لا تحزن - كُلاً نُمِدُّ هؤلاءِ وهؤلاء

منذ 2014-06-05

إنَّ راعي الإبلِ المسلمِ في جزيرةِ العربِ أسعدُ حالاً بإسلامِه من "تولوستوي" الكاتب الروائي الشهيرِ، لأن الأول قضى حياته مطمئناً راضياً ساكناً يعرفُ مصيرَهُ ومنقلبه، والثاني عاش ممزَّق الإرادةِ، مبعثر الجهدِ، لم يبردْ غليلُه من مرادِه، ولا يعرفْ مستقبلهُ.

ما أحوجنا إلى المثابرةِ واستثمارِ الوقت، ومسابقةِ الأنفاسِ بالعملِ الصالحِ النافعِ المفيدِ، إننا سوف نسعدُ يوم نقدِّم للآخرين نفعاً ووعياً وخدمة وثقافةً وحضارةً، وسوف نسعدُ إذا علمْنا أننا لم نأتِ إلى الحياةِ سُدّى، ولم نُخْلقْ عَبَثاً، ولم نُوجدْ لعِباً.

يوم تصفَّحتُ "الأعلام" للزركليِّ فوجدتُ تراجم شرقيين وغربيين، ساسةً وعلماء، وحكماء وأدباء وأطباء، يجمعهم أنهم نابغون مؤثِّرون لامعون، ووجدتُ في سِيرهم جميعاً سنة اللهِ في خلقِه، ووعد اللهِ في عبادِه، وهي أن من أحسن من أجل الدنيا وُفّي نصيبه من الدنيا، من الذيوعِ والشهرةِ والانتشارِ، وما يلحقُ ذلك من مالِ ومنصبٍ وإتحافٍ، ومن أحسن للآخرةِ وجدها هنا وهناك، من النفعِ والقبولِ والرضا والأجرِ والمثوبةِ: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً}.

ووجدتُ في الكتابِ أيضاً أن هؤلاءِ العباقرةِ الذين قدَّموا للبشرية نفعاً ونتاجاً ولم يعملُوا للآخرة – وأخصُّ منهم غيْر المؤمنين باللهِ ولقائِه – وجدتُهم أسعدوا الناس أكثر من أنفسِهم، وأفرحوا أرواح الآخرين أكثر من أرواحهِم، فإذا بعضُهم ينتحرُ، وبعضهم يثورُ من واقعِه ويغضبُ من حياتِهِ، وآخرون منهم يعيشون بؤساً وضنْكاً.

وسألتُ نفسي: ما هي الفائدةُ إذا سعد بي قومٌ وشقيت أنا، وانتفع بي ملأٌ وحُرمِت أنا ؟!
ووجدتُ أنَّ الله أعطى كلَّ أحدٍ من هؤلاءِ البارزين ما أراد، تحقيقاً لوعدِه، فجمْعٌ منهم حصل على جائزةِ نوبل، لأنه أرادها وسعى لها، ومنهم من تبوَّأ الصدارة في الشهرةِ، لأنه بحث عنها وشغف بها، ومنهم من وَجَدَ المال، لأنه هام به وأجبَّه، ومنهم عبادُ اللهِ الصالحون، حصلُوا على ثوابِ الدنيا وحسنِ ثوابِ الآخرةِ إنْ شاء اللهُ، يبتغون فضلاً من اللهِ ورِضْواناً.

إنَّ من المعادلات الصحيحة المقبولة: أن المغمور السعيد الواثق من منهجِه وطريقِه، أنعمُ حظّاً من اللامعِ الشهيرِ الشقيِّ بمبادئِه وفكرِهِ.

إنَّ راعي الإبلِ المسلمِ في جزيرةِ العربِ أسعدُ حالاً بإسلامِه من "تولوستوي" الكاتب الروائي الشهيرِ، لأن الأول قضى حياته مطمئناً راضياً ساكناً يعرفُ مصيرَهُ ومنقلبه، والثاني عاش ممزَّق الإرادةِ، مبعثر الجهدِ، لم يبردْ غليلُه من مرادِه، ولا يعرفْ مستقبلهُ.

عند المسلمين أعظمُ دواءٍ عرفتْه البشريةُ، وأجلُّ علاجٍ اكتشفتْه الإنسانيةُ. إنه الإيمانُ بالقضاءِ والقدرِ، حتى قال بعضُ الحكماءِ: لن يسعد في الحياةِ كافرٌ بالقضاءِ والقدرِ. وقد أعدتُ عليك هذا المعنى كثيراً، وعرضتُه لك في أساليب شتَّى، وأنا على عمْد، لأنني أعرفُ من نفسي ومن كثير مثلي أننا نؤمنُ بالقضاءِ والقدرِ فيما نحبُّه، وقد نتسخَّطُ عليه فيما نكرهُهُ، ولذلك كان شرطُ الملَّةِ وميثاقُ الوحيِ: «أن تؤمن بالقدرِ خيرِه وشره، حلوِه ومرِّه»

عائض بن عبد الله القرني

حاصل على شهادة الدكتوراة من جامعة الإمام الإسلامية

  • 1
  • 0
  • 2,902
المقال السابق
المكظومون في انتظار لطْف الله
المقال التالي
ومن يؤمنْ بالله يهدِ قلبَه (1)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً