أو عامل مؤثر -غير معتبر سلفا- في التجربة عليها، مع صعوبة أو استحالة إخراجه منها، بسبب تشابك واختلاط العوامل المؤثرة في الطبيعة، بخلاف تجارب المختبرات (كالتي تتعلق بعلمي الفيزياء والكيمياء التقليديين)، التي يمكن فيها عزل التجربة بدرجة كبيرة عن الوسط المحيط، وبالتالي الحصول على نتائج أكثر قرباً من الحقيقة.

فقد حمل المنظرون وقادة الحركات فرضياتهم، وأسقطوها على الأرض فوراً، محملين أتباعهم (وأنفسهم أحيانا) تكاليف تطبيق التجربة، وكلٌ منهم يجرّب فرضياته في من تبعه من الناس، حتى امتلأت الأرض بالتجارب الحركية التي قامت على أساس تلك الفرضيات، وبالتالي شهد القرن الماضي عددا من التجارب الرئيسة، التي تفرَّع عن كل منها عدّة تجارب، وبالمحصِّلة صرنا نجد العشرات من التجارب التي تطبق في آن واحد على المساحة الكبيرة التي ينتشر فيها المسلمون في العالم، بل تجد في البلد الواحد عدة تجارب، يتصارع أصحابها فيما بينهم أكثر مما يتصارعون مع الأنظمة الطاغوتية التي خرجوا في الأساس لمواجهتها.
...المزيد

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً