عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان - (28) إفشاء السلام

منذ 2018-05-13

ومن تمامِ إفشاء السَّلام: أن تسلِّمَ على من عرفتَ ومن لم تعرف كما سبق، فأين إفشاء السَّلام بين المسلمين؟! تاللهِ لقد أصبحنا نعيشُ زمانًا لا يُلقي فيه المسلمُ على أخيه المسلمِ السَّلامَ إلاَّ لمصلحةٍ دنيويَّة - إلا من رحم الله - بل نجدُ أحيانًا مسلمًا يمرُّ بجوارِ أخيه، فيسلِّم عليه، فلا يرد عليه السَّلام!

(28) إفشاء السلام

الوسيلة الرابعة والعشرون: إفشاء السَّلام:

 

"السَّلام" هو الأمان والاطمئنان، وهو أقصى ما يتمنَّاه الإنسان، وغاية ما ترجوه البشريَّة، وقد جعله الله تحيةً لآدمَ أبي البشر؛ كما في "صحيح البخاري"، وروى الإمامُ مسلمٌ عن أبي هريرة أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تَدْخلوا الجنةَ حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتَّى تحابُّوا، أوَلا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعَلْتُموه تحاببتم؟ أفشوا السَّلام بينكم».

 

من آداب السَّلام:

 

1- الالتزام بصيغةِ السَّلام الواردة عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: «السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

 

2- الردُّ على السَّلام: وعليكم السَّلام ورحمة الله وبركاته؛ قال -تعالى-:  {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا}[النساء: 86].

 

3- ترك التَّحايا والسَّلامات غير الشرعيَّة، والالتزام بالسَّلام المشروع فقط؛ مثل قول: "مساء الخيرِ" وغيرها، مما فيه تشبه بالكفَّار.

 

4- لا يقول: عليكَ السَّلام؛ لأنَّها تحية الموتى؛ ففي "صحيح سنن أبي داود" عن أبى جُرَيٍّ الهُجَيْمِيِّ - رضي الله عنه - قال: أتيتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلتُ: عليكَ السَّلام يا رسول الله، قال: «لا تقل: عليك السَّلام؛ فإنَّ "عليك السَّلام" تحيةُ الموتى».

 

5- أن يَبدأ بالسَّلام قبل الكلام دائمًا؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من بدَأَكم بالكلامِ قبل السَّلام فلا تُجيبوه»؛ وقد رواه الطَّبراني، وحسَّنه الألباني.

 

6- أن يحرصَ كلُّ مسلم على أن يكون هو الذي يبدأ بالسَّلام؛ ففي "صحيح سنن أبي داود" قال -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ أولى النَّاس بالله مَن بدأهم بالسَّلام».

 

7- أن يكرِّرَ المسلمُ السَّلام على أخيه المسلم كلَّما تكرَّرَ لقاؤه؛ ففي "صحيح سنن أبي داود" قال -صلى الله عليه وسلم-: «إذا لقي أحدُكم أخاه، فلْيُسلِّمْ عليه، فإن حالت بينهما شجرةٌ أو جدار أو حجر، ثم لَقِيه، فليسلِّم عليه أيضًا».

 

8- أن يرفعَ صوتَه بحيث يسمع المسلّم عليه، وإذا شكَّ في أنه لم يسمعهم، فلْيَزِد في رفعِه حتى يعلم أنه أسمعهم.

 

9- أن يسلِّمَ على مَن في بيتِه عند الدخول، فإن لم يجد، سَلَّم على نفسِه؛ قال -تعالى-:{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً }[النور: 61].

 

10- إذا مرَّ بصبيانٍ يسلِّمُ عليهم؛ وذلك لتعويدِهم على إلقاء السَّلام ورَدِّه، ولغرسِ نوازع الرُّجولة فيهم، كما أنَّ فيه تقويةً لشخصيتِهم، واستجلابًا لمحبتهم، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعله.

 

11- أن يسلِّمَ الماشي على الواقفِ والجالس، والواحدُ على الجماعة، والقليلُ على الكثير؛ لحديث البخاري.

 

12- إذا قَدِمَ جماعةٌ على فردٍ، أجزأَ أن يُسلِّمَ أحدُهم؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- في "صحيح سنن أبي داود": « يُجْزِئ عن الجماعةِ إذا مرُّوا أن يسلِّمَ أحدُهم، ويجزئ عن الجلوسِ أن يردَّ أحدهم».

 

13- بشاشة الوجه، ولين الجانبِ مع السَّلام، فلا تسلِّم متجهِّمًا ولا منفِّرًا.

 

14- المصافحة مع السَّلام؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- في "صحيح سنن أبي داود": «ما من مسلمَيْن يلتقيانِ فيتصافحان، إلاَّ غُفر لهما قبل أن يفترقا»، وهذا يدخل في حُسنِ الخلق؛ كما قيل إنه: أمرٌ هين، ووجهٌ طلق، وكلامٌ لين، ولكن هذه صورة منه، جعل الله عليها هذا الثوابَ الجزيل، فينبغي على كلِّ مسلمٍ أن يحرصَ على أن يؤدِّي هذا الحقَّ من حقوقِ أخيه المسلم عليه في أكمل صورة؛ لينالَ مع أخيه المغفرة.

 

وروى أحمد وصحَّحه الألباني عن البَراءِ مرفوعًا: «أيما مسلمَيْن التقَيا، فأخذ أحدُهما بيدِ صاحبه، ثم حمد الله، تفرَّقا ليس بينهما خطيئة»، وقال -صلى الله عليه وسلم- في "صحيح الجامع": «إنَّ من موجباتِ المغفرةِ بذلَ السَّلام، وحُسنَ الكلامِ».

 

15- يكره السَّلام بالإشارةِ إلا لضرورة كبُعدٍ، لكن ينطقُ بالسَّلام مع الإشارة؛ لأنَّ فيه تشبُّهًا باليهود والنَّصارى، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن تسليمِهم في الحديث الحسن عند الترمذيِّ: «ليس منَّا من تشبه بغيرِنا، لا تَشَبَّهوا باليهودِ ولا بالنَّصارى؛ فإنَّ تسليمَ اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالأكُفِّ».

 

16- أن لا يسلِّمَ على المشتغلِ بقضاء الحاجة، أو على النائم، أو على مؤذِّن في حالِ أذانه، أو إقامة الصَّلاة، أو من كانت اللُّقمة في فمِه.

 

17- لا يَبدأ المسلمُ الكافرَ بالسَّلام، وإذا بدأك بالسَّلامِ تردُّ عليه بقولِك: "وعليكم".

 

18- استحباب السَّلامِ على المَحارم.

 

19- ألقِ السَّلام على مَن عرَفْتَ ومن لم تعرف؛ لما رواه البخاريُّ في "صحيحه" أنَّ رجلاً سأل النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ الإسلامِ خير؟ قال: «تطعمُ الطَّعامَ، وتقرأ السَّلامَ على من عرفتَ ومن لم تعرف».

 

20- لا تغضَبْ إنْ لم يردَّ أحدٌ عليك السَّلام؛ فإنَّ الملائكةَ تردُّ عليك؛ ففي الحديثِ الصحيح في "الأدب المفرَد": «إنَّ السَّلام اسمٌ من أسماء الله وضعَه الله في الأرض؛ فأفشوه بينكم، إن الرَّجلَ إذا سلم على القومِ فردُّوا عليه، كانت له عليهم فضلُ درجة؛ لأنَّه ذكَّرهم بالسَّلام، وإن لم يُرَدُّ عليه، رَدَّ عليه مَن هو خيرٌ منه وأطيب»، وقال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أحمد وابن حبان والحاكم وصححه الألباني: «أفشِ السَّلام، وأطعمِ الطَّعام، وصِلِ الأرحام، وقم بالليل والنَّاس نيام، وادخل الجنَّة بسلام».

 

ومن تمامِ إفشاء السَّلام: أن تسلِّمَ على من عرفتَ ومن لم تعرف كما سبق، فأين إفشاء السَّلام بين المسلمين؟! تاللهِ لقد أصبحنا نعيشُ زمانًا لا يُلقي فيه المسلمُ على أخيه المسلمِ السَّلامَ إلاَّ لمصلحةٍ دنيويَّة - إلا من رحم الله - بل نجدُ أحيانًا مسلمًا يمرُّ بجوارِ أخيه، فيسلِّم عليه، فلا يرد عليه السَّلام!

 

بل إنَّ بعضَهم لا يسلِّم إلا على من يعرف، وهذه - مع كونِها مخالفةً للنبي -صلى الله عليه وسلم- فهي واللهِ من أشراطِ السَّاعة الصُّغرى؛ فقد روى الإمامُ أحمد بإسنادٍ صحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّ من أشراطِ الساعة أن يُسلِّمَ الرَّجلُ على الرجلِ؛ لا يسلِّمُ عليه إلا للمعرفة».

 

فائدة:

يَتَّخذُ بعضُ النَّاس هذه الأحاديثَ في السَّلام بابًا لبدءِ غير المسلمين بالسَّلام، لكن ذلك مما يُستثنى من السَّلام، فلا يَبدأ المسلمُ غيرَ المسلم بالسَّلام، فإذا ابتَدؤوه، ردَّ عليهم سلامَهم بقوله: وعليكم؛ كما جاء بذلك الحديث.

 

فائدة أخرى:

خاصية إفشاء السَّلام هذه عامة، ومن أفرادِها: سلامُ الرَّجلِ على أهلِه إذا دخل عليهم، وقد ورد بشأنِها دليلٌ مستقلٌّ؛ وهو ما رواه أبو داود وحسَّنه الألباني عن أبي أمامة - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: « ثلاثة كلُّهم ضامن على الله - عزَّ وجلَّ -: رجلٌ خرج غازيًا في سبيلِ الله، فهو ضامن على الله حتَّى يتوفاه، فيُدخله الجنَّةَ، أو يردّه بما نال من أجرٍ وغنيمة، ورجلٌ راح إلى المسجدِ، فهو ضامنٌ على الله حتى يتوفَّاه فيدخله الجنة، أو يَردّه بما نال من أجر وغنيمة، ورجلٌ دخل بيته بسلامٍ، فهو ضامن على الله - عزَّ وجلَّ».

 

وفي الحديث الذي رواه الترمذيُّ عن أنس - رضي الله عنه - وحسنه الألباني، قال: قال لي رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا بنيَّ، إذا دخلتَ على أهلِك فسلِّم، يَكُنْ بركةً عليك وعلى أهلِ بيتك».

 

الوسيلة الخامسة والعشرون: إدخال السرور على المسلم:

 

أخي الحبيب: يا بنَ الإسلام، هل تَذْكر يومًا أنَّ هناك شيئًا يُدخل السرورَ والبهجة والسعادة على أخيك، فجئتَ به لأخيك؛ من أجلِ أن تُدخلَ السعادةَ على قلبِه؟!

 

إنَّ هذا العملَ من أفضلِ الأعمال، كما أخبر بذلك النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البيهقيُّ وحسَّنه الألباني عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أفضلُ الأعمالِ أن تُدْخِلَ على أخيك المسلمِ سُرورًا، أو تقضي عنه دَيْنًا، أو تطعمه خبزًا»، وكذلك أيضًا تبشير المسلم بما يسرُّه: كما تسابقَ الصَّحابةُ إلى تبشيرِ كعب بن مالك - رضي الله عنه - بالتوبة، وفي قصة معاذٍ وأبي هريرة - رضي الله عنهم - جميعًا.

 

الوسيلة السادسة والعشرون: البكاء من خشية الله:

 

قال -صلى الله عليه وسلم-: «حرَّم اللهُ على عينَيْن أن تنالَها النَّارُ؛ عين بكت من خشيةِ الله، وعين باتت تحرسُ الإسلام وأهلَه من أهلِ الكفر»؛ رواه الحاكم والبيهقيُّ وحسنه الألباني.

 

وعند أبي يعلى وصححه الألباني: «عينان لا تمسُّهما النَّارُ أبدًا: عينٌ بكت من خشيةِ الله، وعينٌ باتت تحرسُ في سبيلِ الله»، وعند أحمد والترمذيِّ، وصحَّحه الألباني: «لا يلج النَّارَ رجلٌ بكى من خشيةِ الله حتَّى يعود اللَّبنُ في الضَّرع»، بل إنَّ من السبعةِ الذين يظلهم الله في ظلِّه: «ورجل ذكرَ الله خاليًا ففاضتْ عيناه»، كما في "الصحيحين".

 

وقد روى أحمد عن عائشةَ - رضي الله عنها - مرفوعًا، وصحَّحه الألباني: «ما خالط قلبَ امرئ مسلم رَهَجٌ في سبيلِ الله إلا حرَّمَ الله عليه النَّار»؛ والرَّهَجُ هو خفقانُ القلبِ من الخوف.

 

وقال كعبٌ - رضي الله عنه - كما عند ابن أبي شَيْبة وأبي نُعَيم: "لأَنْ أبكي من خشيةِ الله -تعالى- حتى تسيلَ دموعي على وجنتي، أحبُّ إليَّ من أن أتصدقَ بِوَزْني ذهبًا".

 

فأين أصحابُ القلوبِ الخاشعة؟! وأين أصحابُ العيون التي تبكي من خشية الله؟! تالله لقد قستْ قلوبُنا حتى أصبحَ أكثرُنا لا يخشع قلبُه، ولا تدمع عينه؛ قال -تعالى-:  {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[البقرة: 74]، وقال -تعالى-: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[الحشر: 21].

 

الوسيلة السابعة والعشرون: الرد عن عِرْض المسلم:

 

قال -صلى الله عليه وسلم-: «من ردَّ عن عرضِ أخيه، ردَّ الله عن وجهِه النَّارَ يوم القيامة»؛ رواه الترمذيُّ وأحمد، وصحَّحه الألباني، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «مَن ذبَّ عن لحم أخيه بالغيبةِ، كان حقًّا على الله أن يُعتقَه من النَّار»؛ رواه أحمد وصححه الألباني بلفظ: «من ذبَّ عن عرضِ أخيه».

 

الوسيلة الثامنة والعشرون: مدُّ يد العون للمحتاجين، وعلى الأقل بالقرض الحسن:

 

فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «من أقرض وَرِقًا مرَّتين، كان كعِدْلِ صدقة مرة»؛ رواه البيهقي وصحَّحه الألباني.

 

الوسيلة التاسعة والعشرون: إطعام الطعام:

 

قال -تعالى-: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورً }[الإنسان: 8 - 11]، وقال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الترمذي بسند حسن: «أيما مؤمن أطعمَ مؤمنًا على جوعٍ، أطعمَهُ الله من ثمارِ الجنة، ومن سقى مؤمنًا على ظمأ، سقاه الله من الرَّحيقِ المختوم».

 

وكان كثيرٌ من السَّلفِ يحرصون على إطعامِ الطعام، ويقدمونه على كثيرٍ من العبادات؛ يسوقهم إلى ذلك خوف أنْ تصيبَهم دعوةُ نبيِّهم التي صححها الألباني في "صحيح الجامع": ((لا خير في مَن لا يضيف))، وكان كثير من السَّلفِ يؤثِرُ بفطورِه وهو صائم، منهم: عبدالله بن عُمر، وداود الطائي، ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل.

 

وكان من السَّلفِ مَن يطعم إخوانَه وهو صائم، ويَجلس يخدمُهم ويروحهم؛ منهم: الحسن، وابن المبارك، فإذا أعجبَتْك وجبةُ طعام اليوم فقدِّمْها للفقير، فإن لم تفعل فقدِّم منها للفقير، وستجد طعمَها في الجنة، لكنَّه أشهى! أمَّا ما بخلتَ به وأكلت، فمَآلُه بيت الخلاء بعد ساعة.

 

وعبادةُ إطعامِ الطعام تنشأ عنها عباداتٌ كثيرة؛ منها التودَّدُ والتحبُّب إلى إخوانِك الذين أطعمتَهم، فيكون ذلك سببًا في دخولِ الجنة؛ ففي صحيح مسلم قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لن تدخلوا الجنةَ حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابُّوا، أوَلا أدلُّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السَّلامَ بينكم)).

 

كما ينشأ عن عبادةِ إطعام الطَّعامِ مجالسةُ الصَّالحين، وتوثيقُ التعارف، ورفعُ الكُلفةِ عن الإخوان، واحتسابُ الأجرِ في معونتهم على الطَّاعاتِ التي تقوَّوا عليها بطعامِك.

 

ولا تخش - أخي يا بنَ الإسلام - ألاَّ يكفيك الطَّعامُ لو أطعمتَ معك غيرَك من طعامِك؛ فلقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في "الصحيحين": ((طعامُ الاثنين كافي الثلاثة، وطعامُ الثلاثة كافي الأربعة))، وفي "صحيح الجامع": ((طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعامُ الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية))؛ قال ابنُ الأثير: "يعني شِبَعُ الواحدِ قوتُ الاثنين، وشبع الاثنين قوت الأربعة، وشبع الأربعة قوت الثمانية".

 

وهذه البركةُ في الطَّعامِ مصدرها قوة إيمانٍ بموعود الله، دفعت صاحبَها إلى الإيثارِ وبذل الطَّعامِ على حبِّه، والرضا بنصفِ بطنٍ في سبيلِ الغير، فيكافئ اللهُ صاحبَها بقوةِ دينٍ وحسنِ خلق؛ قال عبدُالواحد بن زيد: "مَن قَوِيَ على بطنِه قوي على دينِه، ومن قوي على بطنِه قدر على الأخلاقِ الصَّالحة، ومن لم يعرف مضرتَه من قِبَل بطنِه، فذاك رجلٌ في العابدين أعمى".

 

الوسيلة الثلاثون: العمرة في رمضان:

وهي تعدلُ حجَّة مع النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في ثوابِها كما جاء في حديثِ ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((فإنَّ عمرةً في رمضانَ تعدلُ حجةً معي))، وفي رواية البخاري: ((تقضي حجَّة معي))، ولم يقيِّدْها -صلى الله عليه وسلم- بالعشرِ الأواخر، وإنَّما هي عامة في جميعِ الشَّهر، فإنْ يسَّرَ الله لك هذه الفرصةَ فاغتنمْها، ولا تفرِّط، ولا تسوِّف، رزقني الله وإياك.

 

ومن وسائل استثمار العمر كله - لا رمضان فحسب - متابعةُ الحجِّ والعمرة: وإنَّ كثيرًا من النَّاس يظنُّون أنَّ كثرة الحجِّ والعمرة تجعلُ المال يَفْنَى بسببِ تلك النفقات التي يتكلَّفُها الحاجُّ والمعتمر، وهذا كلُّه ظنٌّ خطأ، وتصوُّر مغلوط؛ لأنَّ الصادقَ الذي لا ينطقُ عن الهوى -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر أن المتابعةَ بين الحجِّ والعمرة سببٌ في كثرةِ المال، وذلك يكون إمَّا بزيادة المال، أو أن تحلَّ فيه البركةُ من عند الله، أو أن يجمعَ الله الاثنين لعبدِه المؤمن؛ قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني: ((تابِعُوا بين الحجِّ والعمرة؛ فإنهما ينفيانِ الفقرَ والذُّنوب كما ينفي الكِيرُ خبثَ الحديد والذهب والفضة، وليس للحجَّةِ المبرورة ثوابٌ إلا الجنة)).

 

• فهناك - إن قدَّر الله لك العمرةَ - احرص على كثرةِ الطَّوافِ بالبيت؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((من طاف بالبيتِ سبعًا، وصلَّى ركعتين، كان كعتقِ رقبة))؛ رواه البيهقيُّ وصححه الألباني.

 

• واحرص على كثرةِ الصَّلاةِ في المسجدِ الحرام؛ فقد روى أحمد وابن خزيمة: ((صلاةٌ في مسجدي أفضل من ألفِ صلاةٍ فيما سواه من المساجدِ، إلاَّ المسجد الحرام، وصلاةٌ في المسجدِ الحرام أفضل من مائةِ ألف صلاة في هذا)).

 

• واحرص على كثرةِ الصَّلاة في المسجد النبويِّ أيضًا؛ فقد روى مسلمٌ: ((صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألفِ صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام)).

 

• واحرص على كثرةِ الصلاة في مسجدِ قباء؛ فعند ابن حبان: ((من صلَّى فيه، كان كعِدْلِ عمرة)).

 

أسألُ الله -تعالى- أن يمنَّ علينا - بفضلِه وكرمه - بالتعبُّدِ في هذه البقاعِ الطَّاهرة، فلشدَّ ما اشتاق إليها المسلمون البعيدون! فاللهمَّ متِّعْ قلوبَنا بعبوديتِك هناك، ومتِّعْ قلوبنا بعبوديتِك في كلِّ مكان.

 

الوسيلة الحادية والثلاثون: الاعتكاف اليومي:

ولستُ أعني اعتكافَ رمضان المعروف - وسيأتي في نهايةِ الرسالة - ولكني أعني اعتكافًا من نوعٍ آخر، فمع ضجيجِ الحياة وكثرةِ صخبها، مع المادية القاتلة التي تطحنُ النَّاس بين رَحاها، مع ضرورةِ الاختلاط بالنَّاس، يتكدَّرُ القلب، ويتعكَّرُ صفو النَّفس، فتحتاج إلى هدوءٍ وراحة، فلا بدَّ لها من عزلةٍ وخلوة؛ ولذلك يلزمك - أخي يا بنَ الإسلام - اعتكافٌ يومي، فخُذِ الأنسبَ لحالك ولا تفرِّط؛ إمَّا بين المغربِ والعشاء يوميًّا - وسيكون ذلك بعد رمضان طبعًا - وإمَّا بعد صلاةِ الفجر إلى شروقِ الشمس كلَّ يوم، وإمَّا ما يناسِبُ حالَك وظروف حياتِك، ولكن لا تفرِّط.

 

وفي هذا الاعتكاف اليومي لا بد لك من أمور:

1- استصحابُ النيةِ أولاً، وارجُ ثوابَ الله - تعالى.

2- ذكرُ الله هو الأصلُ في هذه الجلسة، واستشعرْ أنَّ جليسَك هو الله؛ قال -تعالى- في الحديثِ القدسي عند ابن ماجهْ وصحَّحه الألباني: ((أنا مع عبدي إذا هو ذكرَني وتحرَّكتْ بي شفتاه))، فاجلسْ بالرَّغبةِ والرهبة.

3- من آدابِ هذه الجلسةِ ألاَّ تلتفت، ولا تنشغل بغيرِ ذِكْر الله، وليتعود النَّاس منك ذلك؛ ألا تكلِّمَ أحدًا، ولا تسلِّم على أحدٍ، ولا تشارك في شيء، بل هذه خلوتك.

 

وقد يكون هذا الاعتكافُ في مسجدٍ لا يعرفُك فيه أحد، أو إذا تعذَّر الأمرُ، فاجعل لك خلوة في بيتِك ساعاتٍ كلَّ يوم؛ حيث لا يراك أحدٌ ولا يشغلك شيء.

 

4- المُحاسبةُ اليومية من أهمِّ أعمال هذه الخلوة، فألزمْ نفسَك المحاسبة، والتزم بالكلماتِ الخمس:

• المشارطة: أن تشترطَ على نفسِك صبيحة كلِّ يوم أن تسلمَها رأسَ المال، وهو العمر (24 ساعة)، والأدواتِ، وهي القلب والجوارح، وتشترط عليها أن تضمنَ لك بذلك الجنةَ بالأعمالِ الصَّالحة آخر النهار.

• المراقبة: أن تراقبَ نفسَك طيلةَ اليوم، فإن هَمَّتْ بمعصيةٍ ذكَّرتَها بالمشارطة، وإن توانتْ عن طاعةٍ زجرتَها بالمشارطة؛ فراقبْ نفسَك، وألجمْها، وامنعها عمَّا لا يحلُّ لها، خذ بخطامِها وألْزِمْها الصِّراطَ المستقيم، ولا تغفلْ عنها؛ لكي تنجو، والله المستعان.

• المجاهدة: وهي من أشدِّ الأشياء؛ فالنَّفسُ مقيَّدة بقيدِ الجسم - مقيدة فيه - ثم هي مقيدة بقيدِ العبودية، ثم أنت تتوعدُها بقيدٍ ثالث عند المحاسبة؛ فهي - لذلك - تحتاجُ إلى المجاهدة، وهذه المجاهدةُ لا بدَّ لها من صبرٍ وثبات أمام طغيانِ هذه النفس وتملُّصِها، فجاهدْها - أخي باغي الخير - لكي لا تضيعك وتسير في طريقِ جهنم.

• المحاسبة: أن تستعرضَ شريطَ يومك نهايةَ كلِّ يوم، وبالورقة والقلم يتم حسابُ الخسائرِ والأرباح، ومعرفة مصيرِ المشارطة مع النفس، لا بدَّ من المحاسبة؛ قال -تعالى-: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ [آل عمران: 30]، ﴿ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾ [النبأ: 40].

 

سترى عملَك بعينِك، وتسمعه بأذنك؛ لذلك يجبُ أن تجلسَ مع نفسِك، وتنظر في أعمالِك لِتُصلَحها قبل أن تراها يومَ القيامة، اكتب أعمالَك وضعْها أمامَك، وقل لنفسِك: أتحبِّين أن تقابلي ربَّك بهذه الصَّحيفة؟! هل ستأخذين كتابَك باليمين، أم بالشِّمال؟! هل هذه تدخلين بها الجنة، أم تدخلين بها النار؟! هل هذا يُرضي اللهَ عنك أم يُسخطه عليك؟! وهذا هو توبيخُ النفسِ وزجرها؛ لتعلم حقيقتَها وقَدْرَها.

 

• المعاتبة والمعاقبة: وذلك بأن تعاتبَ نفسَك على التقصيرِ، وتؤدِّبها وتعاقبها على الذُّنوب والغفلة، فتعاقب نفسَك بحرمانِها من بعضِ شهواتها - تأديبًا وزَجْرًا، وتهذيبًا وتربيةً - أو تعاقبها بإلزامِها بزيادة قرباتِها؛ فتفرضَ عليها استغفارَ عشرة آلاف مرة، وتمنعها من النُّوم، تعاقبها بأن تأكلَ خبزًا جافًّا بغيرِ إدام، وتشربَ بعد الخبزِ ماءً فقط؛ بعضُ السلفِ أراد أن يعالج نفسه من الغيبة، فما استطاع أن يعالِجَها بعد أن جرَّبَ معها بعض العلاجات، ثم عاقبَها بأنه إذا اغتاب إنسانًا تصدَّقَ، حتى قال: "فغلبني حبُّ الدنانير، فتركتُ الغيبة"، فعاتِبْ نفسَك وعاقِبْها، فبذلك تنجو من شرِّها، وتقودها سالمةً إلى ربِّها، والله المستعان.

 

إنَّ اعتياد هذا الاعتكافِ بهذا البرنامج يوميًّا، يؤدِّي إلى تلافي الأخطاء، وإصلاح الأحوال، فاصبر، والْزَم تلتزم.

 

• احرص أخي - يا بنَ الإسلام - على هذه المحاسبة كلَّ يومٍ وليلة، وخاصَّةً عند النوم؛ لأنَّه أرجى أثرًا؛ حيث تخلو النَّفس عن شواغلِها، وتكون أكثرَ استشعارًا للموتِ الذي هو أخو النوم، فضلاً عن الغيبةِ عن عيونِ الخلق، فيحاسب الإنسانُ نفسَه كلَّ يومٍ قبل النوم، وإلا ففي أيِّ وقت آخر من يومِه، ويحاسب نفسَه كل اثنين وخميس؛ لما رواه أبو داود والنسائي وأحمد - وقال الألباني: حسن صحيح -: ((تُعرَضُ الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحبُّ أن يُعرضَ عملي وأنا صائم))، ويحاسب نفسَه في شعبان؛ لما رواه النَّسائيُّ وأحمد عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسول الله، لم أركَ تصوم شهرًا من الشهورِ ما تصوم من شعبان؟ قال: ((ذلك شهر يغفل النَّاس عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمالُ إلى ربِّ العالمين، فأُحب أن يُرفع عملي وأنا صائم)) والحديث حسنه الألباني، والظاهر أنَّ هذا رفع أعمالِ السَّنَة قبل رمضان، والله أعلم.

 

فينبغي مراجعة النيَّة والإخلاص، والحذر من أمراضِ القلوب؛ ومن أخطرها: الرياءُ، وطلبُ المدح من النَّاس، والكبر، والإعجابُ بالنَّفس، والغفلة، والانشغالُ بالأسبابِ عن التوكل، وطلبُ الجاه والرِّياسة، وحبُّ الدنيا وتقديمها على الآخرة، والحسد، والشحناء؛ قال -تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18]، وروى مسلمٌ وأحمدُ وابن ماجه أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنَّ الله لا ينظرُ إلى أجسامِكم ولا إلى صورِكم؛ ولكن ينظرُ إلى قلوبِكم))، وفي رواية: ((وأعمالكم))، وفي الحديث: ((الكيِّسُ من دان نفسَه وعمل لما بعد الموت، والعاجزُ من أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله))؛ والحديث رواه البيهقيُّ والترمذي وابن ماجه وأحمد، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يُخرجاه.

 

وقال الرَّجلُ - الذي أضاف ابنَ عمرٍو - عن عمَلِه: "ما هو إلاَّ ما رأيت، ولكنِّي أَبِيت وليس في قلبي غشٌّ ولا حسد لأحدٍ من المسلمين على خير آتاه الله إياه"، فقال ابنُ عمرو: "هذه التي بلَغَتْ بك، وهي التي لا نُطيقُ"؛ والحديث رواه النسائي وأحمد وعبدالرزَّاق في "المصنَّف".

 

ومُحاسبة النَّفس على الطاعات من أنفعِ الوظائف التي يقوم بها العابدون في شهرِ رمضان، والأصل أنَّ المحاسبةَ وظيفةٌ لازمة لسالكِ طريق الآخرة، ولكنَّها تتأكَّدُ وتزداد في هذا الشَّهر، والمعنِيُّ بمحاسبةِ النَّفْس على الطاعة: فحصُ الطَّاعةِ ظاهرًا وباطنًا، وأوَّلاً وآخِرًا؛ بحثًا عن الثمرةِ؛ ليعرفَ مأتاها فيحفَظه، وقدْرَها فينمِّيه، ووصولاً للنقصِ سابقًا ليتداركه لاحقًا.

 

• وهذه المُحاسبة تكون قبل العملِ وأثناءه وبعده؛ أمَّا قبلَه فبالاستعدادِ له، واستحضار ما قصَّر فيه حتى يتلافاه، وأثناءه بمراقبةِ العمل ظاهرًا وباطنًا، أوَّله وآخره، والمحاسبةُ بعد العملِ بإعادة ذلك كلِّه.

 

• وهذه المُحاسبةُ - كما ذكرت - إذا واظب عليها المرءُ، صارت مسلكًا لا يحتاج إلى تكلُّفٍ ومعالجة، وسيجد غِبَّ هذه المحاسبة وثمرتَها تزايدًا في مقامِ الإحسان الذي سعى إليه كلُّ السالكون، وهو أن تعبدَ الله كأنَّه يراك.

 

ومثل هذه المحاسبةِ ينبغي أن تكونَ في الخفاء، يحاور نفسَه وهواه، ويعالج أيَّ قصورٍ بلومِ نفسِه وتقريعها، وعقابها على كسلِها وخمولها.

 

ولا يُنصَح بمداومةِ الاعتماد على أورادِ المحاسبة الشَّائعة، وقد اختلفَ فيها النَّاس على طرفين: فمنهم من جعلَها وسيلةً دائمة للتربية، وطريقة ناجعةً لتقويم النفس، ومنهم من بالغَ ومنع منها مطلقًا، واصفًا إياها بالبدعيَّة، والحقُّ: التوسُّط، نعَم، هي وسيلةٌ لم ترد عن سلَفِ هذه الأمَّةِ، لكن تشهد لها نظائرُ في الشَّرعِ، ثم إننا لا نقولُ بجوازِ الاعتماد على تلك الأوراد في كلِّ الأحايين، بل ننصحُ بها في بدايةِ السَّير، وأيضًا لا نُلزم بها أحدًا، ولكن من عوَّل عليها في بدايةِ سيره؛ لكون نفسِه متمرِّدة شموسًا، فنرجو ألاَّ يكونَ ثَمَّة حرجٌ؛ شرطَ عدمِ توالي اعتمادِه عليها.

 

والصَّواب تنشئة النَّفس على دوامِ المُحاسبة الذاتيَّة والمراقبة الشخصية، وتعويدها على العقابِ عند الزَّلل؛ فإنَّ هذا من شأنِه أن ينقي العبادةَ من أيِّ حافزٍ خارجي دخيل على النيةِ الصَّالحة، كرغبةٍ في تسويدِ ورقة المحاسبة، أو نحو ذلك.

 

أخي يا بنَ الإسلام، النَّفس لطيفةٌ ربَّانية، بل هي جوهرٌ مشرق على البدَن، إنْ أشرقَ على ظاهرِ البدن وباطنه حصلَت اليقظة، وإن أشرق على باطنِ البدن دون ظاهرِه حصل النَّوم، وإن انقطع إشراقُه بالكليةِ حصل الموت، والأدب مع النفسِ هو: إكرامها، وذلك بصيانتِها عما يُهينها من المعاصي والآثام، وتعلم العلم، والقيام بالطَّاعات؛ ليحصلَ لها النورُ والرِّضا، وإعطاؤها حظَّها من المباحاتِ من غير إسراف؛ للتقوِّي به على الطاعات والقربات.

 

ومن الأدب مع النفس:

1- أول ما يجبُ من أدبِ النفس: تزكيتُها وتطهيرها من طبائعها وعاداتها الرَّديئة التي توافقُ الهوى وتخالفُ الشَّرع؛ قال الله -تعالى-: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7 - 10].

2- مُجاهدةُ النَّفس في طاعةِ الله -تعالى- لأنَّ النفسَ أمَّارةٌ بالسوء، داعيةٌ إلى المَهالكِ، طامحةٌ إلى الشَّهوات، وحملها على الطاعةِ رغمًا عنها مخالفة لشهواتِها، يحتاج إلى مُجاهدة.

3- دوامُ سؤال الله هدايةَ النَّفسِ والوقاية من شرِّها؛ كما في حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - الصحيح في "المسند".

4- دَوام محاسبتها؛ لمعرفة ما لها وما عليها.

5- مخالفتُها والاحتراز من شهواتِها؛ لأنها تُفْسِدها، بل تتعامل معها كما يحبُّ ربنا ويرضى.

 

6- الوقوف على عيوبِها، ومعالجة هذه العيوبِ بالصَّبر والتأني. وعيوبُ النفس كثيرة؛ منها:

• أنَّها لا تألفُ الحقَّ ولا الطاعة، وهذا يتولَّدُ من متابعة الهوى، وعلاج ذلك يكون بالبُعدِ عن الشهواتِ ومخالفة الهوى.

• ومنها: الغفلة والتواني والتسويف، وعلاجُ ذلك يكون بتوبةٍ تحلُّ الإصرار، وخوفٍ يزيلُ التسويف، ورجاءٍ يبعث على قصد مسالك العمل، وذِكْر الله على الدَّوام، ويكون ذلك كلُّه بقلب مُفرَدٍ فيه توحيدٌ مجرَّد.

 

ومنها: العُجْب بالعمل والشُّعور بالفخر، وعلاج ذلك يكون بأربع:

1- أن ترى التوفيقَ من الله -تعالى- فإذا رأيتَ ذلك، فإنَّك سوف تنشغلُ بالشُّكرِ، ولن تعجبَك نفسُك.

2- أن تنظرَ إلى النعمةِ التي أنعم الله -تعالى- بها عليك، وتَعْلم أنها من الله، وليست من كسبِك؛ قال -تعالى-: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53]، فإذا نظرتَ في النِّعمِ انشغلتَ بالشُّكر.

3- أن تخافَ ألاَّ يُقبل منك؛ فإذا اشتغلتَ بالخوفِ من عدم القَبول، لن تُعجبَ بنفسِك؛ قال -تعالى-: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27].

4- أن تنظرَ في ذنوبِك التي أذنبتَها قبل ذلك، فإذا خفت أن ترجحَ سيئاتُك على حسناتك؛ قَلَّ عجبُك، وكيف يعجب المرء بعملِه وهو لا يدري ماذا يَخْرج من كتابه يوم القيامة؟ إنَّما يتبين عجبه وسروره بعد قراءةِ كتابه في أرض المحشر.

 

• ومنها: الاشتغالُ بتزيين الظَّاهرِ وإهمال الباطن، وعلاج ذلك موجودٌ في قوله -صلى الله عليه وسلم- في "صحيح مسلم": ((إنَّ الله لا ينظر إلى صورِكم وأموالِكم، ولكن ينظر إلى قلوبِكم وأعمالكم)).

 

• ومنها: الاشتغالُ بمظاهرِ الأعمال وفقدان رُوحها وثمرتها ولذَّتِها، ويكون ذلك من سقمِ القلب، وخيانة السِّر، وعلاج ذلك يكون بأكلِ الحلال الطَّيب، والبُعد عن الحرام الخبيث.

 

• ومنها: التَّكاسُل عن الطَّاعاتِ، وهو ميراثُ الشِّبَع؛ فإنَّ النفسَ إذا شبعت قَوِيَت، فإذا قويت أخذتْ بحظِّها، وعلاج ذلك يكون بتجويعِها؛ فإنَّها إذا جاعت عدمت حظَّها وضعفت.

 

• ومنها: الطَّمعُ؛ فإنَّ النفس طمَّاعة، ولا يقف طمعُها عند حدٍّ؛ قال -تعالى-: ﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9]، وعلاج ذلك يكون بالقناعةِ والتعفُّف.

 

• ومنها: كثرةُ الذُّنوبِ والمخالفات؛ فإنَّها تحبُّ العاجلة وتتابع الشهواتِ، وهذا العيبُ يجعلها تقسو، بل ويبعدها عن الخالقِ الأعظم - تبارك وتعالى - وعلاجُ ذلك هو الاستغفارُ والتوبة وأعمال البِرِّ، وحضور مجالس الذِّكر، ومجالسة الصَّالحين.

 

• ومنها: الحرص، وهذا الحرصُ يدفعها إلى حبِّ الدُّنيا، والانهماك في جلبِ المصالح الدُّنيوية وتحصيلها، وعلاج ذلك أنَّ تعلمَ أنَّ الدُّنيا ليست بدارِ قرار، وأنَّ الآخرة هي دارُ القرار، والعاقلُ من يعمل لدارِ القرار، لا لدارِ البوار.

 

• ومنها: الرِّضا عند المدح، والغضَب عند الذَّم، وعلاج هذا العيبِ يكون برياضةِ النَّفسِ على الصِّدق والحق.

 

فيا بن الإسلام، إذا علمت عيوبَ النفس وعالجتها، فعليك أن تستكملَ فضائلها بما يلي:

7- من الأدبِ مع النَّفس تحبيبُ الطاعةِ إليها، وتنفيرها من الشَّيطانِ وطاعته، فالنفسُ والشيطان قرينان في إبعادِ العبد عن مولاه، والدُّنيا معهما، فعليك أن تجتهدَ في مخالفةِ نفسك وشيطانك؛ فهُما سببُ وقوعِك في العطَب والهلاك.

 

8- الاشتغالُ بأمورِ الآخرة، فلا تعمل عملاً حتى تستعملَ عقلك في النظرِ إلى عاقبته، فإذا حرصتَ على طلبِ الآخرة وأعرضتَ عن الدُّنيا؛ أتتك الدُّنيا وهي راغمة.

 

9- النَّظر في العواقبِ يكسرُ النَّفسَ ويكفُّ طغيانَها، يكفيك أن تعلمَ حديثَ النبي -صلى الله عليه وسلم- في "صحيح مسلم": ((يُؤتى بأنعمِ أهل الدُّنيا من أهلِ النَّار، فيُصبَغ في النَّارِ صبغةً، ثم يُقال: يا بنَ آدم، هل رأيتَ خيرًا قطُّ؟ هل مرَّ بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله، يا ربِّ! ويؤتى بأشدِّ النَّاس بؤسًا في الدُّنيا من أهل الجنةِ، فيُصبغ في الجنةِ، فيقال له: يا بن آدم، هل رأيتَ بؤسًا قطُّ؟ هل مرَّ بك شدَّةٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ما مرَّ بي بؤسٌ قط، ولا رأيتُ شدةً قط)).

 

10- أن يجعلَ صاحبُها علوَّ همتِه مقصدَه، فمن كرمتْ عليه نفسُه، لم يكن للدُّنيا عنده قَدْر.

 

فهذِّب نفسَك - يا بن الإسلام - وداوِ أمراضَها حتَّى يكون يوم الحصاد؛ فتحصد ويكون حصادُك يومها خير الحصاد: جنَّة عرضها السموات والأرض.

 

الوسيلة الثانية والثلاثون: الجلوس في المسجد حتَّى تطلع الشمس:

البعد عن السَّهرِ المذموم في اللَّهوِ واللغو في ليالي رمضان يعينُ كثيرًا على استثمارِ الأوقات الفاضلة كوقتِ السَّحَر، ولإحياء السُّنة المباركة في الجلوسِ بعد صلاة الفجر إلى شروق الشمس، ثم يصلِّي ركعتين، فيحصل على أجرِ حجة وعمرة تامَّةٍ، تامَّة، تامَّة، كما روى الترمذيُّ، وصححه الألباني.

 

فإن لم يرزقك الله - يا بن الإسلام - المالَ الذي يُمكِّنُك من السَّفرِ إلى أداءِ العمرة والحج، فهذه فرصةٌ غالية ثمينة من ربِّك الكريم، فأرِ ربَّك من نفسِك صدقَ النية.

 

الوسيلة الثالثة والثلاثون: الخروج في طلب العلم:

قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلمٌ: ((من سلك طريقًا يلتمسُ فيه علمًا، سهَّل الله به له طريقًا إلى الجنة)).

 

ولا يَغُرنَّك كونُ سلَفِنا الصالح يمتنعون عن مَجالسِ العلم في رمضان؛ فإنَّ مجالس العلم عندهم عامرةٌ طولَ العام، ويَقْتطعون رمضان للقرآن، ولكن مجالس العلمِ عندنا خاوية في الغالبِ طوالَ العام، ولا نهتمُّ في رمضان مثلهم بالقرآن، فلماذا نقيسُ حالَهم على حالنا؟! ولماذا نتركُ العلمَ في رمضان تشبُّهًا بهم؟! ونتركه في بقيةِ العام مخالفةً لهم؟! فاستعنْ بالله، وابدأ في طلبِ العلم، وطالع في فضائلِه لتعلو همتك، ولتبدأ بواجب الوقت من أحكامِ الصيام وزكاة الفطر والعمرة - إن كنتَ ستعتمر - ثم سِرْ بعدَ رمضان في رَكْبِ أهلِ العلم؛ لعلَّ الله يحشرك معهم.

 

إنَّ المسلمَ يتعرَّضُ في حياتِه للعديد من الحالات الطارئة التي يحتاجُ فيها إلى وجودِ جوابٍ فوري يعمل بمقتضاه عند حصولِ الحالة المعيَّنة، وكثيرًا ما يصعب - أو يتعذَّر - وقتها البحثُ عن الحكمِ الشرعي أو السؤال عنه.

 

وهذا يؤكِّد أهميةَ طلبِ العلم والتفقه في الدِّين ومعرفة أحكام الشريعة؛ حتَّى إذا ما احتاج المسلمُ إلى الحُكمِ وجدَه عنده، فأنقذ نفسَه، أو غيره من إخوانِه المسلمين من الوقوعِ في المحرَّمات أو الأخطاء، وكثيرًا ما يؤدِّي الجهلُ إلى فسادِ العبادة، أو الوقوع في الحرَج.

 

ومن المؤسفِ أن يقومَ إمامٌ إلى الخامسةِ سهوًا في صلاته بالجماعة، فلا تجد في المسجدِ واحدًا يعرف الحكمَ الشرعيَّ في هذه المسألة، أو يأتي مسافرٌ وقت إقلاع الطَّائرة، وهو ينوي العمرة، ويكتشف فجأةً أنه قد نسي لباسَ الإحرام، وليس هناك وقتٌ لتوفيرِه، ثم لا يجدُ في المطارِ من المسلمين مَن يخبره بماذا يفعلُ في هذه الحالة الطارئة، ويدخل شخصٌ المسجدَ وقد جمعوا للمطر، وهو في صلاةِ العشاء، وهو لم يصلِّ المغرب، فيقع في حيرةٍ من أمره، وقُل مثل ذلك في كثيرٍ من الحالاتِ التي يختلف فيها المصلُّون، ويتناقشون بجهلهم، فيقع الاضطرابُ والتشويش في مساجد المسلمين وجماعاتهم، وفي كثيرٍ من الأمور الشخصية والفردية، فإنَّ الجهلَ يوقع في الحرج، وربما الإثم، وخصوصًا إذا كان المرءُ في موقفٍ يَجِب عليه فيه أن يتَّخِذَ قرارًا، وليس عنده علمٌ يَبني عليه هذا القرار.

 

وإذا كان أهلُ الدُّنيا يضعون الإجاباتِ المسبقة للتصرُّفِ السَّليم في الحالاتِ الطَّارئة؛ كحصولِ الحريق، وانتشالِ الغريق، ولدغةِ العقرب، وحوادثِ الاصطدام، والنَّزيفِ والكُسور، وسائرِ إجراءاتهم في الإسعافات الأوليَّة وغيرها، يُعَلِّمون ذلك للنَّاس، ويقيمون الدوراتِ لأجلِ ذلك، فأهل الآخرة أولى أن يتعلَّموا ويُعلِّموا تفاصيلَ أحكام هذا الدِّين.

 

ومما ينبغي الانتباهُ له هنا التفريقُ بين المسائلِ الافتراضيَّة التي لا تقع، أو نادرة الوقوع، وبين المسائلِ الواقعة فعلاً، التي عُلِم من التجربةِ وحال النَّاس أنَّها تَحْدث، ويقع السؤالُ عنها.

 

فأمَّا القسم الأول، فالبحثُ فيه من التكلُّفِ الذي نُهينا عنه شرعًا، والذي حذَّرَنا منه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- كما في "الصحيحين": ((ذَرُوني ما تركتُكم، فإنَّما هلك مَن كان قبلكم بكثرةِ سؤالِهم واختلافهم على أنبيائهم...))؛ قال ابنُ رجب - رحمه الله - في شرحِ هذا الحديث: "فدلَّت هذه الأحاديثُ على النهي عن السؤالِ عمَّا لا يُحتاج إليه، وعلى النهي عن السؤالِ على وجهِ التعنُّتِ والعبث والاستهزاء".

 

وعلى هذا المعنى يُحمل كلامُ جماعةٍ من السلف كما جاء عن زيد بن ثابتٍ - رضي الله عنه - أنَّه كان إذا سُئِل عن الشَّيء يقول: "كان هذا؟"، فإن قالوا: لا، قال: "دعوه حتَّى يكون"؛ كما أورده ابنُ رجبٍ في "جامع العلوم والحِكَم"، وأورد الدارميُّ في "سُننِه"، وابن عبدالبرِّ في "جامع بيان العلم" آثارًا مشابهة.

 

أما القسم الثاني، وهي المسائلُ التي تقعُ، فالسؤال عنها محمود، وقد كان أصحابُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أحيانًا يسألونه عن حكمِ حوادثَ قبل وقوعِها، لكن للعمل بها عند وقوعِها، كما قالوا له: "إنَّا لاقو العدوِّ غدًا، وليس معنا مُدًى، أفنذبحُ بالقصَب؟"، وسألوه عن الأُمراءِ الذين أَخبر عنهم بعده، وعن طاعتِهم وقتالهم، وسأله حذيفةُ - رضي الله عنه - عن الفتن، وما يصنعُ فيها، فهذا يدلُّ على جوازِ السؤال عمَّا هو مُتوقَّعٌ حصولُه.

 

وعلى كلِّ حال، فقد ثبت عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((من يُرِدِ الله به خيرًا يفقِهه في الدِّين)).

 

• احرص على حضورِ مجالس العلم والذِّكر، واحذرْ من الإعراضِ عنها؛ فقد روى مسلمٌ وأبو داود والترمذيُّ وابن ماجه وأحمدُ عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((وما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتابَ الله، ويتدارسونه بينهم، إلاَّ نزلت عليهم السَّكينةُ، وغشيتهم الرَّحمة، وحفَّتْهم الملائكة، وذكرَهم الله فيمن عنده))، وفي "الصحيحين": دخلَ ثلاثةٌ المسجدَ والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- معه أصحابُه، فوجد أحدُهم فرجةً في الحلقةِ فجلس فيها، وأمَّا الثاني فلم يجد فرجةً فجلس خلفهم، وأمَّا الثالث فانصرف، فقال النبي - عليه السَّلام -: ((ألا أخبرُكم عن الثلاثةِ نفر، أمَّا أحدُهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأمَّا الآخرُ فاستحيا، فاستحيا الله منه، وأمَّا الآخَر فأعرض، فأعرضَ الله عنه)).

 

وإن أصرَرْت على أنَّه لا طلبَ للعلم في رمضان، فلْيَكن طلبُك للعلمِ برمضان؛ فهذا حقٌّ من حقوقِه، وهو واجبُ الوقت، وإنْ كنتُ أرى أنَّ تعلُّمَ أحكامِ الصيام ينبغي أن يسبقَ دخول رمضان؛ حتى يتسنَّى لك الصيامُ الذي يُرضي اللهَ -تعالى- ولكن في رمضان يمكنك أن تتَّخِذَ من هذا الكتابِ بابًا للعلمِ والعمل والدَّعوة؛ وهاك بعض المقترحات:

• القراءة الجديدة: لِتَكنْ خُطَّتُك مع هذا الكتاب: اكتب أفضلَ ما تقرأ، واحفظْ أفضل ما تكتب، وبلِّغ مَن حولك أفضلَ ما حفظتَ.

• الإذاعة اليوميَّة: استخدم مادةَ هذا الكتابِ في التحضير لخاطرة يوميَّة في المسجد المُجاوِر، أو في مُصلَّى كليتك أو عملك؛ على ألاَّ تتجاوز الخاطرةُ 5 دقائق، وتكون عقبَ صلاةِ الظهر أو العصر.

• الإذاعة الأسبوعيَّة: قدِّم نسخةً من هذا الكتابِ لإمام مسجدك مع إهداءٍ رقيق؛ لينتفعَ بها في خطبِ الجمعة الرَّمضانية، وتنال أنت أجرَ كلِّ من سمع الخطبة.

• الحلقة التعليمية: اجعل هذا الكتابَ موضوعَ المدارسة مع شبابِ الحي في حلقةٍ مسجديَّة يومية عقب صلاةِ الفجر أو صلاة العصر، والاتفاق على الخروجِ بتوصياتٍ عمليَّة مناسبة.

• اللوحات الإرشاديَّة: انتفع من مادةِ هذا الكتاب في عملِ لوحاتِ حائطٍ مسجديَّة، أو أخرى تُعلَّق في مداخلِ البيوت السكنية، والأماكن التعليمية.

• الطُّعم اللذيذ: يمكنك وضع نُسَخ من هذا الكتابِ في مكتبة المسجد المجاور، أو أماكن الانتظار العامَّة؛ كالعياداتِ وغيرها؛ لتعمَّ الفائدة.

 

الوسيلة الرابعة والثلاثون: تدريب النفس على هجر المعاصي:

إذا كنتَ أخي ممن ابتُلي بمعصيةٍ أو فتنة، واعتادت عليها النَّفسُ وأَلِفَتْها، وأصبح الفراقُ عليها صعبًا ثقيلاً، فإنَّ رمضان فرصةٌ عظيمة للصبرِ والمثابرة ومجاهدةِ النفس عن تلك الفتنة؛ فالشياطينُ مُصفَّدة، والنفس منكسرة، والرُّوح متأثرة، والنَّاس من حولك صيامٌ قيام، إذًا فالأجواءُ والظروف كلُّها مهيَّئة للابتعادِ عن الفتنةِ والمعصية، فشهر رمضان فرصةٌ عظيمة لذلك.

 

وكذلك الابتعاد عن مُشاهدةِ الحرام، والغيبة والنَّميمة، أو استماع الأغاني، أو تَبْرئة اللِّسان، أو غيرها من السَّيئات، ولذا فأقولُ لك أخي الحبيب: استعن بالله، وكن صاحبَ عزيمة وهمة عالية، فلا تغلبك تلك الشَّهوة، ثم أيضًا عليك باللُّجوءِ إلى الله، واصبر وصابِر، وحاسبِ النفس، فستجد - إن شاء الله - أنَّك تغلبتَ على هذه الشهوات، والله معك، يعينُك ويوفقك.

 

الوسيلة الخامسة والثلاثون: السِّواك:

السواك: عودٌ من شجرِ الأراك، أو ما يقومُ مقامَه في تنظيف الفم وتطهيره، والتسوُّك يعني: دَلْكَ الأسنان وتنظيفها باستعمالِ السِّواك أو غيره، وكان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يتسوَّك في كلِّ أحيانه.

 

والسواك سُنَّة مؤكَّدة في كلِّ وقت من رمضان وغير رمضان؛ لعمومِ الأدلة، لكنَّها كغيرها من العباداتِ في مضاعفة الأجر والثواب لِمُناسبةِ الزَّمان، وهي من الأبوابِ التي يُغفَل عنها في رمضان.

 

نعم، لقد غفل كثيرٌ من المسلمين عن هذه السُّنة المباركة - ألا وهي استعمال السِّواك - مع أنَّ استعمالَه ينفع المسلمَ في دينه ودنياه؛ فأمَّا عن دينِه، ففيه من الأجرِ والثَّوابِ العظيم الكثير والكثير، ويكفي أنه مرضاةٌ للرب، كما قال -صلى الله عليه وسلم- فيما روى مسلمٌ: ((السواكُ مطهَرةٌ للفم، مرضاةٌ للرب)).

 

وأما عن دنياه، فهو مطيبةٌ للفم؛ فإذا استعملَه الإنسانُ فإنَّ المادة الموجودة في السِّواك يجعلُها الله سببًا في القضاءِ على سبعين نوعًا من الميكروبات الموجودة في الفم والأسنان - كما نقل ذلك الشيخ/ محمودٌ المصريُّ - قال -صلى الله عليه وسلم- فيما أخرجه أحمدُ وصححه الألباني: ((عليكم بالسواكِ؛ فإنَّه مطيبة للفم، مرضاة للربِّ))، ويمكنك أيضًا - كوسيلةٍ لاستثمار رمضان والعمر كلِّه - أن توفرَه لغيرِك، والدالُّ على الخيرِ كفاعلِه، كما في "الصحيحين".

 

هذا، ومن آداب السواك:

1- أن يتسوَّك قبل الوضوء؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- عند البيهقيِّ ومالك، وأحمد، وصححه الألباني: ((لولا أن أشقَّ على أمتي، لأمرتُهم بالسِّواكِ مع كلِّ وضوء)).

2- أن يتسوَّكَ قبل الصلاة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- عند أحمد والترمذي وصححه الألباني: ((لولا أن أشقَّ على أمتي، لأمرتهم بالسواك عند كلِّ صلاة)).

3- أن يتسوَّكَ عند الانتباهِ من النوم؛ لحديث حذيفة - رضي الله عنه - "أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا قام من الليلِ يَشُوص فاه بالسِّواك"؛ وهو في "صحيح البخاري"؛ و"يَشُوص" يعنى: يدلك وينقي.

4- أن يتسوَّكَ قبل قراءةِ القرآن؛ قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البيهقيُّ وصححه الألباني: ((طيِّبوا أفواهَكم بالسِّواكِ؛ فإنَّها طُرُق القرآن)).

5- أن يتسوَّكَ يوم الجمعة؛ قال -صلى الله عليه وسلم- في جمعةٍ من الجمع: ((يا معشر المسلمين، إنَّ هذا يومٌ جعله الله عيدًا، فاغتسلوا، ومن كان عنده طيبٌ، فلا يضرُّه أن يمسَّ منه، وعليكم بالسِّواك))؛ رواه البيهقي وصححه الألباني.

6- أن يتسوَّكَ عند دخولِ المَنْزل؛ فقد روى مسلمٌ عن شُرَيح بن هانئ قال: "سألتُ عائشةَ - رضي الله عنها - قلت: بأيِّ شيء كان يبدأ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إذا دخلَ بيتَه؟ قالت: بالسِّواك".

7- أن يتسوَّكَ عند إطالةِ السكوت، وصُفْرة الأسنان، وعند تغيُّر رائحةِ الفم.

8- يُكره استعمالُ سواكٍ جافٍّ وخشن؛ لئلاَّ يؤذي الإنسان.

9- يجوزُ أن يتسوَّكَ بيدِه اليمنى أو اليسرى.

10- احرص على نظافةِ سواكك، وغيِّر فرشاتِه كلَّ ثلاثة أيام.

11- انوِ باستخدامِك السواكَ إحياءَ السنة.

 

الوسيلة السادسة والثلاثون: الهدية في رمضان:

الهديَّةُ شعيرةٌ إسلامية، وهي سببٌ عظيم للتآلفِ بين القلوب واجتماعها، وشيوع المودة بين المسلمين، وهذا من أعظمِ ما جاءت به الشَّريعةُ الإسلامية.

 

والهدية هي: دفعُ شيء سواء كان مالاً أو سلعة إلى شخصٍ معين؛ لحصولِ الأُلفةِ والثواب من غيرِ طلب ولا شرط، وهي عطيةٌ بلا مقابل، فالهدية تقرِّبُ بين القلوب، وتزيلُ الضَّغائن؛ ويقول -صلى الله عليه وسلم- في الحديثِ الحسن: ((تهادوا تحابوا))، والهديةُ تُقبَل؛ لأنَّها تُوجِد محبة؛ روى أحمد والبخاريُّ في "الأدبِ المفرد" وصححه الألباني أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تردُّوا الهدية))، ولكن من السنَّةِ أن نثيبَ عليها؛ فقد روى البخاريُّ عن عائشةَ - رضي الله عنها - قالت: كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقبل الهديةَ ويثيب عليها:

إِنَّ الْهَدَيَّةَ حُلْوَةٌ

كَالسِّحْرِ تَجْتَذِبُ الْقُلُوبَا

تُدْنِي الْبَعِيدَ مِنَ الْهَوَى

حَتَّى تُصَيِّرَهُ قَرِيبَا

وَيَصِيرُ مُضْطَغَنُ العَدَا

وَةِ بَعْدَ بَغْضَتِهِ حَبِيبَا

 

إنَّ للهديةِ أثرًا عظيمًا في قلوبِ النَّاس، ولطالما كانت الهديةُ سببًا في تأليفِ القلوب وهدايتها، ونحن نستطيعُ أن نفعلَ ذلك من خلالِ شراء بعضِ الكتيبات النافعة، والأشرطة الهادفة، لبعض العلماء والدُّعاة الأفاضل، ونخلص النيَّةَ عند شرائِها وإهدائها، فلعلَّ الله أن يَهدي بها مسلمًا أو مسلمة، فيكون ذلك في ميزانِ حسناتِك؛ فالدَّالُّ على الخيرِ كفاعلِه.

 

ولكن - للأسف - كادَتْ هذه السُّنة المباركة أن تَختفي بسببِ الحرصِ على جمع المال، وبسبب كثرة التشاحُنِ بين النَّاس من أجل حُطامِ الدُّنيا الزائل.

 

فاللهَ اللهَ في الهديَّةِ إخواني، وأحسنوا النِّيةَ - تقبَّلَ الله منِّي ومنكم - وقد تَدْخُل الهديةُ بحسنِ النية، في الصَّدقةِ الجارية، أو في معناها مثل: الشريط، الكتب، السِّواك... إلخ.

 

ويمكنك أن تستخدمَ هذا الكتابَ كهديةٍ تهديها لإخوانِك؛ تتألَّف به قلوبَهم، ويُكتب لك أجرُ ما يعملون مما يستفيدونه منه، وهذه غنيمةٌ باردة، دائمةٌ ما دامت نسختُك التي أخرجتَها، موجودة يُستفاد منها! فلا تبخلْ.

 

أنواع الهدية:

• منها هديةُ المحبةِ والمودة، والتي يُقصد بها تثبيتُ الأخُوَّة، وحسن العشرة بين النَّاس.

• وقد تكون الهديةُ من بابِ الصِّلةِ والبرِّ، إن كانت بين الأهلِ والأقارب.

• وقد تكون من بابِ التقرُّبِ والتحبُّبِ إلى الله -تعالى- مثل الهدية إلى العلماءِ والصَّالحين.

• وقد يُقصد بها التوسعةُ إن كانت من الغني إلى الفقير، وقد يُقصد بها تأليفُ القلوب.

• وقد تكون هديةَ تشجيعٍ إذا أعطاها المدرِّسُ لأحدِ طلابه النُّجباء.

• وقد تكون في مناسبةٍ كالعيدين، أو مناسبةٍ عائلية مثل الزواج، أو عند العودةِ من سفر.

• وقد تكونُ للوالدين وهي من أعظمِ الهدايا؛ لأنَّ بِرَّ الوالدين واجب.

• ومن أتحفِ الهدايا وأعظمها منفعةً النصيحةُ العلميَّة، التي تفيد الإنسانَ في دينِه ودنياه، فأكرمُ الهدايا علمٌ نافع، ونصيحةٌ موثوق بها، ومِدْحة صادقة.

 

ومن آداب الهدية:

1- قبول الهديةِ ولو كانت بسيطةً أو قليلة، وشكرُها، وحفظُ جميلِ مَنْ أهداها - ولو كانت يسيرة - كما قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في "صحيح البخاري": ((لو دُعِيتُ إلى ذراعٍ أو كُراعٍ، لأجبتُ، ولو أُهديَ إلىَّ ذراع أو كُراع، لقبلتُ)).

2- أن تشركَ من حضر معك في الهديةِ إن كانت تُقْسَم، كطعامٍ أو شراب أو نحوه.

3- تقديمُ الهديةِ لتأليف القلوب، وهذا خاصٌّ لمن دخلَ في الإسلامِ حديثًا، أو من كان عاصيًا غافلاً وعرفَ طريقَ الهداية، أو كان بينك وبينه عداوةٌ أو مخاصمة، ثم تَمَّ الصلحُ بينكما، فينبغي أن تقدمَ له هدية؛ ليتألفَ بها قلبُه ويرضى بها.

4- المكافأةُ على الهدية، وإعطاءُ هدية مقابلها، فمن أهداك هديةً يستحبُّ أن تهدي له هديةً مثلها، أو أغلى منها حسب ما تيسَّر لك.

5- شكر من أهدى إليك هدية؛ قال -صلى الله عليه وسلم- في "صحيح سنن أبي داود": ((من أُعطِي عطاءً فوجد، فليَجْزِ به، فإن لم يجدْ فليُثْنِ به، فمن أثنى به فقد شكَره، ومن كتمَه فقد كفَرَه)).

6- أن يبادِلَ الدُّعاءَ بالدعاءِ، فحين يقال لك: جزاك الله خيرًا، فقل: وجزاكم، أو: وإياكم.

7- أن تقدِّمَ الهدية للأهمِّ فالأهم، أو للأقربِ فالأقرب.

8- مراعاةُ ظروفِ النَّاس وحاجتهم في الهدية؛ فإذا علمت من حالِ أخيك المسلم أنه يحتاجُ إلى طعامٍ، أهديتَ إليه الطَّعام، أو علمتَ أنه يحتاجُ إلى كسوةٍ، أهديتَ إليه ثيابًا.

9- إذا قدَّم لك أحدٌ هدية، وأنت لا تحبُّها، فينبغي ألا تردَّها، ويجوزُ لك أن تهبَها لأحد، أو تهديها لأحدٍ بدلاً من ردِّها؛ وذلك تطييبًا لخاطرِ مُهديها.

10- أن يتحرَّى المُهدي أحسنَ الأوقات وأنسبها، وكذلك أنسب الأماكن؛ لتصبحَ أوقع في النَّفسِ؛ فقد كان النَّاسُ يتحرَّوْن بهداياهم يومَ عائشة - رضي الله عنها - كما في "صحيح البخاري".

11- إذا قدَّم لك أحدٌ هديةً وردَدْتَها، ينبغي أن تُبيِّنَ سببَ الردِّ؛ حتى لا تسبب الحزنَ والحرج لذلك الشخص؛ كما فعل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مع الصَّعبِ بن جثامة الليثي، والحديثُ في "صحيح البخاري".

12- لا يجوزُ الرجوعُ في الهِبةِ أو الهديَّة؛ فإنَّك إذا أَهديتَ هديةً لشخصٍ ما، فإنَّها تصير مِلْكَه، ويحرمُ على المُهدي أو الواهب الرجوعُ في هديتِه أو هبته.

13- لا يجوزُ لأحدِ الأبوين أن يفضِّلَ أحدَ الأبناء على بعض، أو يخصَّه بهديةٍ دون الآخرين، لكن إذا أعطاه هديةً دون إخوانِه لسببٍ شرعي - كأن كان فقيرًا أو مريضًا - فلا بأس أن يخصَّهُ حينئذٍ، لكن يَنبغي أن يعزمَ في نفسِه أنه لو مرَّ أحدٌ من أبنائه الآخرين بالظرفِ نفسِه أن يعطيَه مثلَ ما أعطاه.

 

ما هي الحالات التي يجوز فيها ردُّ الهدية؟!

• إذا كانت الهديةُ من مالٍ حرام أو فيه شبهة.

• إذا كانت يُراد بها الرِّشوة.

• إذا كان موظفًا، ولولا وظيفته ما أُهدِي إليه شيء.

• إن كانت من كافرٍ أو فاسقٍ أو فاجر، وأراد أن يُبقي له منَّةً عليك، فلا تقبلْها.

 

وعمومًا، الهديةُ شيءٌ جميل، يوثِّق الصِّلاتِ، ويَزيدُ المودَّات، وكما قيل: الهديةُ تُذهبُ وغرَ الصَّدر، فاقبلِ الهدية، وأثنِ عليها، واحتفظْ بآدابها، تغنمْ وتَسْلم - إن شاء الله تعالى.

 

الوسيلة السابعة والثلاثون: الدعوة إلى الله:

قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلمٌ: ((مَن دعا إلى هدًى، كان له من الأجرِ مثل أُجورِ من تبعَه، لا ينقص ذلك من أجورِهم شيئًا))، فلك أن تتصوَّرَ - أخي الحبيب - كم من الحسناتِ تُسجَّل في صحيفتِك وأنت تدعو إلى الله، حتَّى ولو لم يهتدِ على يديك أحد، فيكفي أنك أعذرتَ إلى ربِّك، وقمتَ بالواجبِ عليك، فاجتهد في ذلك، وتحرَّك بهذا الدِّين، فإنَّ الحركةَ حياة، فأحْيِ الدِّينَ في نفسِك ومن حولك؛ يُحْيِك الله دائمًا في رضاه.

 

إنَّ طريقَ الدعوة طريقٌ رُسِمَت في السَّماء أعلامُه، وزكَتْ نفوسُ روادِه، ميدانُه في الأرض، وغايتُه في السَّماء، أئمته اصطفاهم الله؛ فكانوا خيرَ البشر، ونالوا من الذِّكرِ والأجر، وأسبغَ الله عليهم سبيلَ الهداية، فهم بين الدعوةِ والبلاء يتلذَّذون بالدُّعاء، أعلمُ النَّاسِ بالحقِّ، وأحرصُهم على هداية الخلق، كلما عظُمَ الخطب، لم يشغلْهم إلا مرضاة الرَّب، أسعدهم الله في الدُّنيا، وبشَّرهم بخيراتِ الآخرة، فأُجورُهم مُضاعَفة، وقرباتُهم لا تنقطع، آثارُ دعوتِهم في النَّاسِ أعمالٌ صالحة تُرفع إليهم بُكرةً وعشيًّا، فلِلَّه كم منَّ الله عليهم بأعظمِ منَّة، فرفعَ درجاتِهم بأعمالٍ لا تنقطع، ووفقهم إلى سبيلِ الدعوة، فحازوا أجورًا لا تسعُها أعمارُهم القصيرة.

 

• الأمر بالمعروفِ والنهي عن المنكر: خاصة ما ظهر منه، بحسبِ القواعد الشرعيَّة؛ من العلم، والبدء بالرِّفق ما أمكنَ، والصبر، واحتمالِ الأذى، ومراعاة المصلحة والمفسدة بالضوابط الشرعية، ومراعاةِ القدرة والاستطاعة، وهذا من الواجباتِ التي غابتْ بين أبناء تلك الأمة الميمونة؛ قال -تعالى-: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 78 - 79].

 

وقال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلمٌ وأحمد والترمذيُّ وابن ماجه: ((من رأى منكم منكرًا، فليغيِّرْه بيدِه، فإن لم يستطع فبلسانِه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان))، وقال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلمٌ وأحمدُ: ((ما من نبيٍّ بعثه الله في أمَّةٍ قبلي إلا كان له من أمتِه حواريُّون وأصحاب، يأخذونَ بسُنَّتِه، ويقتدون بأمرِه، ثم إنَّها تُخلف من بعدهم خُلوفٌ، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤمَرون، فمن جاهدَهم بيدِه فهو مؤمِن، ومن جاهدهم بقلبِه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانِه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمانِ حبَّة خردل)).

 

وقال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أحمد والترمذيُّ وحسَّنه الألباني: ((والذي نفسي بيدِه، لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكرِ، أو ليوشِكَنَّ الله أن يبعثَ عليكم عقابًا منه، ثم تدْعونه فلا يُستجاب لكم)).

 

ولكن ينبغي مراعاةُ الحكمةِ في ذلك، ومعرفة ضوابط الأمرِ والنَّهي؛ حتى لا تترتب أمورٌ ومفاسدُ أعظم، وأنصحُكَ بدراسةِ بحث الدكتور/ ياسر برهامي: "فقه الأمر بالمعروف"؛ فإنه جيدٌ في هذا الباب.

 

• التعاون على البرِّ والتقوى: قال -تعالى-: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2]، فهذه الآية اشتملَتْ على جميعِ مصالح العباد في معاشِهم ومعادهم، فيما بينهم، وفيما بينهم وبين ربهم؛ فإنَّ كلَّ عبد لا ينفكُّ عن هاتين الحالتين، وهذين الواجبين: واجب بينه وبين الله، وواجب بينه وبين الخلق؛ فأمَّا ما بينه وبين الخلق من المعاشرةِ والمعاونة والصحبة، فالواجبُ عليه فيها أنَّ اجتماعَه بهم وصحبته لهم تعاونٌ على مرضاةِ الله وطاعته، التي هي غايةُ سعادةِ العبد وفلاحه، ولا سعادةَ له إلا بها؛ وهي البرُّ والتقوى اللذان هما جماعُ الدِّين كلِّه، وإذا أُفرِد كلُّ واحد من الاسمين دخل في مسمَّى الآخر، إما تضمُّنًا وإمَّا لزومًا، ودخوله فيه تضمنًا أظهر؛ لأنَّ البِرَّ جزءُ مسمَّى التقوى، وكذلك التقوى جزء مسمى البِر، وكون أحدِهما لا يدخلُ في الآخر عند الاقترانِ لا يدلُّ على أنه لا يدخلُ عند انفرادِ الآخر، ونظيرُ هذا لفظُ الإيمانِ والإسلام، والإيمان والعمل الصَّالح، والفقير والمسكين، والفسوق والعصيان، والمنكر والفاحشة، ونظائرُه كثيرة.

 

وهذه قاعدةٌ جليلة، مَن أحاطَ بها، زالتْ عنه إشكالاتٌ كثيرة أشكلَتْ على كثيرٍ من النَّاس، ولأذكر من هذا مثالاً واحدًا يُستدَلُّ به على غيرِه؛ وهو البر والتقوى، فإنَّ حقيقةَ البر: هو الكمالُ المطلوب من الشيء والمنافع التي فيه والخير، كما يدلُّ عليه اشتقاق هذه اللفظة وتصاريفها في الكلام، ومنه البُرُّ - بالضم - لمنافعِه وخيره بالإضافة إلى سائر الحبوب؛ ومنه رجل بارٌّ، وبَرّ، وكرام برَرَة، والأبرار، فالبِرُّ: كلمة جامعة لجميعِ أنواع الخير والكمال المطلوب من العبد، وفي مقابلته الإثم، وفي حديث النوَّاس بن سمعان أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: ((جئتَ تسأل عن البرِّ والإثم...))، فالإثم: كلمةٌ جامعة للشُّرورِ والعيوب التي يُذَم العبد عليها.

 

فيدخل في مسمى البر: الإيمانُ وأجزاؤه الظاهرة والباطنة، ولا ريبَ أنَّ التقوى جزءُ هذا المعنى، وكثيرًا ما يعبَّر عن بِرِّ القلب؛ وهو: وجود طعم الإيمان فيه وحلاوته، وما يلزم ذلك من طمأنينتِه وسلامته، وانشراحه وقوَّتِه، وفرحه بالإيمان؛ فإنَّ للإيمانِ فرحةً وحلاوة ولذَّةً في القلب، فمن لم يجدها، فهو فاقد الإيمان أو ناقصُه، وهو من القسمِ الذين قال الله -تعالى- فيهم: ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ [الحجرات: 14]؛ فهؤلاء - على أصحِّ القولين - مسلمون غير منافقين، وليسوا بمؤمنين؛ إذْ لم يدخلِ الإيمانُ في قلوبِهم، فيباشرها حقيقة.

 

وقد جمع الله -تعالى- خصال البر في قوله: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].

 

فأخبر -تعالى- أنَّ البرَّ هو الإيمانُ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهذه - مع القضاءِ والقدر - هي أصولُ الإيمان التي لا قوامَ للإيمان إلاَّ بها، وأنه الشرائع الظاهرة من إقامةِ الصلاة وإيتاء الزكاة والنفقات الواجبة، وأنه الأعمالُ القلبية التي هي حقائقه من الصبر والوفاء بالعهد، فتناولَتْ هذه الخصالُ جميعَ أقسام الدِّينِ؛ حقائقه، وشرائعه، والأعمال المتعلِّقة بالجوارحِ والقلب وأصول الإيمان.

 

ثم أخبر -تعالى- عن كلِّ هذا أنه خصالُ التقوى بعينها، فقال -تعالى-: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾.

 

وأمَّا التقوى، فحقيقتُها العملُ بطاعةِ الله إيمانًا واحتسابًا، أمرًا ونهيًا، فيفعل ما أمر اللهُ به إيمانًا بالأمر وتصديقًا بوعدِه، ويترك ما نهى الله عنه إيمانًا بالنهي وخوفًا من وعيدِه؛ كما قال طلق بن حبيب: "إذا وقعتِ الفتنةُ فأطفئوها بالتقوى"، قالوا: وما التقوى؟ قال: "أن تعملَ بطاعةِ الله، على نورٍ من الله، ترجو ثوابَ الله، وأن تتركَ معصيةَ الله، على نورٍ من الله، تخاف عقابَ الله"، وهذا أحسن ما قيل في حدِّ التقوى؛ فإنَّ كل عمل لا بد له من مبدأ وغاية، فلا يكون العملُ طاعةً وقربة حتى يكونَ مصدرُه عن الإيمان، فيكون الباعث عليه هو الإيمانَ المَحْض، لا العادة ولا الهوى ولا طلب المحمدة والجاه وغير ذلك، بل لا بدَّ أن يكونَ مبدؤه محضَ الإيمان، وغايته ثواب الله وابتغاء مرضاته، وهو الاحتساب؛ ولهذا كثيرًا ما يُقرن بين هذين الأصلين، في مثلِ قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا))، و: ((من قام ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا)) ونظائره، فقوله: "على نورٍ من الله" إشارةٌ إلى الأصلِ الأول؛ وهو الإيمان، الذي هو مصدرُ العملِ والسببُ الباعث عليه، وقوله: "ترجو ثواب الله" إشارةٌ إلى الأصلِ الثاني، وهو الاحتساب؛ وهو الغاية التي لأجلِها يوقع العمل ولها يقصد به، ولا ريبَ أنَّ هذا اسم لجميعِ أصول الإيمان وفروعه، وأنَّ البر داخل في هذا المسمى.

 

وأمَّا عند اقترانِ أحدهما بالآخر؛ كقولِه -تعالى-: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 2]، فالفرقُ بينهما فرقٌ بين السببِ المقصود لغيرِه والغاية المقصودة لِنَفسِها؛ فإنَّ البر لذاتِه؛ إذْ هو كمالُ العبدِ وصلاحه الذي لا صلاحَ له بدونه كما تقدَّم، وأمَّا التقوى، فهي الطريقُ الموصل إلى البر والوسيلة إليه، ولفظها يدلُّ على هذا؛ فإنها فُعلى، من وقى يقي، وكان أصلها: وقوى، فقلبوا الواوَ تاءً؛ كما قالوا: تُراث من الوراثة، وتُجاه من الوجه، وتُخمة من الوخمة، ونظائرها، فلفظها دالٌّ على أنَّها من الوقايةِ؛ فإنَّ المتَّقي قد جعل بينه وبين النَّارِ وقاية، والوقاية من بابِ دفع الضر، فالتقوى والبر كالعافيةِ والصحة.

 

وهذا بابٌ شريف يُنتفع به انتفاعًا عظيمًا في فهمِ ألفاظِ القرآن ودلالته، ومعرفة حدودِ ما أنزل الله على رسولِه -صلى الله عليه وسلم- فإنه هو العلم النَّافع، وقد ذمَّ الله -تعالى- في كتابِه مَن ليس له علم بحدودِ ما أنزل الله على رسولِه؛ فإنَّ عدم العلم بذلك مستلزم مفسدتين عظيمتين:

الأولى: أن يُدخل في مسمَّى اللفظِ ما ليس منه، فيحكم له بحكم المراد من اللَّفظ، فيساوي بين ما فرَّق الله بينهما.

والثانية: أن يُخرج من مسمَّى اللفظ بعضَ أفرادِه الداخلة تحته، فيسلب عنه حكمَه، فيفرق بين ما جمعَ الله بينهما.

 

والذَّكي الفطِن يتفطَّنُ لأفرادِ هذه القاعدة وأمثالها، فيَرى أنَّ كثيرًا من الاختلافِ أو أكثره إنَّما ينشأ من هذا الوضع، وتفصيل هذا لا يَفِي به كتابٌ ضخم، فالله المستعان.

 

ومن هذا: لفظ "الخمر"؛ فإنَّه اسمٌ شامل لكلِّ مُسْكِر، فلا يجوز إخراجُ بعضِ المُسْكرات منه، ويُنفى عنها حُكْمه، وكذلك لفظ "الميسر"، وإخراج بعضِ أنواع القمار منه، وكذلك لفظ "النِّكاح" وإدخال ما ليس بنكاحٍ في مسمَّاه، وكذلك لفظ "الرِّبا" وإخراج بعضِ أنواعه منه، وإدخال ما ليس برِبًا فيه، وكذلك لفظ "الظلم" و"العدل" و"المعروف" و"المنكر"، ونظائره أكثر من أن تُحصى.

 

والمقصود من اجتماعِ النَّاس وتَعاشُرِهم هو التَّعاونُ على البِرِّ والتَّقْوى، فيُعِين كلُّ واحد صاحبَه على ذلك علمًا وعملاً؛ فإنَّ العبدَ وحده لا يستقلُّ بعلم ذلك، ولا بالقدرةِ عليه، فاقتضت حكمةُ الربِّ - سبحانه وتعالى - أن جعلَ النوعَ الإنساني قائمًا بعضه ببعضه، معينًا بعضه لبعضه.

 

ثم قال -تعالى-: ﴿ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2]؛ والإثم والعدوان في جانبِ النَّهي نظير البِرِّ والتقوى في جانبِ الأمر، والفرقُ بين الإثم والعدوان كالفرقِ بين مُحَرَّم الجنس ومحرَّم القَدْر؛ فالإثم ما كان حرامًا لجنسِه، والعدوانُ ما حُرِّم لزيادةٍ في قدره، وتعدَّى ما أباح الله؛ فالزِّنا والخمر والسرقة ونحوها إثمٌ، ونكاحُ الخامسةِ، واستيفاء المجنيِّ عليه أكثرَ من حقِّه ونحوه عدوانٌ، فالعدوان هو تعدِّي حدود الله التي قال عنها: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 229]، وقال في موضعٍ آخر: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ﴾ [البقرة: 187]، فنهى عن تعدِّيها في آية، وعن قربانِها في آية؛ وهذا لأنَّ حدودَه - سبحانه - هي النهايات الفاصلة بين الحلالِ والحرام، ونهاية الشيء تارةً تدخل فيه، فتكون منه، وتارة لا تكون داخلةً فيه فيَكون لها حُكْم المقابلة، فباعتبارِ الأول نَهى عن تعدِّيها، وباعتبار الثاني نهى عن قربانِها.

 

فهذا حكمُ العبدِ فيما بينه وبين النَّاس، وهو أن تكونَ مخالطتُه لهم تعاونًا على البرِّ والتقوى علمًا وعملاً.

 

وأمَّا حاله فيما بينه وبين الله -تعالى- فهو إيثارُ طاعتِه، وتجنُّب معصيته، وهو قوله -تعالى-: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [المائدة: 2]؛ فأرشدَت الآيةُ إلى ذِكْرِ واجب العبد بينه وبين الخلق، وواجبه بينه وبين الحقِّ، ولا يتمُّ له أداء الواجب الأول إلاَّ بِعَزْل نفسِه من الوسط، والقيام بذلك لمحضِ النصيحة والإحسان ورعاية الأمر، ولا يتمُّ له أداء الواجب الثَّاني إلا بعزلِ الخلق من البين، والقيام له بالله إخلاصًا ومحبة وعبودية.

 

فينبغي التفطُّنُ لهذه الدقيقةِ التي كلُّ خللٍ يدخل على العبدِ في أداء هذين الأمرين الواجبين إنَّما هو عدم مراعاتِها علمًا وعملاً، والله المستعان.

 

التعاون على الهجرة إلى الله ورسوله:

ومن أعظمِ ما يقع فيه التعاونُ على البِرِّ والتقوى: التعاونُ على الهجرةِ إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا فصَل عِير السَّفر، واستوطن المسافرُ دارَ الغربة، وحيل بينه وبين مألوفاتِه وعوائده المتعلِّقة بالوطن ولوازمه، أحدث له ذلك نظرًا، فأجال فكرَه في أهمِّ ما يقطع به منازلَ السفر إلى الله، ويُنفق فيه بقيةَ عمرِه، فأرشده مَن بيدِه الرشد إلى أنَّ أهمَّ شيء يقصده إنَّما هو الهجرةُ إلى الله ورسولِه -صلى الله عليه وسلم- فإنَّها فرض عينٍ على كلِّ أحد في كلِّ وقت، ولا انفكاكَ لأحدٍ عن وجوبِها، وهي مطلوبُ الله -تعالى- ومراده من العباد؛ إذِ الهجرةُ هجرتان: هجرةٌ بالجسم من بلدٍ إلى بلد، وهذه أحكامُها معلومة، وليس المراد الكلامَ فيها، والهجرة الثانية: الهجرةُ بالقلبِ إلى اللهِ ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وهذه هي المقصودة هنا؛ وهذه الهجرةُ هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصلُ، وهجرة الجسدِ تابعة لها؛ لأنَّ مَن هاجرَ بالبدن لا بدَّ أنه هاجرَ بقلبِه أولاً.

 

وهذه الهجرةُ تتضمَّنُ "من" و"إلى"، فيهاجر بقلبِه من محبةِ غير الله إلى محبتِه، ومن عبوديةِ غيرِه إلى عبوديته، ومن خوفِ غيره ورجائه والتوكُّل عليه إلى خوفِ الله ورجائه والتوكل عليه، ومِن دعاءِ غيرِه وسؤاله والخضوع له والذلِّ والاستكانة له، إلى دعائه وسؤالِه والخضوع له والذل له والاستِكانة له، وهذا بعينه معنى الفرارِ إليه؛ قال -تعالى-: ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ﴾ [الذاريات: 50]، والتوحيدُ المطلوب من العبدِ هو الفرار من الله إليه.

 

وتحت "من" و"إلى" في هذا سرٌّ عظيم من أسرارِ التوحيد؛ فإنَّ الفرارَ إليه - سبحانه - يتضمَّنُ إفراده بالطَّلب والعبودية ولوازمها، فهو متضمِّن لتوحيدِ الألوهية التي اتفقت عليها دعوةُ الرسلِ - صلوات الله وسلامه عليهم.

 

وأمَّا الفرار منه إليه، فهو متضمِّن لتوحيدِ الربوبية وإثبات القدر، وأن كل ما في الكونِ من المكروه والمحذور الذي يفرُّ منه العبد فإنَّما أوجبته مشيئةُ الله وحده، فإنَّه ما شاء كان ووجب وجوده بمشيئتِه، وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجودُه لعدمِ مشيئته، فإذا فرَّ العبدُ إلى الله فإنَّما يفر من شيء إلى شيء وُجد بمشيئةِ الله وقدره، فهو في الحقيقةِ فارٌّ من الله -تعالى- إليه - سبحانه.

 

ومَن تصوَّر هذا حقَّ تصوُّرِه، فَهِمَ معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((وأعوذ بك منك))، وقوله: ((لا ملجأ ولا مَنْجى منك إلاَّ إليك))، فإنه ليس في الوجودِ شيء يُفَرُّ منه ويُستعاذ منه ويُلتجأ منه إلا هو من الله خَلْقًا وإبداعًا، فالفارُّ والمستعيذُ فارٌّ مما أوجدَه قدرُ الله ومشيئته وخلقه إلى ما تقتضيه رحمته وبِرُّه ولطفه وإحسانه، ففي الحقيقةِ هو هاربٌ من الله إليه، ومستعيذٌ بالله منه، وتصوُّر هذين الأمرين يُوجب للعبدِ انقطاع تعلق قلبِه عن غيره بالكلية خوفًا ورجاءً ومحبة؛ فإنَّه إذا علم أنَّ الذي يفرُّ منه ويستعيذ منه إنما هو بمشيئةِ الله وقدرته وخلقه، لم يبق في قلبِه خوفٌ من غير خالقِه وموجده، فتضمَّن ذلك إفرادَ الله وحده بالخوفِ والحبِّ والرجاء، ولو كان فرارُه مما لم يكن بمشيئةِ الله وقُدرتِه، لكان ذلك موجبًا لخوفِه منه، مثل أن يفرَّ من مخلوقٍ إلى مخلوق آخَر أقدر منه، فإنَّه في حالِ فراره من الأولِ خائفٌ منه حَذِرٌ، ألاَّ يكون الثاني يعيذه منه، بخلافِ ما إذا كان الذي يفر منه هو الذي قضى وقدَّر وشاء ما يفرُّ منه، فإنَّه لا يبقى في القلبِ الْتفاتٌ إلى غيرِه.

 

فتفطَّن إلى هذا السرِّ العجيب في قوله: ((وأعوذ بك منك))، و((لا ملجأ ولا منجى منك إلاَّ إليك))؛ فإنَّ النَّاس قد ذكَروا في هذا أقوالاً، وقلَّ مَن تعرَّضَ منهم لهذه النكتةِ، التي هي لبُّ الكلام ومقصوده، وبالله التوفيق.

 

فتأمَّلْ كيف عاد الأمرُ كلُّه إلى الفرارِ من الله إليه، وهو معنى الهجرةِ إلى الله -تعالى- ولهذا قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: ((المهاجرُ من هجر ما نهى الله عنه))؛ ولهذا يقرنُ الله - سبحانه - بين الإيمانِ والهجرة في غيرِ موضع؛ لتلازمهما واقتضاء أحدهما للآخر.

 

والمقصود: أنَّ الهجرةَ إلى الله تتضمَّنُ هُجْران ما يكرهه، وإتيانَ ما يحبُّه ويرضاه، وأصلُها الحب والبغض؛ فإنَّ المهاجرَ من شيء إلى شيء لا بد أن يكونَ ما هاجر إليه أحبَّ إليه مما هاجر منه، فيُؤثِر أحَبَّ الأمرين إليه على الآخر، وإذا كان نفس العبد وهواه وشيطانُه إنما يَدْعونه إلى خلافِ ما يحبُّه ويرضاه، وقد بُلي بهؤلاء الثلاث، فلا يزالون يدعونه إلى غيرِ مرضاة ربِّه، وداعي الإيمان يدعوه إلى مرضاةِ ربه، فعليه في كلِّ وقت أن يهاجرَ إلى الله -تعالى- ولا ينفكّ في هجرتِه إلى الممات.

 

وهذه الهجرةُ تَقْوى وتَضْعُف بحسب داعي المَحبَّة في قلبِ العبد؛ فإنْ كان الدَّاعي أقوى، كانت هذه الهجرةُ أقوى وأتَمَّ وأكمل، وإذا ضعف الدَّاعي، ضعفت الهجرةُ حتَّى لا يكاد يشعرُ بها عِلمًا، ولا يتحرَّك لها إرادة.

 

والذي يُقضَى منه العجَبُ: أنَّ المرء يوسع الكلامَ، ويفرِّع المسائل في الهجرةِ من دارِ الكفر إلى دار الإسلام، وفي الهجرةِ التي انقطعَتْ بالفتح، وهذه هجرةٌ عارضة، رُبَّما لا تتعلَّقُ به في العمر أصلاً، وأمَّا هذه الهجرة التي هي واجبةٌ على مدى الأنفاس، فإنه لا يُحَصِّل فيها علمًا ولا إرادة، وما ذاك إلا للإعراضِ عمَّا خُلق له، والاشتغال بما لا يُنَجِّيه وحده عمَّا لا ينجيه غيره، وهذا حالُ من عَشَتْ بصيرتُه، وضعفَتْ معرفته بمراتبِ العلوم والأعمال، والله المستعان، وبالله التوفيق.

 

وأمَّا الهجرةُ إلى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فعلمٌ لم يَبْق منه سوى اسمه، ومنهج لم تترك بُنيات الطَّريقِ سوى رسمه، ومَحجَّة سفَت عليها السَّوافي، فطمسَتْ رسومها، وغارت عليها الأعادي فغورت مناهلها وعيونها، فسالكُها غريب بين العباد، فريدٌ بين كلِّ حي ونادٍ، بعيدٌ على قربِ المكان، وحيدٌ على كثرةِ الجيران، مستوحش مما به يَستأنسون، مستأنس مما به يستوحشون - الحجَّة والدليل - مقيم إذا ظعنوا، ظاعنٌ إذا قطنوا، منفردٌ في طريقِ طلبه، لا يقَرُّ قرارُه حتى يظفرَ بأربه، فهو الكائنُ معهم بجسدِه، البائن منهم بمقصدِه، نامت في طلبِ الهدى أعينُهم وما ليل مطيتِه بنائم، وقعدوا عن الهجرةِ النبوية وهو في طلبِها مشمر قائم، يعيبونه بمخالفةِ آرائهم، ويُزرون عليه إزراءه على جهالاتِهم وأهوائهم، قد رجموا فيه الظُّنون، وأحدقوا فيه العيون، وتربصوا به ريبَ المنون؛ ﴿ فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ﴾ [التوبة: 52]، ﴿ قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 112].

 

والمقصود: أنَّ هذه الهجرةَ النبوية شأنها شديد، وطريقها على غير المشتاقِ بعيد، ولعمر الله، ما هي إلا نورٌ يتلألأ، ولكن أنت ظلامُه، وبدر أضاء مشارقَ الأرضِ ومغاربها، ولكن أنت غيمُه وقتامه، ومنهل عذب صافٍ وأنت كدرُه، ومبتدأ لخير عظيم، ولكن ليس عندك خبره.

 

فاسمع الآن شأن هذه الهجرة والدلالة عليها، وحاسب ما بينك وبين الله، هل أنت من الهاجرين لها أو المُهاجرين إليها؟!

 

فحَدُّ هذه الهجرة: سفر النَّفس في كلِّ مسألة من مسائل الإيمان، ومنزلٍ من منازل القلوب، وحادثة من حوادث الأحكام، إلى معدن الهدى، ومنبع النور المتلقَّى من فم الصادق المصدوق الذي ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3 - 4]، فكلُّ مسألةٍ طلعَت عليها شمس رسالته، وإلاَّ فاقذف بها في بحر الظلمات، وكل شاهد عدَّله هذا المُزكِّي، وإلا فعُدَّه من أهل الريب والتهمات، فهذا حدُّ هذه الهجرة...

 

فما للمقيم في مدينةِ طبْعِه وعوائده، القاطن في مَرْباه ومولدِه، القائل: إنا على طريقة آبائنا سالكون، وإنا بِحَبلهم متمسِّكون، وإنا على آثارهم مقتدون، وما لهذه الهجرة التي كلَّت عليهم، واستند في طريقة نجاحه وفلاحه إليهم، معتذِرًا بأن رأيهم خيرٌ من رأي النبي لنفسه، وأنَّ ظنونهم وآراءهم أوثقُ من ظنِّه وحدْسِه، ولو فتَّشتَ عن مصدرِ مقصودِ هذه الكلمة لوجدتَها صادرةً عن الإخلاد إلى أرض البطالة، متولِّدةً بين الكسل وزوجه الملالة...

 

والمقصود: أنَّ هذه الهجرة فرضٌ على كلِّ مسلم، وهي مقتضى شهادة أنَّ محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما أنَّ الهجرة الأولى مقتضى شهادة أنْ لا إله إلا الله، وعن هاتين الهجرتين يُسأل كلُّ عبدٍ يوم القيامة، وفي البرزخ، ويُطالَب بها في الدُّنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وهاتان الكلمتان هما مضمون الشهادتين.

 

وقد قال -تعالى-: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]، فأقسم -تعالى- بأجَلٍ مُقْسَم به - وهو نفسه - عزَّ وجلَّ - على أنَّه لا يثبت لهم الإيمان، ولا يكونون من أهله، حتَّى يُحكِّموا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جميع موارد النِّزاع، وهو كلُّ ما شجَر بينهم من مسائل النِّزاع في جميع أبواب الدين؛ فإنَّ لفظة "ما" مِن صيغ العموم؛ فإنَّها موصولةٌ تقتضي نفي الإيمان، أو لم يوجد تحكيمه في جميع ما شجر بينهم، ولم يَقْتصر على هذا حتَّى ضمَّ إليه انشراحَ صدورهم بِحُكمه، حيث لا يجدون في أنفسهم حرجًا - وهو الضيق والحَصْر - من حُكْمه، بل يقبلوا حكمه بالانشراح، ويقابلوه بالتَّسليم؛ لا أنَّهم يأخذونه على إغماض، ويشربونه على قذًى؛ فإنَّ هذا مُنَافٍ للإيمان، بل لا بدَّ أن يكون أخْذُه بقبول ورِضًا وانشراح صدر.

 

ومتى أراد العبدُ أن يَعلم هذا، فلْيَنظر في حاله، ويُطالع قلبه عند ورودِ حكمه -صلى الله عليه وسلم- على خلاف هواه وغرَضِه، أو على خلاف ما قلَّد فيه أسلافَه من المسائل الكبار وما دُونَها: ﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾ [القيامة: 14 - 15].

 

فسبحان الله! كم من حزازةٍ في نفوس كثير من النَّاس من كثير من النُّصوص، وبِوُدِّهم أن لو لم تَرِدْ! وكم من حرارةٍ في أكبادهم منها! وكم مِن شجًى في حلوقهم منها ومن موردها!

سَتَبْدُو لَهُمْ تِلْكَ السَّرَائِرُ بِالَّذِي

يَسُوءُ وَيُخْزِي يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ

 

ثم لم يقتصر - سبحانه - على ذلك، حتى ضمَّ إليه قوله -تعالى-: ﴿ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]، فذَكَر الفعل مؤكَّدًا بِمَصدره القائم مقام ذِكْره مرَّتين، وهو التسليم والخضوع له، والانقياد لما حكم به طوعًا ورِضًا وتسليمًا، لا قهرًا ومصابرة كما يُسلِّم المقهور لمن قهره كرهًا، بل تسليم عبدٍ مطيع لمولاه وسيِّده الذي هو أحبُّ شيء إليه، يعلم أنَّ سعادته وفلاَحَه في تسليمه إليه، ويعلم بأنه أولى به من نفسه، وأبرُّ به منها، وأقدر على تخليصها، فمتى علم العبد هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستسلم له وسلم إليه، انقادت له كلُّ علَّةٍ في قلبه، ورأى أنْ لا سعادة له إلاَّ بهذا التسليم والانقياد.

 

وليس هذا مما يُحصَّلُ معناه بالعبارة، بل هو أمر انشقَّ القلب واستقرَّ في سويدائه لا تفي العبارة بمعناه، ولا مطمع في حصوله بالدعوى والأماني، وفرقٌ بين علم الحب وحال الحب؛ فكثيرًا ما يشتبه على العبد علمُ الشيء بحاله ووجوده، وفرقٌ بين المريض العارف بالصحَّة والاعتدال، وهو مثخن بالمرض، وبين الصحيح السليم وإن لم يحسن وصف الصحة والعبارة عنها، وكذلك فرق بين وصف الخوف والعلم به، وبين حاله ووجوده...

 

وتأمَّل تأكيدَه - سبحانه - لهذا المعنى المذكور في الآية بوجوهٍ عديدة من التأكيد:

أوَّلُها: تصديرها بـ(لا) النافية، وليست زائدةً كما يظنُّ مَن يظن ذلك، وإنما دخولها لسرٍّ في القسَم، وهو الإيذان بتضمُّن المُقْسَم عليه للنفي، وهو قوله: ﴿ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [النساء: 65]، وهذا منهجٌ معروف في كلام العرب إذا أقسموا على شيءٍ منفيٍّ، صَدَّروا جملة القسم بأداة نفيٍ، مثل هذه الآية وغيرها.

وثانيها: تأكيده بنفس القسَم.

وثالثها: تأكيده بالمُقسَم به؛ وهو إقسامه بنفسه لا بشيءٍ من مخلوقاته، وهو - سبحانه - يقسم بنفسه تارةً، وبمخلوقاته تارة أخرى.

ورابعها: تأكيده بانتفاء الحرَج ووجود التسليم.

وخامسها: تأكيد الفعل بالمصدر، وما هذا التأكيد إلا لشدَّة الحاجة إلى هذا الأمر العظيم، وإنه مما يُعتنَى به ويُقرَّر في نفوس العباد بما هو أبلغ أنواع التقرير.

 

وقال -تعالى-: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 6]، وهو دليلٌ على أنَّ من لم يكن الرسول أولى به من نفسه، فليس من المؤمنين، وهذه الأولوية تتضمن أمورًا:

منها: أن يكون أحبَّ إلى العبد من نفسه؛ لأنَّ الأولوية أصلُها الحبُّ، ونَفْس العبدِ أحبُّ إليه من غيره، ومع هذا يجب أن يكون الرَّسولُ أولى به منها، وأحبَّ إليه منها؛ فبذلك يحصل له اسم الإيمان، ويَلْزَم من هذه الأولوية والمحبَّة كمالُ الانقياد والطاعة والرِّضا والتسليم، وسائر لوازم المحبة؛ من الرضا بحكمه، والتسليم لأمره، وإيثاره على ما سواه.

 

ومنها: ألاَّ يكون للعبد حكمٌ على نفسه أصلاً، بل الحكم على نفسه للرَّسول -صلى الله عليه وسلم- يحكم عليها أعظم من حكم السيِّد على عبده، أو الوالد على ولَدِه، فليس له في نفسه تصرُّفٌ قطُّ إلا ما تصرَّف فيه الرسول الذي هو أولى به منها.

 

فيا عجبًا كيف تحصل هذه الأولويَّة لعبدٍ قد عزل ما جاء به الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- عن منصب التَّحكيم، ورَضِيَ بحكم غيره واطمأنَّ إليه أعظمَ من اطمئنانه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وزعم أنَّ الهُدى لا يُتلقَّى من مِشْكاته، وإنَّما يُتلقَّى من دلالة العقول، وأن الذي جاء به لا يفيد اليقين، إلى غير ذلك من الأقوال التي تتضمَّن الإعراض عنه وعمَّا جاء به، والحَوالة في العلم النافع إلى غيره؟! ذلك هو الضلال البعيد، ولا سبيل إلى ثبوت هذه الأولوية إلا بعزل كلِّ ما سواه، وتولِّيه في كل شيء، وعرض ما قاله كلُّ أحد سواه على ما جاء به، فإن شهد له بالصحَّة قبله، وإن شهد له بالبطلان ردَّه، وإن لم تتبين شهادته لا بصحة ولا ببطلان، جعله بِمَنزلة أحاديث أهل الكتاب، ووقفه حتى يتبيَّن أيُّ الأمرين أولى به.

 

فمن سلك هذه الطريقَ، استقام له سفَرُ الهجرة، واستقام له عِلمُه وعمَلُه، وأقبلَتْ وجوه الحقِّ إليه من كل جهة، ومن العجب أن يَدَّعي حصولَ هذه الأولوية والمحبة التامة مَن كان سعْيُه واجتهاده ونصَبُه في الاشتغال بأقوال غيره وتقريرها، والغضب والمحبَّة لها، والرضا بها والتحاكم إليها، وعَرْض ما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- عليها، فإن وافقها قَبِلَه، وإن خالفها التمسَ وجوه الحِيَل، وبالغ في ردِّه ليًّا وإعراضًا، وقد قال -تعالى-: ﴿ وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 135].

 

الوسيلة الثامنة والثلاثون: التودُّد إلى الذين لا يشهدون الصلاة إلا في رمضان:

فوجود المتخلِّفين عن صلاة الجماعة في غير رمضان فرصةٌ يجب اغتنامها؛ لأنَّهم يُحافظون عليها في رمضان فقط، وهذا أمر محزنٌ وخطير، فيجب اغتنام فرصة وجود هؤلاء، والذين لا نراهم إلا في رمضان؛ وذلك بتنبيههم إلى خطورة ذلك العمل، وفداحة أمر التهاون بالصَّلاة.

 

وذلك بعد كسب قلوبهم؛ بِحُسن الخلق معهم، والسَّلام عليهم، وأيضًا التودُّد لهم بالزيارة، وإهدائهم بعض الهدايا؛ وذلك لإبعاد الوحشة والنفرة التي يُوقِعُها الشيطان في القلوب.

 

الوسيلة التاسعة والثلاثون: تذكير الغافلين:

لماذا لا نستغِلُّ تصفيد الشياطين، وفتح أبواب الجنان، وإغلاق أبواب النِّيران، وانكسار النفوس، ورقَّة القلوب في هذا الشهر؟! أين الجلسات الانفراديَّة بالزملاء الغافلين، والتحدُّث معهم، ونُصْحُهم لاستثمار شهر رمضان، وإهداؤهم الشريط، أو الكتاب، أو غير ذلك من الهدايا النافعة؛ فإنَّ النفوس مهيَّأة؟! و((رَغِمَ أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنفُ مَن أدرك رمضان ولم يُغفَر له))؛ كما روى الترمذي، وصحَّحه الألباني.

 

• الانتباه إلى تعاقب الليل والنهار، والانتباه إلى مرور الوقت، وتقصير الأمل، والحذر من الكسل، قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الحاكم والبيهقيُّ وصححه الألباني: ((اغتَنِمْ خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغَك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)).

 

وثبت في "صحيح البخاري" عن ابن عمر - وروي مرفوعًا -: ((إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصَّباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخُذْ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك))، وهذا يدلُّنا على أنسب ما يكون فيه الأمل: أن يعدَّ الإنسان يومه الذي هو فيه آخِرَ أيامه، وليلته التي هو فيها آخرَ لياليه، أمَّا ما دون ذلك، فالتزامه يؤدِّي إلى العجز وعدم إمكانية العمل في الحياة.

 

والنَّاس في طول الأمل بين إفراطٍ وتفريط؛ فمثال الإفراط قولُ القائلين: "لا ينبغي للمرء إذا خرج منه النَّفَس أن ينتظر أن يعود إليه"، كما هو مشتهرٌ عند المتصوِّفة وبعض العُبَّاد، فهذا وهْمٌ كبير؛ لأنَّ مَن كان حاله كذلك فسوف يدع العمل، ولن يتكسَّب في دنياه شيئًا، بل ستتعطَّل دنياه وأخراه لو صدَق، ومثال التفريط مَن لا ينتظر الموت أبدًا، وينفر ممن يُذكِّره به، وهذا الصنف هو الأغلب في هذه الأمَّة؛ ولذا كان طول الأمد من أخطر ما يخشاه عليها النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم.

 

الوسيلة الأربعون، والحادية، والثانية، والثالثة والأربعون: عيادةُ المريض، وتشييع الميت، وإبرار القسَم، وإجابة الدَّعوة:

ففي "الصحيحين" قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: ((حقُّ المسلم على المسلم خمس: رد السَّلام، وعيادة المَرْضى، واتِّباع الجنائز، وإجابة الدَّعوة، وتشميت العاطس))، وعيادة المريض فرضُ كفاية، وكذا تشييع الميت، وإبرار القسَم مستحبٌّ ما لم يكن في إبراره ضياعُ مصلحة أعظم، وإجابة الدَّعوة واجبة، ففرضُ عين على من دُعِي أن يجيب لِعُرس أو نحوه، وقال -صلى الله عليه وسلم- كما في "صحيح مسلم": ((من عاد مريضًا، لم يزَلْ في خُرْفَة الجنَّة حتى يرجع))، قيل: يا رسول الله، وما خُرفة الجنة؟ قال: ((جَناها))، والخرفة: هو ما يُختَرَف من النخل، وخرفة الجنة: ما يُجنى من ثمارها.

 

وفي "سنن الترمذي" و"ابن ماجه"، وحسَّنه الألباني قال -صلى الله عليه وسلم-: ((من عاد مريضًا أو زار أخًا له في الله، ناداه منادٍ أن طِبْتَ وطاب مَمْشاك، وتبوَّأت من الجنة منزلاً)).

 

وفي سنن أبي داود وابن ماجه - واللَّفظ له - و"أحمد"، وصحَّحه الألباني، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((من أتى أخاه المسلم عائدًا، مشى في خرافة الجنَّة حتى يجلس، فإذا جلس غمرَتْه الرَّحمة، فإن كان غدوة، صلَّى عليه سبعون ألف ملك حتَّى يمسي، وإن كان مساء، صلَّى عليه سبعون ألف ملك حتى يُصبح)).

 

وعن كعب بن مالكٍ أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من عاد مريضًا، خاض في الرحمة، فإذا جلس عنده، استنقع فيها)) قال المنذريُّ: إسناده حسن.

 

وقال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الترمذي: ((ما من مسلمٍ يعود مسلمًا مريضًا غدوة، إلاَّ صلَّى عليه سبعون ألف ملك حتى يُمْسي، وإن عاده عشيَّة، إلا صلَّى عليه سبعون ألف ملَك حتى يصبح، وكان له خريفٌ في الجنَّة)).

 

وأما عن إجابة الدعوة، فقد روى البخاريُّ ومسلمٌ والنسائي والترمذيُّ وأحمد عن البراء بن عازب، قال: "أمرَنا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِسَبع، ونهانا عن سبع: أمرنا باتِّباع الجنائز، وعيادة المرضى، وإجابة الدَّاعي، ونصر المظلوم، وإبرار القسَم، وردِّ السَّلام، وتشميت العاطس، ونهانا عن آنية الفِضَّة، وخاتم الذهب، والحرير، والدِّيباج، والقَسِّيِّ، والإستبرق"، وكل ذلك من حق المسلم على المسلم، والديباج هي الثياب المتَّخَذة من الإبريسم - نوع من الحرير - والقَسِّيُّ هي ثيابٌ من كتَّان مخلوط بحرير، يؤتى من مصر، نسبت إلى قرية على ساحل البحر قريبا من تِنِّيس.

 

آداب عيادة المريض:

المرض: ابتلاءٌ من الله -تعالى- للعبد، واختبارٌ له؛ أيَصْبر أم يَجْزع، والمؤمن الحقُّ هو الذي يصبر في الضرَّاء، ويشكر عند الرخاء، والمرض يكون تكفيرًا للذُّنوب والسيئات؛ ففي "صحيح البخاري" قال -صلى الله عليه وسلم-: ((ما يصيب المؤمنَ مِن وصَبٍ ولا نصَب، ولا همٍّ ولا حزَن، ولا أذًى ولا غم، حتَّى الشوكة يُشاكها إلاَّ كفَّر الله من خطاياه))، والابتلاء محبَّةٌ من الله -تعالى- ولذلك ابتلى خيرَ خلقه بالأمراض، وقد كانوا أشدَّ النَّاس بلاء؛ كما في "صحيح سنن الترمذي": ((إنَّ عِظَم الجزاء مع عظم البلاء؛ وإنَّ الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرِّضا، ومن سخط فله السُّخط)).

 

ومن الأدب عند عيادة المريض:

1- أن يُسارع بزيارة المريض فورَ عِلمه بذلك؛ خشيةَ عتاب الله له يوم القيامة؛ كما في "صحيح مسلم".

2- أن يدعو اللهَ له بالشِّفاء: ((أسأل الله العظيم ربَّ العرش العظيم أن يشفيك)) سبعَ مرات؛ فما من مسلم يعود مريضًا لم يحضره أجَلُه، فيدعو بذلك إلاَّ عوفي، كما في "صحيح سنن أبي داود".

3- اجلس بجوار المريض، وأظهر الشَّفقَة عليه، وانصحْه بالصبر والتحمُّل، وبَشِّره بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في "صحيح سنن أبي داود": ((إذا سبقَتْ للعبد من الله مَنْزلة لم يبلغها بعمَلِه، ابتلاه الله في جسده، أو في ماله، أو في ولده، ثم صبَّرَه حتَّى يُبلِّغه المَنْزلة التي سبقَتْ له منه)).

4 - أن يذهب لعيادة المريض ماشيًا، هذا إنْ لم يكن المريضُ بعيدًا؛ لِما في ذلك من الثَّواب.

5- يُستحَبُّ أن يقول الزائر: لا بأس عليك، طهورٌ إن شاء الله، كما كان يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل على مريضٍ يعوده، وقد رواه البخاريُّ.

6- استحباب وضع اليد على المريض ورُقْيته؛ فقد كان -صلى الله عليه وسلم- إذا عاد مريضًا، يقول: ((أذهِب الباس ربَّ النَّاس، اشفِه أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يُغادر سقمًا)).

7- تذكير المريض بوضع يده على موضع الألَم، والدُّعاء لنفسه؛ لقول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- لعثمانَ بنِ أبي العاص الثقفيِّ - رضي الله عنه - لما شكا إليه وجعًا يجِدُه في جسده منذ أسلم، فقال له: ((ضعْ يدَك على الذي تألَّمَ من جسدك، وقل: باسم الله، ثلاثًا، وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرتِه من شرِّ ما أجِدُ وأُحاذِر)) والحديث في "صحيح مسلم".

8- أن يهوِّن عليه من مرضه، وينفِّس له في أجَلِه، ويخبره عن أجر الرِّضا والاحتساب، وثواب الرِّضا بالقضاء.

9- استحباب سؤال أهل المريض عن حاله، وإظهار الاهتمام به، والنصح لهم وله، وأن تعرض مساعدتك لهم فيما تَقْدر عليه.

10- تطييب نفس المريض؛ ففي "صحيح سنن الترمذي" قال -صلى الله عليه وسلم- لرجلٍ عاده من وعَكٍ كان به: ((أبشِرْ؛ فإنَّ الله يقول: هي ناري أسلِّطُها على عبدي المذنِب؛ لتكون حظَّه من النار)).

11- استحباب طلب الدُّعاء من المريض؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم- في "صحيح سنن ابن ماجه": ((إذا دخلتَ على مريضٍ، فمُرْه أن يدعو لك؛ فإنَّ دعاءه كدعاء الملائكة)).

12- عدم إكراه المريض على الطعام، بل بالرِّفق واللِّين؛ لما في الحديث الحسن عند الترمذيِّ: ((لا تُكْرِهوا مرضاكم على الطعام؛ فإنَّ الله يطعمهم ويَسْقيهم)).

13- حثُّ المريض على التَّداوي إن كان لا يهتمُّ بصحته.

14- تخفيف العيادة وعدم تَكْرارها في اليوم، إلاَّ إذا رغب المريضُ في ذلك، والأفضل ما يحبُّه المريض؛ فإنْ أحَبَّ كثرةَ الاستئناس به، فهو كذلك، وإلاَّ فلا.

15- تذكيره بـ"لا إله إلا الله"، إن كان في حالة احتضار؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- في "صحيح مسلم": ((لقِّنوا موتاكم لا إله إلا الله)).

 

آداب الجنائز:

جديرٌ بمَن الموتُ مَصْرعه، والتُّرْب مضجعه، ومنكر ونكير جليساه، والقبر مقرُّه، وبطن الأرض مستقرُّه، والقيامة موعده، والجنة أو النار مورِدُه، ألاَّ يكون له فكرٌ إلا في الموت، ولا استعداد إلا لأجلِه، ولا تفكُّرٌ إلا فيه، وحقيقٌ بأن يعدَّ نفسه من الموتى، ويراها من أهل القبور.

 

يوم الجنائز، ما أحلاه من يومٍ للأبرار الصالحين! وما أهولَه من يوم على العصاة الفاسقين! فيا بْن الإسلام: ستَخْرج من بيتك في رحلةٍ لا ترجع بعدها أبدًا، وستركب مركبًا لن تركب مثله أبدًا، يومٌ تبكي فيه السماء على الأبرار، ويبكي عليه مَمْشاه من المسجد إلى الدَّار، ويبكي عليه مصعدُ عمله إلى السماء.

 

ومن آداب الجنائز:

1- الحرص على حضور الجنائز؛ لتحصيل القراريط، كما في "صحيح البخاري".

2- المُبادرة بتجهيز الميت؛ خوفَ تغيُّرِه؛ فإنَّه إذا تغيَّر نفرَتْ منه النُّفوس، فيحطُّ ذلك من كرامته؛ ولأنَّ إبقاءه بين أهله يؤلمهم، ويحملهم على كثرة البكاء والعويل.

3- لا يجوز النِّداء على الميت، أو الإعلان عن وفاته من على منائر المساجد؛ لما في "صحيح سنن التِّرمذي" عن حُذَيفة - رضي الله عنه -: "إذا متُّ، فلا تُؤْذِنوا بي؛ إنِّي أخاف أن يكون نعيًا؛ فإنِّي سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن النَّعي".

4- عدم رفع الصَّوت بالبكاء، فيحرم البكاء على الميْت إذا صاحَبَه نياحةٌ أو نَدْب، أو ضجر، أو شقُّ جيب، أو صراخ.

5- تكثير المشيِّعين للجنازة والمصلِّين عليها؛ فـ((ما من رجلٍ مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئًا، إلاَّ شفَّعهم الله فيه))؛ كما في "صحيح مسلم".

6- أن يحملها الرِّجال دون النساء.

7- الإسراع بالجنازة إسراعًا وسَطًا، بحيث لا يضطرب الميت على النَّعش، ولا يحصل منه مشقَّة على الحامل أو المشيع.

8- أن يمشي المشيع مع الجنازة، ويجوز المشي أمامها وخلفها، وعن يمينها ويسارها على أن يكون قريبًا منها؛ للحديث الصحيح في "سنن أبي داود": ((الرَّاكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها وأمامها، وعن يمينها وعن يسارها، قريبًا منها)).

9- ألاَّ تُتبَع الجنازة بما يخالف الشريعة الإسلامية؛ فلا يجوز رفع الصوت بالذِّكر أو البكاء، أو نار أو موسيقى، أو نحو ذلك مما لم يَرِد عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ولا أصحابه - رضي الله عنهم.

10- التدبُّر والخشوع أثناء تشييعها، ويكره رفع الصوت والضجة عند رفع الجنازة، ويسنُّ لمتبعها أن يكون متخشِّعًا متفكرًا في مآله، ويرجع متَّعِظًا بالموت، وبما يصير إليه الميت.

11- أن يثني عليه خيرًا إن كان أهلاً للثناء.

12- يسنُّ للذين يُدْخِلون الميتَ قبرَه أن يقولوا: بسم الله، وعلى سُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في "صحيح سنن أبي داود".

13- الإخلاص في الدعاء والاستغفار للميت.

14- تذكير الحاضرين والمشيِّعين بالموت وما بعده.

15- الطفل والسقط يغسل ويكفن ويُصلَّى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين، ويدعى لوالديه.

 

الوسيلة الرابعة والأربعون: تعزية المسلمين:

التعزية من الآداب الشرعية التي يجب على المسلم أن يهتمَّ بها؛ لما فيها من التعاطف والتحابِّ والتعاون على البِرِّ والتقوى، والإعانة على الصبر، والرضا بالقضاء والقدر، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، والحثِّ على الرجوع إلى الله -تعالى- ليحصل الأجر والثواب منه.

 

والتَّعزية من العزاء، وهو: الصَّبْر الحسَن، وهي تسلية المصاب وحثُّه على الصبر والرِّضا، والتعزيةُ مستحبَّة، ولها ثوابٌ عظيم من الربِّ الكريم؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البيهقي، وحسنه الألباني: ((من عزَّى أخاه المؤمن في مصيبةٍ، كساه الله حلَّة خضراء يُحبَر بها يوم القيامة))، وهذا الثواب يعني دخول الجنة؛ إذْ أهل النار - والعياذ بالله - لا يُكْسَون الحُلَل، بل هم تُقَطَّع لهم ثياب من نار، وسرابيل من قَطِران ونحوها - نسأل الله العفو والعافية بفضله ورحمته ومَنِّه.

 

والتعزية عقب الوفاة وفي اليوم الأول أفضل، وهي بعد الدفن أفضل منها قبله؛ لأنَّ أهل الميت يكونون في تجهيزه لدفنه، ولأنَّ وحشتَهم بعد الدفن أكثر؛ لفراقه، وتُكْرَه بعد فوات وقتها؛ لأنَّها ستجدِّد الأحزان، إلا أن يكون المعزِّي غائبًا.

 

ومن آداب التعزية:

1- التلفُّظ بالمأثور ما أمكن.

2- استحباب صنع الطعام لأهل الميت؛ لأنَّ ذلك من البِرِّ والإحسان وتقوية الصِّلات الإسلامية.

3- إظهار التأثُّر لمن يُواسيهم ويعزيهم؛ فيُظهر الحزن والخشوع؛ لِيُشعر أهل الميت أنه يواسيهم، والترحُّم على الميت، وإظهار الحزن عليه، وتعداد مآثره يكون أفضل.

4- النُّصح بالمعروف عند رؤية المنكر؛ فقد يُفاجَأ المعزِّي بوجود بدعٍ ومنكرات في المكان الذي تكون فيه التعزية، فالواجب أن يَصْدَع بالحقِّ، فلا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يمنعه هولُ المناسبة أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

5- لا يجوز إقامة السُّرادقات، والإتيان بالمقرئين المحترفين، والجلوس للعزاء؛ فإنَّ هذا بدعة مُحْدَثة في الدين، وهي من تضييع أموال الأيتام بغير حقٍّ.

 

الوسيلة الخامسة والأربعون: غسل الميت وتكفينه والستر عليه:

ففي الحديث المرفوع الذي رواه الطبرانيُّ وحسَّنه الألباني، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن غسَّل ميتًا فسترَه، سترَه الله من الذُّنوب، ومن كفَّنَه كساه الله من السُّندس))، وهذا الإكساء من السندس يفيد دخول الجنة.

 

وأخرج الحاكم في "المستدرَك" وصحَّحه الألباني، أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مَن غسَّل ميتًا فكتم عليه، غفر له أربعين مرة، ومن كفن ميتًا كساه الله من السندس وإستبرق الجنة، ومن حفر لميت قبرًا فأجنَّه فيه، أُجريَ له من الأجر كأجر مَسكنٍ أُسكِنَه إلى يوم القيامة)).

 

قال الشيخ العثيمين: "والذي يُرى من الميت من المكروهات نوعان: الأوَّل: ما يتعلق بحاله، والثاني: ما يتعلق بجسده، فأمَّا الأول: فلو رأى مثلاً من الميت تغيُّرَ وجهه، واسودَّ وقبح، فهذا - والعياذ بالله - دليلٌ على سوء خاتمته - نسأل الله العافية - فلا يحلُّ له أن يقول للناس: إنِّي رأيتُ هذا الرجل على هذه الصفة؛ لأن هذا كشفٌ لعيوبه، والرَّجل قَدم على ربِّه، وسوف يجازيه بما يستحقُّ من عدلٍ أو فضل.

 

والثاني: مما يتعلَّق بجسده؛ كأن يرى بجسده عيبًا؛ كأن يرى برَصًا، أو سوادًا خلقيًّا، أو غير ذلك مما يَكره الإنسان أن يطَّلِع عليه غيره، فهذا أيضًا لا يجوز له أن يكشفه للناس ويقول: رأيت فيه كذا وكذا.

 

ولهذا قال العلماء: يجب على الغاسل أن يستر ما رآه إن لم يكن حسنًا، أما إذا رأى خيرًا بالميت، ورأى استنارةَ وجهه، أو رآه يبتسم، فهذا خير، ولْيُخبِر به النَّاس؛ لأنه يجعل النَّاس يثنون عليه خيرًا، ولا بأس به، ولا يعد هذا من الرِّياء أو ما أشبه ذلك، بل يعدُّ هذا من عاجل بشرى المؤمن؛ لأنَّ المؤمن قد يكون له مبشِّرات، ومن هذا مثلاً أنه يُرى بعد موته على حالة حسنة، وكذلك يرى الرؤيا الحسنة لنفسه، أو يراها غيره، كل هذه من المبشرات التي تبشِّر بالخير؛ ولهذا قال العلماء: يكره لغير المعين في غسله أن يَحْضر غسله، حتَّى ولو كان قريبًا له؛ لأنَّه ربما يرى ما يكره، فيكون في ذلك إساءة إلى الميت، والله الموفق".

 

قلت: بالنسبة لكون تغيُّر وجه الميت من علامات سوء الخاتمة؛ قال الدكتور/ ياسر برهامي: لا أعلم دليلاً على أن تغيُّر وجه الميت من علامات سوء الخاتمة، وقد يكون تغير الوجه باحتقانٍ وزُرْقة بسبب بعض الأمراض كهبوط القلب الاحتقاني، وأحيانًا الصعق الكهربي، ويكون بياض الوجه بسبب بعض الأمراض أيضًا؛ كنقص الحديد في الدم، وقد رأيت بعض الكُفَّار الموتى وقد ابيضَّت وجوهُهم لونًا، أو نقول بالأحرى: أصبحت باهتة بسبب أمراضهم، كما رأيت بعض المسلمين الذين يظنُّ صلاحهم وقد تغيَّرَت وجوههم، فالله أعلم، ومردُّ علم الخاتمة إلى الله - عزَّ وجلَّ - ومن قال شيئًا من ذلك كعلامةٍ على الخاتمة، فعليه الدليل من الكتاب والسنة، وليس فقط من كلام المشايخ.

 

تنبيه: الحديث الذي عند ابن ماجه مرفوعًا: ((مَن غسَّل ميتًا وكفَّنه وحنَّطه وحمله، وصلَّى عليه، ولم يُفْشِ عليه ما رأى، خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمُّه)) قال الألباني: ضعيف جدًّا، فاحذر.

 

الوسيلة السادسة والأربعون: الصلاة على الميت واتِّباع الجنازة وزيارة القبور:

وهذا أمر غفل عنه أكثرنا، وربما لا نحضر الجنازة إلا مجاملة، إنَّه نظرًا إلى تعلُّق القلوب بالدنيا؛ فإنَّ أكثر النَّاس يكرهون ذِكْر الموت؛ حتى لا ينغِّص عليهم شهواتهم وملذاتهم؛ ولذلك نرى أكثر النَّاس يكرهون اتِّباع الجنائز وزيارة المقابر التي تُذكِّرهم بالآخرة، فيفوتهم بذلك ذكر الآخرة الذي يجعلهم يزهدون في الدنيا، بل ويفوتهم أيضًا هذا الأجر الوفير الذي أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن شهد الجنازة حتى يُصلَّى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تُدفن فله قيراطان))، قيل: وما القيراط؟ قال: ((مِثل الجبلين العظيمين))، وهو في "الصحيحين".

 

لكنِّي أحبُّ أن أنبِّه هنا على مسألة النِّية؛ لتحصيل هذا الأجر العظيم؛ ذلك أنَّ كثيرًا من النَّاس - وللأسف - يشهدون الجنائز مجاملةً لآل الميت، وليس من أجل الله وثوابه، وهذه طامَّة كبرى تضيع عليهم الكثير من الأُجور في حياتهم، فينبغي تحسين النِّية في هذه المسألة وفي الحياة كلِّها، وينبغي كذلك على كلِّ مَن يتصدَّى لبيان الأحكام الشرعيَّة ووعظ النَّاس أن يبيِّن لهم هذه المسائل، وأن يؤكِّد على قضيَّة النية والاحتساب؛ ففي الصحيحين: ((إنَّما الأعمال بالنيات، وإنَّما لكل امرئٍ ما نوى)).

 

• وينبغي أيضًا على كلِّ مسلم يسعى في صلاح نفسه، وفكاك رقبته وعتقها من النَّار - أن يُكثر من ذِكْر الموت، وأن يُقَصِّر أمله، وهذه من الأمور التي غابت عن قلوب وألسِنَة كثيرٍ من المسلمين، مع أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أوصانا بكثرة ذِكْر الموت؛ فقال - كما عند الترمذي والنَّسائي، وصحَّحه الألباني -: ((أكثِروا من ذكر هاذم اللذَّات))؛ يعني: الموت، وروى أحمد والتِّرمذي وحسَّنه الألبانيُّ عن أُبَيِّ بن كعب أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا ذهب ثلث اللَّيل، قام فقال: ((يا أيها النَّاس، اذكروا الله، جاءت الرَّاجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه))، وعند مسلمٍ وأحمد والحاكم، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((كنت نهيتُكم عن زيارة القبور، فزوروها)) وفي رواية: ((فمن أراد أن يزور القبور فلْيَزُر؛ فإنَّها تذكِّرنا بالآخرة))، وروى مسلمٌ وغيره: ((فزُوروا القبور؛ فإنَّها تذكِّر الموت)) وفي الحديث الصحيح في "المسند": ((إنِّي نهيتكم عن زيارة القبور، ثم بدا لي أنها تُرِقُّ القلب، وتُدمِع العين، وتُذكِّر الآخرة، فزوروها، فإن زُرْتموها، فلا تقولوا هُجرًا)).

 

أخي يا بن الإسلام، لا بدَّ من الاهتمام بأمر الآخرة؛ ففي هذا الزمان الذي انتشرت فيه الشُّبهات والشَّهوات، وانصرف فيه كثيرٌ من النَّاس عن طاعة رب الأرض والسموات، لا بدَّ من وقفة صادقة قبل أن تأتيهم الساعة بغتة ﴿ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [يس: 49 - 50].

 

لقد غاب ذِكْر الآخرة عن قلوب أكثر النَّاس، فتاهوا في دروب الحياة المتشابكة، وتنافَسوا فيها، فخسروا دُنياهم وأُخْراهم؛ ولذلك جاءت وصية النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بأن نجعل الآخرة هَمَّنا؛ لنفوز في الدُّنيا والآخرة، فقال - كما روى الترمذيُّ وصححه الألباني -: ((مَن كانت الآخرة هَمَّه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شملَه، وأتَتْه الدُّنيا وهي راغمة، ومَن كانت الدنيا همه جعل الله فَقْرَه بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له)).

 

• يُكرَه للنِّساء الإكثارُ من زيارة القبور، وإنما لو زارت مرَّةً أحد أقاربها فإنَّه لا يحرم، بشرط الالتزام بالآداب الشرعيَّة؛ مثل: التستُّر، وعدم التعطُّر، وعدم مخالطة الرِّجال الأجانب، وعدم النياحة، وغير ذلك من الآداب التي شرعت للنِّساء.

 

آداب زيارة القبور:

القبور بيوت الغُربة، بيوت الوحشة، بيوت الوحدة، كلُّ قبر ينادي صاحبه في كلِّ يوم، ونحن لاهون غافلون، إنَّ في رؤية القبر زيادةً في الشعور بقيمة الحياة.

 

قال بعض السَّلف: لابنِ آدم بيتان؛ بيتٌ على ظهر الأرض، وبيت في بطن الأرض، فقصَدَ إلى الذي على الأرض فزخرَفَه وزيَّنه، وجعل فيه أبوابًا، وصنع فيه ما يصلح لشتائه وصيفه، ثم عمد إلى الذي في بطن الأرض فخرَّبه، فأتى عليه آتٍ فقال: أرأيت هذا الذي أراك قد أصلحتَه، كم تقيم فيه؟ قال: لا أدري، قال: فالذي خربته كم تقيم فيه؟ قال: فيه مقامي، قال: تقرُّ بهذا على نفسك وأنت رجلٌ تعقل؟!

 

يا أهل القبور، يا أهل القبور، يا أهل الديار الموحشة، والمَحالِّ المقفرة، يا أهل التُّربة، يا أهل الغربة، أنتم لنا فرَطٌ سابق، ونحن لكم تبعٌ لاحق، أما الدُّور فقد سُكنت، وأما الأزواج فقد نُكحت، وأما الأموال فقد قُسمت، هذا خبَرُ ما عندنا، فما خبر ما عندكم؟ نسأل الله لنا ولكم العافية، اللَّهم ارحمنا إذا صِرْنا إلى ما صاروا إليه.

 

ومن آداب زيارة القبور:

1- أن يخرج الزائر متواضعًا مراقبًا لله -تعالى- لأنَّ هذا مقامٌ يقتضي التواضع.

2- ألاَّ يخرج مختالاً فخورًا معجبًا بنفسه، فكيف يفرح مَن الموت بين يديه؟ وكيف يعجب مَن يعاين الآخرة بين عينيه؟!

3- أن يسلِّم على أهل القبور: "السَّلام عليكم دارَ قومٍ مؤمنين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون"؛ كما روى مسلم.

4- ألاَّ يجلس فوق القبر ولا يَضْطجع عليه؛ لما في "صحيح مسلم" من قول النبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: ((لأن يجلس أحدُكم على جمرة، فتحرق ثيابَه، فتخلص إلى جلده - خيرٌ له من أن يجلس على قبر)).

5- يستحبُّ للزائر أن يَدْنو من قبر المَزُور، ولا يُسَنُّ له استلامُ القبور وتقبيلها كما يفعل بعض النَّاس؛ فإنَّ كل ذلك بدعة لا أصل لها.

6- الدعاء للميت.

7- عدم المبيت عند القبر أو البناء عليه كما يفعل أهل البدع.

8- عدم إيقاد الشُّموع والسُّرج وغيرها فوق القبر؛ لِلَعْن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مَن فعل ذلك في "صحيح سنن الترمذي".

9- عدم سبِّ الأموات؛ لحديث البخاري: ((لا تسبُّوا الأموات؛ فإنَّهم قد أفضَوْا إلى ما قدَّموا)).

10- البعد عن المخالفات الشرعية للزيارة.

11- عدم الاعتقاد في قبور الصالحين والأولياء أنَّها تنفع أو تضرُّ، أو تَقُرِّب إلى الله -تعالى- أو تقضي الحوائج، ولا يجوز الطواف بها؛ فكلُّ ذلك شركٌ يجب الاحتراز منه.

 

الوسيلة السابعة والأربعون: الصبر مع الاحتساب:

قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاريُّ: ((ما يُصيب المسلمَ من نصبٍ ولا وَصَبٍ ولا همٍّ ولا حزنٍ ولا أذًى ولا غمٍّ، حتى الشوكة يُشاكها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه))، فضَعْ هذا الحديث نصب عينيك في كل حياتك؛ يُهوِّنْ عليك كلَّ ما يصيبك، والله المستعان.

 

• من مات صديقه أو قريبه فاحتسبَه عند الله -تعالى- وهذه المسألة ترجم لها الحافظ الدمياطيُّ في كتابه: "المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح"؛ حيث قال في الحديث الآتي: "ثواب مَن مات صديقه أو قريبه، فاحتسبه عند الله"، والحديث في "صحيح البخاري": أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يقول الله -تعالى-: ما لِعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضتُ صَفِيَّه من أهل الدنيا، ثم احتسبَه، إلا الجنَّة))، والصفيُّ يدخل في عمومه أصولُ الرجل وفروعه، ومَن عداهم من الأصدقاء والرُّفقاء والأَتْراب والمقرَّبين منه.

 

تنبيه: أما فَقْد الولد - وهو أشدُّ صورِ فقْدِ الصفيِّ - فثوابه أكبر، حيث يُبنى لمن احتسب ولدَه بيتٌ في الجنَّة، يسمَّى "بيت الحمد"، كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذيُّ وأحمد وحسَّنه الألباني، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا مات ولَدُ العبد، قال الله لملائكته: قبضتُم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرةَ فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حَمِدَك واسترجَع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنَّة، وسَمُّوه بيت الحمد))، ويكفي في الصبر فضلاً قولُ النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((وما أُعطي أحدٌ عطاء خيرًا ولا أوسع من الصبر))، والحديث في "الصحيحين".

 

الوسيلة الثامنة والأربعون: الحب في الله:

وهو عملٌ قلبي متعلِّق بالإيمان، وهو يسيرٌ، لا يخلو منه قلبُ المؤمن الذي يألف ويُؤْلَف، وينجذب للمؤمنين من عباد الله المسلمين، فيقرِّبه الله منه، ويظلُّه بظلِّه، ويجعله مع من أحبَّ من عباده الصالحين؛ ففي الحديث الصحيح الذي رواه النَّسائيُّ، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إن حول العرش منابِرَ من نور، عليها قوم لباسهم نور، ووجوههم نور، ليسوا بأنبياء ولا شُهَداء، يغبطهم النبيُّون والشُّهداء))، قالوا: يا رسول الله، صِفْهم لنا؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((المتحابُّون في الله، والمتجالِسون في الله، والمتزاورون في الله)).

 

وروى مالكٌ وأحمد وصحَّحه الألباني: ((قال الله -تعالى-: وجبَتْ محبتي للمتحابين فِيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاروين فيَّ، والمتباذلين فيَّ))، وقال -صلى الله عليه وسلم- كما في "صحيح مسلم": ((إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابُّون بجلالي؟ اليوم أظلُّهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي))، وفي الحديث المتفق عليه في السبعة الذين يظلهم الله في ظلِّه يوم لا ظل إلا ظله: ((رَجُلان تحابَّا في الله؛ اجتمعا عليه، وتفرَّقا عليه))، وعند الطبراني وأبي يعلى والبيهقيِّ وقال الألباني: حسن صحيح، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((ما تحابَّ رجلان في الله إلا كان أحَبَّهما إلى الله أشدُّهما حبًّا لصاحبه))، وفي "الصحيحين" أن رجلاً جاء إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، كيف تقول في رجلٍ أحبَّ قومًا ولم يَلْحَق بهم؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((المرء مع مَن أحب))، فاللَّهم إنِّي أشهدك أني أحبُّ رسولك وصحابته، فاحشرني معهم وإن لم أعمل مثل أعمالهم.

 

وهذه - والله - بُشْرى - أخي يا بن الإسلام - لكلِّ إنسان أنه إذا أحب قومًا صار معهم، وإن قصر به عمَلُه، فإنَّه يكون معهم في الجنَّة، ويجمعه الله معهم في الحشر، وهذا يدلُّ على وجوب أن يكره المسلمُ الكُفَّار، وأن يعلم أنَّهم أعداء له مهما أبدَوا من الصداقة والمودة والمحبَّة، فإنهم لن يتقرَّبوا إليك إلا لمصلحة أنفسهم ومضرتك - إنْ عاجلاً أو آجلاً - أما أن يتقربوا إليك لمصلحتك، فهذا شيء بعيد، وإن كان يمكن أن نجمع بين الماء والنَّار، فيمكن أن نجمع بين محبة الكفار لنا وعداوتنا لهم.

 

وفي "صحيح مسلمٍ" قال -صلى الله عليه وسلم-: ((فمَن أحبَّ أن يُزحزَح عن النار ويَدْخُل الجنة، فلْتَأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى النَّاس الذي يحبُّ أن يؤتى إليه)).

 

وفي "مسند أحمد" وصحَّحه الألباني عن يزيدَ بن أسد القشيريِّ قال: قال لي رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أتحبُّ الجنة؟))، قلت: نعم، قال: ((فأحِبَّ لأخيك ما تحب لنفسك)).

 

فائدة مهمة:

اعلم - أخي يا بن الإسلام - أن التحابَّ في الله -تعالى- يتطلب أمورًا لا يصلح التحابُّ بدونها، ولا يؤتي ثماره ولا يحقق ثوابه بفقدها، ومنها:

1- أن يكون الحبُّ خالصًا لله -تعالى- لا لطلب دنيا أو منفعة، فالمرء يحبُّ الله -تعالى- ويحب ما يحبُّه الله في عباده، ويحب مِن عباده مَن هو على طاعة الله -تعالى- أما المَحبَّة للغير لمصلحة دنيويَّة أو منفعة، فلا تجدي، ومحبة الغير على ما فيه من مخالفة لأحكام الدِّين باقتراف المنكرات وترك الواجبات، ليست من الحب في الله، فتنبَّه.

 

2- أن يكون التلاقي بين المتحابَّيْن في طاعة الله -تعالى- وعلى ما يحبُّه، فلا تتضمَّن - ولا يصحبها - ما فيه معصية لله -تعالى- أو خروجٌ عما يحبُّه ويرضاه، فهو تلاقٍ لا يخلو من ذِكْر الله -تعالى- بطاعته وتجنُّب معاصيه، وإلا فهو ينافي التحابَّ في الله - تعالى.

 

3- أن يراعي كلٌّ مِن المتحابَّيْن واجبات الأخوَّة في الله -تعالى- ويؤدي في ذلك حقوقَ أخيه عليه ما أمكنه ذلك، ومن هذه الحقوق والواجبات على سبيل المثال والإيجاز:

• أن يحب لأخيه ما يحبُّه لنفسه، ويكره له ما يكرهه لنفسه؛ ففي الصحيحين مرفوعًا: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّه لنفسه)) وتمام ذلك أن يُخالِقَه بخلقٍ حسن ما استطاع.

• أن يقف بجانبه في الشدائد والأزمات، ويستر عوراته، وينفِّس عنه كرباته، ويسعى في قضاء حاجاته، ويصون عرضه، ويدفع عنه الظُّلم، ويرد غيبته عند مَن ينتقص منه.

• أن يتواضع له ولا يتكبَّر عليه.

• أن يشركه في صالح دعائه، خاصَّة إذا احتاج إلى الدُّعاء، وفي الحديث المرفوع: ((ما من عبدٍ مُسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب، إلاَّ قال الملَكُ: ولك بمثل)).

• أن يشكره إذا أحسن إليه، وأن يكافئه على إحسانه، ولو بالدعاء له، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: ((من صُنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرًا، فقد أبلغ في الثَّناء)) كما روى الترمذيُّ، وقال الألباني: حسن جيِّد غريب.

• أن يؤدِّي حقوق الإسلام عليه تجاه أخيه، ومنها: أن يسلِّم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، ويشمته إذا عطس وحَمِدَ الله، ويعوده إذا مرض، ويبرَّ قسمه إذا أقسم عليه، وينصحه إذا طلب النصيحة؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم- كما في "صحيح مسلم": ((حقُّ المسلم على المسلم ست))، قيل: ما هُنَّ يا رسول الله؟ قال: ((إذا لقيتَه فسلِّم عليه، وإذا دعاك فأجِبْه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمِّتْه، وإذا مرض فعُدْه، وإذا مات فاتبعه)).

• أن يعفو عن زلاَّته، ويتغاضى عن هفواته، ويحسن الظنَّ به، فإن وجده على معصيةٍ، نصح وأنكر عليه، وإن لم يتب منها وينقطع عنها، يواصل وعْظَه؛ رجاء أن يتوب ويقلع، فلا يُهادنه ولا يقاطعه؛ وقد قال أبو الدَّرداء - رضي الله عنه -: "إذا تغيَّر أخوك وحال عمَّا كان عليه، فلا تدَعْه لأجل ذلك؛ فإنَّ أخاك يعوجُّ مرَّة، ويستقيم أخرى".

• ألاَّ يكلِّفه ما يشقُّ عليه، وألاّ يحمله ما لا يرتاح معه، ولا يجعله يتكلَّف له، فيبتعد عن التكلُّف والتحفظ، ويعمد إلى التبسُّط؛ قال بعض الصالحين: "من سقطَتْ كلفته، دامت ألفته، ومن خفَّت مؤنته، دامت مودَّته"، وتمام سقوط الكلفة أن يأكل معه في بيته، ويصلِّي وينام عنده، ويدخل الخلاء عنده، فيقع الأنسُ وتزول الوحشة، ويتأكَّد الانبساط بذلك.

• الرحمة والتَّعاطف والتوادُّ والتماسك.

• المعانقة عند القدوم من سفرٍ أو طول غياب، أما المعانقة من غير سفر ولا طول غياب، فلم تكن مِن هَدْيِ الصحابة.

• تفقُّد الغائب وتفقد أحوال المسلمين والسؤال عنهم.

• إغاثة الملهوف.

• التهنئة عند الفرح، مع الفرح لفرحه، والتعزية عند المصيبة، مع الحُزن لِحُزنه.

• الشفاعة فيه عند ذوي السلطان.

• السَّلامة من لسانك ويدك.

• ستر عورته الظاهرة؛ البدن، والباطنة؛ العيوب والذُّنوب.

• بَذْل الفضل لهم.

• حفظه إذا غاب في أهله وماله.

• إذا أحب أحدًا، فلْيُخبِرْه أنه يحبه.

• الإيثار على النفس ولو مع الخصاصة.

• نَشْد الضالَّة حتى يجدها صاحبها، أو يمرَّ حول على تعريفها.

• نصر الأخ ظالِمًا؛ بمنعه من ظلمه، أو مظلومًا؛ بِرَفع الظُّلم عنه.

• العفو والصَّفح عن الزلات وقبول المعذرة.

• مداعبة صبيانه وبناته الصِّغار، والمزاح معهم بغير تفريطٍ أو كذب.

• رحمة الصغير واحترام الكبير أو العالِم.

• مراعاة راحته في بيته؛ بالتأدُّب بآداب الاستئذان والجلوس والزيارة والضيافة.

 

قال -صلى الله عليه وسلم-: ((أوثَقُ عُرَى الإسلام الحبُّ في الله والبغض في الله))، وقال: ((مَن أحبَّ في الله، وأبغض في الله، وأعطي لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)).

 

ومسألة الحب في الله والبغض في الله من المسائل الهامَّة التي تتعلق بقضايا الولاء والبَراء، فحاول - أخي يا بن الإسلام - أن تكون فيها على منهج أهل السُّنة، لا على منهج أهل التفرُّق والبدعة، والله الموفِّق.

 

تحقيق الأخوة والصحبة قولاً وفعلاً:

أخوك: مَن خالفَك على الهوى، وأعانك على الحقِّ، وإن خالف هواك، أخوك: من وافق سرُّه علانيتَه، فالصِّدق عنوانه، والعدل شيمته، أخوك: إذا صدَّ عنك أقبلتَ عليه، وإذا بعُد عنك تدانيتَ منه، وإذا حرمك بذلتَ له.

 

يا من تُعانون الأحزان، وتقاسون المِحَن والأشجان؛ إخوانكم جلاء أحزانكم، تمتَّعوا بلذَّة الحبِّ في الله، وتواصَوْا بوصية الفاروق - رضي الله عنه - حين قال: جالسوا التوَّابين؛ فإنهم أرقُّ أفئدة، فعِشِ الأخوَّة بالبشاشة، والبسمة اللطيفة، وطلاقة الوجه، وانفراج الأسارير.

 

إن التَّآلف بين النَّاس يقع حسب توافق الطِّباع والأخلاق؛ فأهل الخير يتآلفون مع بعضهم، وكذلك أهل الشر يفعلون، قال -صلى الله عليه وسلم- في "صحيح البخاري": ((الأرواح جنود مجنَّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكرَ منها اختلف))، ثم إنك ترى دائمًا أنَّ أهل الحقِّ والتقوى والصلاح ينفرون من مجالسة أو مصاحبة أهل الفسوق والفجور، والعكس صحيح أيضًا.

 

واعلم - يا بن الإسلام، هداني الله وإياك - أنه لا يُشترط في التآلف توافقُ وتطابق جميع الطِّباع عند المتآلفين، وإنما التَّطابق يكون بتشابه غالب طباع وأخلاق المتآلفين.

 

والأخ لأخيه أشدُّ الْتصاقًا من الكفِّ بالمعصم، ولا خير في الكف المقطوعة ولا خير في الساعد الأجزم، إذا فُزْتَ بأخٍ في الله فتمسَّكْ به؛ فلعلَّ أخَا إخاءٍ خيرٌ من أشقَّاء ولادة.

 

ومن الأدب مع إخوانك في الله:

1- أن تحب لأخيك ما تحبُّ لنفسك، وأن تكره له ما تكره لها بصدقٍ وإخلاص.

2- الحبُّ في الله لا يزيد بالبِرِّ، ولا ينقص بالجفاء، بل الأصل: ((صِلْ من قطعك، وأعط مَن حرَمَك، واعْفُ عمَّن ظلمك)) كما في الحديث الصحيح في "المسند"؛ ولذلك شرطه أن يكون لله وفي الله.

3- حسن الخلق أصلٌ في التعامل مع الخلق.

4- لا تصاحب إلاَّ من يوثق في دينه وأمانته في ظاهره وباطنه، فلا فائدة في صحبة الفاسق المصرِّ على فسقه؛ لأنَّ مَن خاف الله -تعالى- لا يصرُّ على كبيرة، ومن لا يخاف الله -تعالى- لا تؤمن غائلته، ولا يوثق بصداقته، بل يتغيَّر بتغيُّر الأغراض، فـ"لا تأمنن فاسقًا؛ فإنَّ من خان أوَّل مَن أنعم عليه لا يفي لك"؛ كما قال الإمام الشافعيُّ - رحمه الله.

5- الصفح عن عثرات الإخوان؛ فلا بدَّ من وقوع العثرات، والإنسان ليس معصومًا؛ وقد أوصى ربُّنا بذلك.

6- تجنُّب عِشْرة طلاَّب الدنيا، وليجتهد الإنسانُ في معاشرة أهل الخير، ومن يدلُّه على طلب الآخرة، فعليك بصحبة من تسلم منه في ظاهر أمرك، وتدلُّك على الخير صُحبتُه، وتذكرك رؤيتُه بالله - تعالى.

7- ملازمة الحياء في كلِّ حال؛ فالحياء كلُّه خير.

8- بشاشة الوجه، ولطف اللِّسان، وسعة القلب - من أصول العشرة الطيِّبة.

9- لا تَعِدْ أخاك وعدًا ثم تُخْلِفه؛ فإنَّ ذلك من صفات المنافقين، كما في "صحيح البخاري"، وقال بعض السَّلف: أمران لا يسلمان من الكذب: شدَّة الاعتذار، وكثرة المواعيد، فاجتهد ألا تكثر وعودك، وإن وعدتَ، فاحرص على الوفاء بالوعد.

10- ارحم أخاك، واقبل عذره، فالواجب على العاقل إذا اعتذر إليه أخوه - لِجُرمٍ مضى، أو لتقصيرٍ سبَق - أن يقبل عذره، ويجعلَه كمن لم يذنب، ويستره ولا يتحدَّث بما حدث بينهما؛ فـ((من سترَ مسلِمًا ستره الله يوم القيامة)) كما في البخاري، و: ((من اعتذر إلى أخيه المسلم من شيءٍ بلغَه عنه فلم يَقْبل عذره، لم يَرِد عليَّ الحوض)) كما روى البيهقيُّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد قيل: ينبغي أن تستنبط لزلَّة أخيك سبعين عذرًا، فإن لم يقبله قلبك، فرُدَّ اللَّوم على نفسك، فتقول لقلبك: ما أقساك! يعتذر إليك أخوك سبعين عذرًا فلا تقبله؛ فأنت المعيب لا أخوك.

11- القيام بالخدمة وقضاء حوائج الأصحاب.

12- زيارتهم في الله، والسُّؤال عن أحوالهم؛ فإنَّ ذلك يجلب حبَّ الله -تعالى- لك.

13- احفَظْ غيبة أخيك ورُدَّ عنه، واحرص ألاَّ تجلس في مجلس يُنتقص فيه من أعراض المسلمين، ورُدَّ عنهم ما استطعت، وإلا فقُم.

14- ستر عيوب الصديق، وإظهار الجميل؛ فستر العيوب والتَّغافل عنها شيمةُ أهل الدِّين، فما بالك تسمع الكلمة في أخيك فتزيد عليها، وتشيعها بأعظم منها؟! قالوا: المؤمن يطلب معاذيرَ إخوانه، والمنافق يطلب عثراتِهم.

15- احتمال الأذى والعفو، وقلَّة الغضب.

16- حفظ المودَّة القديمة والأُخوَّة والوفاء، وحفظ الجميل لمن أحسنَ إليك، قال بعض السلف: "عاشروا النَّاس مُعاشرةً؛ إن غبتُم حَنُّوا إليكم، وإن متُّم بكوا عليكم"، فعليك بالوفاء والإخلاص والثَّبات على الحب وإدامته إلى الموت معه، وبعد الموت مع أولاده وأصدقائه؛ فإن الحبَّ إنما يُراد للآخرة، قال الشافعي - رحمه الله -: الحرُّ مَن راعى وداد لحظة، ولا ينسى جميلَ مَن أفاده لفظة.

17- مجانبة الحقد والحسد؛ فلا تحسد إخوانك على ما ترى عليهم من النِّعم، بل ينبغي أن تفرح لذلك، وتحمد الله على ما تراه من النعمة عليهم.

18- الدُّعاء للأخ في حياته وبعد مماته.

19- التواضع للإخوان، وترك التكبُّر عليهم.

20- حفظ أسرار الإخوان؛ قال -صلى الله عليه وسلم- في "صحيح سنن الترمذي": ((إذا حدَّث الرجل بالحديث ثم التفتَ، فهي أمانة)).

21- النُّصح؛ فهو الدين كما في "صحيح مسلم"، وهو من حقوق المسلم عمومًا؛ كما في "صحيح مسلم" أيضًا، وقد أخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- من جريرٍ - رضي الله عنه - البيعة عليه، كما في "صحيح البخاري".

22- أن يشارك إخوانه في المكروه كما يشاركهم في المحبوب.

23- ألا يمنَّ بمعروفه على من يحسن إليه، بل يستصغره ويُعظم حقَّ الأخوة.

24- ألا يقبل على إخوانه مقالة واشٍ ولا نمَّام، وقد قال بعض السلف: مَن نَمَّ لك، نَمَّ عليك، ومن أخبرك خبرَ غيرِك، أخبر عنك غيرَك بخبرِك.

25- حسن الظنِّ وقبول الظاهر؛ فينبغي أن يكون المسلمُ سليمَ الصَّدر؛ لا تفتِّش ولا تبحث، ولا تتبع عورة أخيك.

26- استعمال الرحمة والرِّفق، وخفض الجناح، فتحتاج يا بن الإسلام أن تضع يدك على من يعنِّفك حين تدعوه، وتقول له: اللهم اشرح صدره، واهْدِ قلبه، وأصلح حاله، ويسِّر أمره، واعف عنه.

27- الإصلاح بين أخويك المتخاصمين.

28- لا تنافس أخاك إلا في عمل الخير؛ قال الحسن - رحمه الله -: من نافسَك في دينك فنافِسْه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره، وقال أيضًا: إذا رأيت الرجل ينافسك في الدُّنيا، فنافسه في الآخرة.

29- أن تؤثر أخاك على نفسك، ولكن بما لا يشغلك عن طاعة الله -تعالى- أو يجرُّك إلى معصيته - سبحانه.

محمود العشري

كاتب له عدد من الكتابات في المواقع الإسلامية

  • 18
  • 5
  • 186,439
المقال السابق
(27) حسن الخلق
المقال التالي
(29) التفريج عن المسلم، والتيسير عليه، وستره وعونه

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً